باب الحارة4فانتازياالإسقاط السياسي والتضحيةبمصداقيةالبيئةوالتاريخ

16-09-2009

باب الحارة4فانتازياالإسقاط السياسي والتضحيةبمصداقيةالبيئةوالتاريخ

يطرح الجزء الرابع من مسلسل (باب الحارة) مشكلة عضوية في بنية حدثه المحوري، فالمسلسل اكتسب شهرته في الأساس من أنه انطلق من أرضية اجتماعية ملتصقة ببيئة وتاريخ الشام الشعبي على الأقل، وكان هاجس توثيق نكهة وتقاليد الزمان والمكان والناس البسطاء ركيزة أساسية من ركائز نجاح هذا العمل التلفزيوني، لكن حين يأتي صناع العمل في الجزء الرابع، ليتحدثوا عن حصار فرنسي محكم لإحدى حارات الشام في سعي واضح ومقصود للإسقاط على حصار غزة... فإن هذا الحدث (المفبرك) بما يتنافى وتاريخ دمشق وجغرافيتها، يبدو أقرب إلى التخيل الفانتازي... وهكذا فلا يمكن أن يجتمع الحدث الفانتازي مع عمل مبني على هاجس توثيق زمان ومكان وبيئة لها ملامح شديدة العراقة كبيئة دمشق التي حفظت مئات الكتب التي صدرت عنها عبر التاريخ كل ما فيها من جماليات ومزايا وأحداث وكوارث وحروب وتغييرات وحب وحنين.مشهد من باب الحارة الجزء الثالث

* حصار مع سبق الإصرار!

وبعيداً عن هذا الخلل الجوهري في تركيبة الحدث بما يتناسب مع بنية المسلسل، فثمة خلل فاضح أكبر في طبيعة هذا الحدث، فدمشق مثلها مثل أي مدينة عربية قديمة، لا يمكن حصار حارة من حاراتها على النحو الذي قدمه المسلسل في تصوير حصار الجيش الفرنسي لحارة الضبع، ففي دمشق القديمة التي كانت حتى سبعينيات القرن العشرين، تتجاور وتتداخل بيوتها وسطوحها لدرجة أنك تستطيع أن تقطع معظم المدينة القديمة عبر التنقل فوق الأسطح... وكلنا يعلم الحادثة التاريخية الشهيرة التي تمت فيها محاولة اغتيال الجنرال الفرنسي ساراي الذي كان يقيم في قصر العظم، من خلال تسلل الثوار إلى القصر عبر أسطح المنازل المحيطة به... وهكذا فإنه من غير المعقول عزل حارة على هذا النحو... إلا إذا كان الكاتب والمخرج لا يعرفان الشام، أو أنهما يعرفانها ويريدان فبركة القصة بأي شكل وبلا أي منطق. طبعاً حاول الكاتب كمال مرة كاتب هذا الجزء من (باب الحارة) أن يعالج هذه الثغرة بالقول إن الجنود الفرنسيين انتشروا على أسطح بعض البيوت لمنع التسلل والخروج من الحارة أو الدخول إليها عبر تلك الأسطح... لكن هذا التبرير خلق فجوة أكبر... فوجود الجنود على أسطح المنازل، يعني رؤية ومراقبة ساكنيها في البيوت، لأن هذه الأسطح غالباً ما تطل على باحات الدور الداخلية، وفي هذه الحال يمكن أن (يصل الدم إلى الركب) كما يقول المثل الشعبي... فلا يمكن لأهالي أي حارة دمشقية في ذلك الزمان، أن يقبلوا بأن تكشف نساؤهم على الجنود الفرنسيين حتى لو كانت هناك حالة حرب وحصار.. فما بالكم إذا كانت هذه الحارة تعرّف على نفسها بالقول: (يللي بدو يتحدى هيْ الحارة من قدها؟!)
ويمضي المسلسل عبر حدث افتراضي غير منطقي، وغير منسجم مع معطيات التاريخ والجغرافيا، ليقول ما يحلو له بلا أي ضابط... فلم يعرف عن الفرنسيين أنهم كان يهدمون بيوت من يتعاونون مع الثوار كما يفعل الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، ومن المعيب فعلاً أن يتم (الافتراء) على التاريخ من أجل إسقاط بأي شكل... صحيح أن الفرنسيين قصفوا مدينة دمشق عام 1925 رداً على اندلاع الثورة السورية التي اشتعلت ضدهم وهو ما أدى إلى احتراق حي (سيدي عامود) الذي ظل يعرف باسم (الحريقة)، لكن شتان بين القصف العشوائي الذي يقوم به أي محتل، وبين استهداف بيت امرأة عجوز على النحو الذي قدمته فانتازيا (باب الحارة -4) ومن الغريب أن المسلسل يأتي على ذكر هذه الحادثة عرضاً لكن مع ذكر اسم الحي خطأ (سيدي عامودا) بدلا من (سيدي عامود)، في حين كان يمكن أن يسلط الضوء عليها لمناقشة منطق المحتل عبر حدث تاريخي مثبت ويستحق الاستقراء في السياق!!

