المهدي المنتظر

22-02-2007

المهدي المنتظر

يستمد الكتاب الذي بين أيدينا أهميته من عدة أسباب، أولها أنه يصل إلى القارئ العربي بعد 55 سنة من نسخته الألمانية حين كان أطروحة للدكتوراه قدمها المؤرخ العراقي الشهير جواد علي إلى جامعة هامبورغ، كخطوة مهمة على طريق رحلته الموفقة في البحث التاريخي.

يطوف المؤلف على خلفيات سياسية وفلسفات عقائدية وترجمات للرجال الذين صنعوا تاريخ تلك المرحلة المهمة التي وضعت فيها أسس المذهب الشيعي.

وما يزال الباحثون منشغلين بقضية المهدي المنتظر إلى اليوم، حتى أن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أجازت قبل سنوات قليلة رسالة دكتوراه بنفس عنوان الكتاب الذي نعرض له، وإن لم تشمل مراجعها أو اقتباساتها شيئا من نظيرتها الألمانية، التي لم تكن قد ترجمت إلى العربية بعد.

اعتمد جواد علي منهج صار الأكثر شهرة بين دارسي المذهب الشيعي في النصف الثاني من القرن العشرين، ألا وهو "الأخذ من مصادر القوم" مستعينا بما يربو على 200 مصدر من كتب المذهب الشيعي.

وقد غرم الباحثون السلفيون بهذا المنهج، وهو ما مكنهم من تقديم استشهادات "منتقاة" بشأن المهدي المنتظر اعتبروها دليلا دامغا على "انشقاق" القوم "وفساد" مآلهم.

ورغم أن بعض علماء الشيعة لا ينكر كثيرا مما عثر عليه السلفيون في الكتب الشيعية، فإنهم ينكرون أن تكون الأفكار "المارقة" التي عثر عليها السلفيون معبرة عن كافة الجمهور الشيعي.

كما ينتقد الباحثون والعلماء الشيعة ما تحويه بعض المراجع السنية التي تخرج الشيعة من ملة الإسلام عبر "اجتزاء" النصوص "واصطياد" ما يثير الجمهور.

وبالمثل يبدو موقف الشيعة غامضا، في ظل ثنائية الظاهر والباطن، حيال تلك الصفحات المثقلة بالمشاهد المروعة التي يقوم فيها المهدي المنتظر ببعث الخليفتين أبي بكر وعمر (عليهما رضوان الله ورحمته) من مرقدهما ليثأر منهما!

يعتبر المؤلف فكرة الإمامة المعلم الأساسي الذي يميز الشيعة عن بقية المسلمين، فالإمام نصبه الله عن طريق نبيه، وتشمل سلطته الأرض بأسرها وله الخمس مما كسبه الناس، وهو لا يأخذها لنفسه بل لتطهير الناس من أدران الدنيا.

والأئمة الذين يحكمون العالم باسم الله إثنا عشر، وهم: علي بن أبي طالب (المرتضى) وابناه الحسن والحسين (الزكي والشهيد) والأحفاد المباشرين للحسين وهم : علي بن الحسين (زين العابدين) ومحمد بن علي (الباقر) وجعفر بن محمد (الصادق) وموسى بن جعفر (الكاظم) وعلي بن موسى (الرضا) ومحمد بن علي (الجواد) وعلى بن محمد (الهادي) والحسن بن علي (العسكري). وآخر الأئمة محمد بن الحسن (المهدي) المسمي "صاحب الزمان" والذي اختفى (بحسب الشيعة) سنة 260 للهجرة.

ارتبطت حياة أغلب الأئمة بالعمل السري في ظل الملاحقة المتواصلة من النظم التي حكمتهم، مما أورثهم نظاما دقيقا يجيد حيل التهرب ويطور آليات متواصلة من النشاط الموازي تحت الأرض.

ويخلص المؤلف إلى أنه بعد استشهاد الحسين (رضي الله عنه) اتجه أغلب الأئمة إلى اعتزال العمل السياسي والثوري ورضوا بأن يمارسوا الدور العلمي والتربية الروحية والفكرية للأتباع، ولم يكن العوام يعرفون الشيء الكثير عن أئمتهم، مما ترك الفرصة مثالية للافتراء عليهم من بعض الشيعة الطامعين في مناصب مالية ودينية.

بعض المصادر الشيعية التقليدية رأت احتجاب الأئمة وعزوفهم عن الناس بمثابة التدريب التدريجي لاختفاء الإمام الثاني عشر وتحضيرا نفسيا لهذه الغيبة.

لم يمر تاريخ الإمام الأخير دون انشقاق. فقد ثارت الشكوك بعد وفاة الإمام الحادي عشر (الحسن العسكري) وتساءل الناس هل ترك ولدا؟ وإذا كان قد ترك ولدا فلماذا لم نره؟

ولأن الإمام لا يصح أن يموت دون أن يترك ولدا فقد ثارت الشكوك في شرعية إمامة الحسن العسكري نفسه، وهكذا نالت سهام الشك من الهوية الشيعية فافترقت إلى 14 فرقة.

