اندحار الفردانية في المجتمع من خلال اليومي والعادي

22-02-2007

اندحار الفردانية في المجتمع من خلال اليومي والعادي

الجمل ـ سعيد زكريا :بعد ثلاثة قرون من الحداثة الظافرة، هيمنت فيها الأيديولوجيا الفردانية على العالم الغربي، تشهد الحداثة ارتداداً نحو الجماعية. كتاب: تأمل العالم "الصورة والأسلوب في الحياة الاجتماعية" لميشيل مافيزولي الباحث المتخصص في علم الاجتماع الإدراكي لليومي والظاهر والعادي، يسجل اندحار الفردانية في المجتمع، والمثير أكثر إعادة الاعتبار لكلمة عبقري، ليس بمعناها الضيق المقتصر على الأشخاص (كاتب / مفكر / عالم)، وإنما بمعناها الأوسع الذي يمتد إلى الشعب والمكان، أي التأكيد على عبقرية الشعب وعبقرية المكان (ألا يذكرنا هذا بكتاب الدكتور جمال حمدان الفريد "مصر دراسة في عبقرية المكان")، هذا إذا رغبنا في فهم التغيرات الكبرى التي ترتسم معالمها الكبرى في الغرب، وإلى حد ما، تشهد المنطقة العربية بداياتها المشوشة وبعض مظاهرها الفاقعة. وسوف نجد في الاستعادة الفعلية لمكانة العبقرية الجماعية، دلالات لمختلف مظاهر الحياة الاجتماعية، باعتبارها علة ونتيجة لطريقة جديدة في العيش الجماعي.
لا يعني استدعاء العبقرية الجماعية، دحض نظام اجتماعي بائد، أو التأسي عليه. الأمر يتعلق بأن أسلوباً جديداً في الوجود، بدأ يخلف عالماً آخذ في الانحسار. فالجماعية القديمة التي انتهت، عادت تخترق الجسد الاجتماعي وتحتل الصدارة، بعودة الصور وأهمية العدوى العاطفية واللجوء إلى الرمزيات المتجلية في التماهي الديني والانتماء العرقي والبحث عن الموطن المشترك المنتشرة في العالم الثالث. كذلك العالم المتقدم على قيد تلك "العودات"، تتبدى في النهل من أفكار متخيلة وأساطير مشتركة؛ تعتبر شروطاً لإمكان حياة مجتمعية. الخروج عن الفوضى هو النظام المرشح للحلول محل الفوضى الفردانية. وهي حالياً مجرد أحلام جماعية تعبر عن نفسها بطرائق متطرفة، تأخذ شكل التعصب والإنكار والغضب والتمرد. مما يمكننا الحديث عن ولادة "أنا اجتماعية" لا تجد نفسها في المثل القديمة ذات الطابع العقلاني والكوني للأمم الحداثية، والتي أرسلت العالم إلى عدة حروب، وفتحت مجالاً للحروب الأهلية والابادات الجماعية والأحلام الإمبراطورية. هذه الأنا الاجتماعية البديله تأخذ مما هو قريب إليها، أي من العادي.
يؤسس مافيزولي في كتاباته، لعلم اجتماع يومي، يدرس فيه سطوة الحاضر، ويدور حول اللحظة الأبدية، متخذا من قضية هيمنة الصورة أسس مفاهيمه السوسيولوجية، يستمدها من مفاهيم كبار الفلاسفة والشعراء والكتاب، كحالمين بعالم آخر لا تكبله العقلانية بتاريخها النسقي. فيصبح علم الاجتماع، ليس علماً كمياً وتجريبياً، بل ممارسة فكرية يقظة لكل ما يشكل هوامش بالنسبة للعقل. علم لا يحاكي علمية العلوم البحتة، ويمثل علماً مفتوحاً على الشعر والأدب والتصوف والتاريخ. علم يمتدح الخيال والمتخيل المطردوين من ممالك العلماء والفلاسفة الصارمة.
يفند مافيزولي سيطرة الاقتصادي، ويمنح للصورة موقعاً جديداً في اللحمة الاجتماعية، ويعلي من قيمة الشكل والمظهر الجمالي. وهنا تكمن جاذبية أفكاره وقوتها، فهو يعتبر أن الغرب يشهد منذ ثمانينات القرن الماضي انهياراً متواتراً للبنيات المؤسسية الكبرى والتي كانت تمنح المعنى للمجتمع: لقد وصل الغرب إلى ضرب من الإشباع في مجال الظواهر التجريدية والقيم الكبرى والآليات الاقتصادية والأيديولوجية. بالمقابل ثمة انبثاق للكيفي واللُهوي وتجذر للصورة مع ثورة في مجال التواصل. الجماهير بدأت تركز وتتمركز حول اليومي والحاضر والأنشطة التي لا غائية لها. هناك نزعة تغزو المجتمعات بكثافة، تستعيد شعائر جمعانية تعلن عن منعطف جديد، يسميه مافيزولي مجازاً بـ"القبلية" يعتمد على تناظمات جديدة أساسها العواطف والاحساسات، وهمها بلوغ مثال جديد لا ينبني على المنفعة، وإنما على المتعة الجماعية. تنهض فيه الرابطة الاجتماعية على تضاؤل الفردانية التي سادت مرحلة الحداثة لتؤسس مفهوماً جديداً للعيش الجماعي.                     