* أنفاق مفتعلة ودبابات في قلب الحارات!

ويجهد المسلسل في حفر الأنفاق كي يحاكي حصار غزة كما يحلو له، ويستغرق في الحدث البطولي المقاوم، دون أي إقناع... ولا أدري حقاً ما هي الحارة الدمشقية التي تسمح أزقتها بدخول دبابة في ثلاثينيات القرن العشرين... صحيح أن الفرنسيين شقوا العديد من الشوارع لأسباب تتعلق بتأمين مواصلات قواتهم كشارع بغداد الذي شق عام 1925 لربط المدينة بغوطتها، ولتأمين تنقل القوات الفرنسية بين المدينة وبساتين الغوطة التي كان يعتصم بها الثوار، ولتسهيل ارتباط هذه القوات بالمستشفى الفرنسي العسكري في حي القصاع... لكن اقتصر دور هذا الشارع وغيره على الوصول إلى مشارف الغوطة، أو تأمين الحركة حول المدينة القديمة وفي أحيائها الحديثة، وليس دق أبواب الحارات على النحو الذي رأيناه!
إذن نحن أمام حدث افتراضي ينافي معطيات المدينة جغرافياً، ونحن أمام تفاصيل أخرى تنافي منطق القوة والتوازن... فكيف يمكن لفرنسا أن تبقى في سورية لمدة ربع قرن، وأن تقمع ثورة اشتعلت في عدد من المدن السورية لمدة عامين متواصلين، وهي عاجزة عن اقتحام حارة بأي شكل من الأشكال، ناهيك عن الضعف الفني الذي رأيناه في معركة اقتحام حارة الضبع الفاشلة، حيث تحسم المعركة بدقائق معدودة، من دون أي بناء فني يراعي الزمن الدرامي لمعركة تمتلك حداً أدنى من تفاصيل الصراع والتصاعد وحيل الإقناع.

* بطولات نسائية لإرضاء المنتقدين!

وعدا عن هذا كله، يعاني الجزء الرابع من (باب الحارة) من خلل واضح في الكتابة، التي همشت الجانب الاجتماعي الذي صنع هوية المسلسل في أجزائه السابقة باعتباره دراما شعبية، من أجل طرح مقولات وإسقاطات غير مدروسة جيداً... وبسبب اشتعال أحداث (الصراع المسلح) تحول النسيج الاجتماعي الشعبي إلى خلفية باهتة وباردة... فبدا هذا التحول مقحماً ومفتعلا وغير قادر على تقديم دراما شعبية تبقى أمينة لمضامينها وتوجهها... وحتى انعكاس الحصار على طعام وشراب أهل الحارة افتقر إلى التأزم المطلوب الذي يمكن أن يشكل صورة صادمة للمشاعر، فالأنفاق في أي حالة حصار، لا يمكن أن تؤمن إلا المستلزمات الضرورية، وهنا كان يجب التركيز على دور (بيت المونة) الدمشقي بشكل أكبر، وعلى الخصوصية النسائية في التعامل مع محتوياته وإدارتها، وهو خط كان يمكن أن يقوي الجانب الاجتماعي أكثر... في حين لم يأت المسلسل على ذكر مؤن البيت الدمشقي إلا في مشهد محاولة الفرنسيين مصادرة المؤن، التي سرعان ما يجد كاتب المسلسل حلا سهلا لها وبلا سبب، سوى التفريط بتأزم درامي كان يمكن أن يشد من أزر الطابع التراجيدي للحصار!
وزاد في الطين بلة، سعي المخرج للرد على منتقدي الأجزاء السابقة عبر تدعيم حضور المرأة في المقاومة... صحيح أن المرأة عرف عنها المساهمة في نقل الأسلحة للثوار في الغوطة أحيانا... لكن هذا شيء وإقحام المرأة في صلب المعركة وتقديمها بصورة مضحكة وهي تلقي الحمم الحارقة من على شرفة ديكورية فيما أبو حاتم يصرخ بانفعال لاهب: (الله يحيي النسوان الطاهرة) شيء آخر!
لقد تخلى المسلسل هنا، عن قناعاته السابقة التي طالما دافع صناعه عنها بأن حياة الشريحة الشعبية من النساء كانت تدور في فلك حياتهن العائلية المحافظة في مجتمع لم يخف هويته الذكورية، بل ويمكن القول أنه انقلب عليها تماماً، وكأنه أراد أن يقول إن هناك خللاً في تقديم المرأة على الصورة التي قدمت بها في الأجزاء السابقة تم تصحيحه الآن... عوضاً عن أن يدافع عن رؤيته السابقة انطلاقاً من واقع معاش، لا يكذب ولا يتجمل!