روج الشيعة الإثنا عشرية أن للحسن العسكري ولدا كان عمره خمس سنوات حين توفي أبوه، وأنه حمل الإمامة في المهد كاليسوع ثم اختفى عن الأعين منذ ذلك الوقت هربا من الخليفة العباسي الذي كان يطارده على نحو ما كان فرعون يطارد موسى في مهده. هكذا عثر الإثنا عشرية على "مخرج" مقنع للمشكلة التي عصفت بهويتهم.

اختفى الطفل –الذي صار إماما- سبعين سنة (بدءا من عام 260 هـ بحسب المراجع الشيعية) فيما سمي بـ "الغيبة الصغرى" ثم أعلن الوسطاء (الذين كانوا ينقلون تعاليمه) أنه اختفى في "غيبة كبرى" (من عام 329 هـ) وسيعود منها "يوما ما" ليقيم دولة العدل قبل قيام الساعة.

يتوقف الكتاب مليا عند المكان الذي اختفى فيه الإمام، ويشكك في الأصول التي عادت إليها المراجع المستندة إلى اختفاء المهدي في سرداب بمدينة سامراء.

ويفرق المؤلف بين المراجع الشيعية التي ترى الإمام اختفى "من" السرداب والمراجع السنية التي تتحدث عن اختفائه "في" السرداب. وبين حرفي الجر تأويلات كثيرة.

أشاع الشيعة أن الإمام الأخير كان يتواصل مع أتباعه عبر عدد من النواب، قاموا بدور السفراء نيابة عنه في غيبته الصغرى، وكرس السفراء وقتهم لنشر تعاليم المذهب وإخماد اتجاهات الفرقة التي كادت تطيح بـ "الإثنا عشرية".

ويجب أن يكون السفير أشهر الناس تقوى وأقدرهم على الإتيان بـ "كرامات" مقنعة للأتباع، ويخضع للسفير وكلاء محليون يدبرون أمور الطائفة، وقد ادعى بعض الشيعة أنهم سفراء للإمام الغائب، لكن الطرد من الطائفة كان مصير هؤلاء حين لم يثبت لهم كرامات، الأمر الذي حصر تلك المنزلة في أربعة سفراء فقط، ويحملون في بعض المصادر الشيعية اسم "الأبواب".

كان اسم السفير الأول "أبو عمر عثمان " وهو اسم مركب من اسمي الخليفة الثاني والثالث بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهي إشارة مهمة يلتقطها المؤلف ليدلل على أن نشر "الكراهية" بين "الإثنا عشرية" تجاه الخلفاء السنة قضية حديثة، ولم يكن لها مكان بين الأئمة الشيعة من أحفاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه).

يستعين المؤلف بأهم المصادر الشيعية في بيان الأهمية "القدسية" للسرداب فيقتبس من كتاب علي بن عيسى الإربيلي (توفي سنة 692 هـ) كيف كان المرضى واليائسون والمطاردون يجدون ملاذهم الأخير في سرداب الإمام.

بل إن فن الطب والمداواة يفقد اعتباره إلى جانب ما نقله الكتاب الموسوعي الشيعي الشهير "بحار الأنوار" من شفاء العميان والعجائز في مدينة الحلة بعد ظهور الإمام الغائب لهم.

لا ينتهي هذا الجزء من الكتاب قبل أن يفرق المؤلف بين مفهومي الغيبة والرجعة، فالغيبة تعني غيبة الإمام الثاني عشر، والرجعة تعني رجوعه والأئمة السابقين وبعض أصحابهم، فضلا عن بعث بعض أعدائهم لينالوا العقاب.

والهدف الأساسي للرجعة إقامة "المملكة الشيعية الكبرى" التي ستحكم العالم، وكلما مضى الوقت ازدادت حرارة الشوق الشيعي لإقامة هذه المملكة.

وهو ما دفع المؤلف إلى الاعتقاد بأن تعاليم الرجعة ليست مذهبا دينيا وإنما هو اختراع هيأته أجواء الإحباط السياسي، في وقت تمتع فيه "الأعداء" بنعم الحياة ونعيمها.

ولأنه لا يمكن لشيعي مؤمن أن يتخلى عن مفردات الغيبة والرجعة فإن المملكة الشيعية تمثل الحياة الأخرى "العادلة" التي شب الشيعة على أمل تحقيقها وكبروا على انتظارها.
يحاجج المؤلف بأن الشيعة تعاونوا مع العباسيين لإسقاط حكم الأمويين، وهو ما قدم للعباسيين دراية كاملة بتكتيكات الشيعة فحصنوا أنفسهم ضدهم، وعملوا على إضعافهم وتشتيت شملهم حتى لا يتجرعوا الكأس التي أذاقوها الأمويين، فاشتبك العباسيون مع الثوار الشيعة في مواقع عديدة وسالت فيها دماء كثيرة.

لم يكن الخلفاء العباسيون على موقف واحد من الشيعة، فالمأمون كان متعاطفا معهم لدرجة التشيع على خلاف أبيه هارون الرشيد الذي كان أكثر شدة.