هذه النزعة تعززها جماليات تسعى إلى السيادة، وهي غير محصورة في مجال الفنون الجميلة، بل تتضمنها وتمتد أيضاً إلى مجموع الوجود الاجتماعي، فالحياة يلزم أن تؤخذ بوصفها عملاً فنياً، والجماليات كطريقة للإحساس والتأثر المشترك، مما يحيلنا من الناحية الواقعية إلى كل تلك الأشكال من التجمعات الموسيقية والرياضية والاستهلاكية والدينية، وهي تسترد انتشاراً فقدته وغدا منسياً. وعديدة هي الوضعيات التي تولد عواطف لا يمكن اختزالها فقط في الحياة الشخصية، إذ أنها تعاش جماعياً وبشكل مطرد، ويمكننا بخصوصها التحدث عن جو انفعالي؛ حيث يتم الشعور بالأسى واللذة بشكل جماعي، وفي الدور الذي تلعبه التلفزة خلال الكوارث والحروب وغيرها من الأحداث الدامية دليل مقنع. والأمر نفسه بخصوص الاحتفالات والوطنية أو الدولية الكبرى وأعراس الأمراء، أو التظاهرات الاجتماعية التي ترافق نجوم الأغنية والتمثيل. ففي كل هذه الحالات وغيرها يتمكن التلفزيون من هزّ المشاعر بشكل جماعي، فيبكي الناس أو يخبطون بأيديهم. إن جماهيرية المشاهدة تفسر، لماذا لن تعد الجماليات بالضرورة خاضعة لمعايير الذوق السليم التي تبلورت خلال سيادة النزعة الاصطفائية البرجوازية لما هو فن أو ليس بفن. أما هذه فتفرض نفسها كطريقة للتمتع الجمالي بحاضر أبدي.
يحمل القسم الثاني من الكتاب عنوان "العالم التخيلي" ويتطرق بصراحة لمشكلة القوة والواقع التحولي والتشكلي للصورة والمتخيل، كما لطابع السلطات الزائلة للعالم. يعبر "التخيلي" لدى مافيزولي عن قوة قاهرة تتجاوز الصورة، وعن ضرب من العقلانية الكلية، ويدين مافيزولي الخوف من الصورة الذي يحرك قريحة المعادين للتصوير. فيقول أن الصورة برزخ، وهي لحمة، وموضوع بامتياز، على أنه ومن خلال الشكل الإدراكي الذي تمنحه لنا الصورة مباشرة يستطيع الشيء والموضوع أن "يتروْحَنا" في شكل صورة. ويمكن تفسير عودة المتخيل باكتشاف جاذبية الاسترخاء، التي جعلتها واقعاً أوقات الفراغ ومجالات الترفيه، وتلك الأشكال الأخرى من عطالة الجسم والعقل، ما منح المتخيل الفرصة لاسترداد ما فقدته في زمن القوانين الصارمة للإنتاجية.
يثير كتاب مافيزولي بالنسبة للمجتمعات العربية الانتباه إلى قضايا ظلت غير مفكر فيها، أو على الأقل مهمشة في محيطنا الثقافي الذي ما يزال يركز تفكيره على اللغوي والبنيوي والمؤسساتي، رامياً إلى الجانب بالجزئي والمتخيل والجسدي. ويمكن الرد بأن قضايا أي مجتمع لا تأخذ أحجامها الحقيقية إلا على أرض الواقع، فإذا كان محيطنا الثقافي همشها إلى حد ما، فلأن قضايا الثقافة الأساسية لم تجد لها حلولاً ملائمة بعد، ولم تتعرف مجتمعاتنا على جاذبية الاسترخاء، وأوقات الفراغ بالنسبة إليها حالة بطالة وفقر وعسر. وقد لا يستطيع هذا الجيل تخطيها والانطلاق إلى اللامفكر فيه إلا من خلال مقتربات مختلفة وهو الأصح، أما إذا أراد انتحال مقتربات الغرب، فسوف يضيف إلى اشكالاته، إشكالات أخرى تشوش صورته حتى بالنسبة إليه، إذ لا نستطيع الزعم بأن المخيال والصورة تثير الشيء نفسه، إن سطوة الحاضر تختلف، لأن الحاضر يختلف من مكان إلى مكان. ولا مسوغ للالتحاق باشكاليات لا تزال أصلاً موضع تساؤلات وتشكيك، وربما الإسهام بدراستها من جانب  مجتمعاتها هو الأجدى والأنفع.
على هذا النحو، يبقى درس مافيزولي صالحاً للغرب والشرق على السواء، وهو: يحق للرمزي والمتخيل والعادي واليومي، أي كل ما نفته السوسيولوجيا التقليدية والوضعية من مملكتها العاجية، أن يكون موضعاً للتأمل والتفكير والتحليل والمقاربة في المجتمع.

 

الكتاب: تأمل العالم
        الصورة والأسلوب في الحياة الاجتماعية.
تأليف: ميشيل مافيزولي.
ترجمة: فريد الزاهي.
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة
        المشروع القومي للترجمة. القاهرة.        
 

الجمل

 


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...