* ليل بلا نجوم!

ومن المؤسف أن هذا الارتباك في الكتابة، تزامن مع ارتباك آخر في الصورة الفنية والأداء التمثيلي... فقد جاء الجزء الرابع خالياً من نجوم الصف الأول من الممثلين، ولم يكن العديد من ممثلي الصف الثاني الذين اضطلعوا بأدوار بطولة بعد أن شغرت الساحة لسبب أو لآخر بقادرين على ملء الفراغ... مع العلم أن هؤلاء الممثلين كانوا يؤدون بشكل جيد ومعقول، حين كانوا في أمكنتهم المناسبة، في حين وقعوا في فخ المبالغة حين دفعوا إلى أمكنة وأدوار غير مناسبة لهم كما رأينا لدى بطل هذا الجزء الممثل وفيق الزعيم على سبيل المثال لا الحصر.
ولم تكن حال الشخصيات الجديدة التي أدخلت بأفضل حال، فالممثل فايز قزق الذي لعب دور (مأمون بك) بدا وهو يؤدي دوراً غير مناسب له على الإطلاق مع احترامنا لقدراته ومكانته التمثيلية بالطبع... ومن المؤسف أن المخرج بسام الملا، الذي كان واحداً من أكثر المخرجين اهتماماً بتوزيع الأدوار واختيار الممثل المناسب للمكان المناسب، يتعامل مع ممثلي هذا الجزء باعتبارهم مجرد مؤدين لأدوار، دون أي دراسة لخصوصية حضورهم في دراما شعبية هم بعيدون عنها، وفي مسلسل أجزاء ناجح يستقطب الكثير من الاهتمام، وتسلط عليه الأضواء!
إن (باب الحارة) الذي كانت المشاركة فيه حلم الكثير من الممثلين والنجوم، أضحى اليوم أفقر المسلسلات بممثلي الصف الأول، وأقلها قدرة على إقناعنا بتناغم فريقه التمثيلي، أما أكثر ما يؤسف له فهو أن ما قدم يبقى مؤشراً خطيراً على تراجع مشروع بسام الملا التوثيقي الحكائي عن بيئة الشام التي أحبها وأخلص لها فيما مضى، مقابل فبركة حدث متخيل همه تحقيق إسقاط سياسي مقحم وغير منسجم مع مقدمات العمل، وشروط الزمان والمكان والبيئة.
ومن المؤسف أن نقرأ آراء لبعض الجهلة الذين تدفعهم مشاعرهم القومية لتزكية هذا الإسقاط السياسي المقحم على حساب البنية الدرامية ومنطقية الحدث، وبعض الشعارات السياسية التي يتم التصفيق لها، وكأن حشرها هنا بطولة تستحق التقدير.. إن نبل الحديث عن حصار غزة أو محاكاته، لا يبرر الضعف الفني في العمل، وعلينا أن نتذكر دائماً أن القضايا الكبرى تحتاج أعمالا كبيرة، وفناً مشغولا بدأب وعناية ومصداقية، وليس بالاتكاء على سمعة عمل ناجح، بات يعاني هرماً وتثاؤباً ويفقد الكثير من ألقه واحترامه جزءاً بعد آخر!

محمد منصور

المصدر: القدس العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...