وبالمثل اختلفت سياسة المستنصر المتشيعة مع سياسة أبيه المتوكل المتشددة، كما بلغت درجة تشيع الخليفة المعتضد (279-289 هـ) حدا بالغا حتى أنه ألف كتابا كرس فيه مفاهيم اللعن وسب الصحابة وعمل على نشره بين رعاياه.

يخلص المؤلف إلى أن تنظيم الشيعة كان أكثر تماسكا في وقت المحن مما كان عليه في أوقات نيلهم حرية الحركة. ففي زمن المنصور، وعندما كان التضييق على أشده، كان الإمام جعفر الصادق أول من أرسل الرسل والوكلاء لنشر التشيع في أماكن بعيدة من بلاد الخلافة، واخترع الشيعة سياسة "التقية" كحل عملي لمقاومة سياسة "الجوسسة".

واضطر المنصور، الذي كان التشيع قد تفشى في قصره تحت رداء التقية، إلى نقل مقر إقامته من الكوفة إلى بغداد.

وقد عانى أغلب خلفاء العهد العباسي من وقوع قصورهم تحت تصرف الشيعة من أصغر منصب إلى درجة الحاجب. ومن المفارقات أن عددا من الوزراء السنة في هذه الفترة فقدوا مناصبهم حين أقنع الوشاة الخلفاء أنهم شيعة متسترون.

وحين شبت ثورة القرامطة جنوب العراق صارت "القرمطة" التهمة الجاهزة لكل من يريد الواشون إزاحته، سنيا كان أم شيعيا.

السفراء المعترف بهم لدى الشيعة وتحدثوا باسم الإمام في غيبته أربعة، احتلوا مكانة بالغة الأهمية في حياة الشيعة زمن الخلافة العباسية، وتجمعت لديهم أموال باهظة.

وظهر في أيام السفير الثالث أبو القاسم بن روح (296 هـ) رجل له موهبة الساحر الفتان والخطيب المفوه وادعى أنه السفير الحقيقي، وهذا الرجل هو الحسين بن منصور الحلاج المعروف لدى البعض تارة بالتصوف وتارة بالزندقة.

تبدو صورة الحلاج في المصادر الشيعية خليطا مزركشا من الألوان : كان يدعي أمام الشيعة أنه شيعي، وعند السنة أنه سني، وأمام العوام يقدم نفسه نائبا للمهدي الغائب حتى إذا وثقوا به دس إليهم زندقته المتصلة بتناسخ الأرواح.

وحين شعر السفير الثالث بالخطر من منازعة الحلاج نجح عبر وسطاء شيعة في قصر الخليفة بإقناع الفقهاء السنة بتكفير الحلاج فتم إعدامه.

لم تكد قصة الحلاج تنتهي حتى ظهر مدع آخر في القطيف قدم نفسه رسولا للإمام الغائب، وتعاون مع القرامطة الذين كانوا يبثون الرعب والقتل بين حجاج بيت الله الحرام.

ولم يكد الإثنا عشرية يتخلصون من أزمة الحلاج وتهمة القرمطة حتى بزغت أزمة جديدة أكثر قسوة، حين قام نائب السفير الثالث، محمد الشلمغاني، بمنازعة السفير في لقب الباب (والذي من خلاله يتم الولوج إلى الإمام الغائب).

وبطمعه في النفوذ الكبير والأموال الهائلة التي كانت تتوفر للسفير أعلن الشلمغاني أول حركة بابية في تاريخ الفكر الشيعي، وبلغت زندقته القول بحلول الروح الإلهية في ذاته.

تبرأ الإثنا عشرية من الشلمغاني وكفره السفير الثالث. ولقي الشلمغاني مصير الحلاج، وأحرقت جثته بالنار، وذر رمادها في نهر دجلة.

وبعد الشلمغاني ظهر البصري وادعى أن روح المهدي حلت في بدنه، واستمرت السلسلة، وروج أحدهم في تلك الفترة أن روح علي بن أبي طالب حلت فيه، كما ادعت امرأة يقال لها فاطمة أن روح فاطمة الزهراء حلت فيها، وزعم آخر أن الملك ميكائيل حل في جسده. وهو ما كان مقدمة لمشاهد من هذا القبيل لم تنته إلى اليوم.

لا ينتهي الكتاب قبل أن يعرج على موضوعات تفصيلية في تطور علم التوحيد في المذهب الشيعي خلال فترتي الغيبة الصغرى والكبرى، وما طرأ على فريقي الفقه الشيعي المعروفين باسم "الإخباريين" أنصار النقل "والأصوليين" أنصار العقل.

وسبر الكتاب غور التنافس الذي جرى بين الفريقين حتى دان الفقه الشيعي في زمن الغيبة للأصوليين.

التفاصيل المتنوعة بشأن قضية المهدي أكبر من أن تناقش في عرض سريع لهذا الكتاب المهم الذي يعد مرجعا علميا ومحايدا، لا غنى عنه للتعرف على معلم رئيس في الفكر الشيعي.

عاطف عبد الحميد

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...