الضحيّة تتحوّل إلى فاشيّة «النور» المصري نموذجاً

23-04-2012

الضحيّة تتحوّل إلى فاشيّة «النور» المصري نموذجاً

أعلن الشيخ أبو النصر استقالته من حزب «النور» السلفي في مصر، والعودة إلى العمل الدعوي، لأنه ليس أهلاً للسياسة، ولأنها ليست لعبته، ولأنه «كان من المفترض أن يسمعوا كلام الثوار ويسيروا خلفهم». هي لحظة وعي كاشف لم يصل إليها النائب السلفي أنور البلكيمي، صاحب قصة الأنف الشهير الذي دفعه إلى اختراع كذبة كبيرة بشأن تعرُّضه لاعتداء وهمي ليخفي إجراء عملية جراحية لتجميل أنفه، وهو ما يحظره الفكر السلفي.مناصرة لأبو اسماعيل (خالد دسوقي ــ أ ف ب)

غادر البلكيمي حياته الجديدة، وعاد بعد رحلة قصيرة إلى بلاد العجائب، ووصل إلى القاهرة منتصراً على مقعد أحمد عز، أيقونة نظام حسني مبارك، جامعاً كل خصائص شخصيات دُفعت دفعاً لملء الفراغ السياسي. سائق الميكروباص (النميمة تقول توك توك كمحاولة للتصغير من الشأن) تحوّل إلى شيخ وخطيب في جامع في مدينته الصغيرة، ولم يُعرَف في السياسة قبل أن يحشده حزب «النور» على قوائم البرلمان، باعتباره «الموديل السلفي» الطبيعي.
«النور» أقرب إلى أن يكون جبهة بين جمعيات سلفية جديدة على التنظيم، اختارت عضويتها وقادتها ونوابها من عناصر مؤثرة في التجمعات الصغيرة، وهيكلها القيادي مقسَّم بين «المشايخ» و«نشطاء سلفيين» تدرّبوا في مراكز تدريب سياسية غربية. البلكيمي وجد نفسه في السلطة فجأة كواحد من «غرباء ضالّين» في مدينة واسعة. هُم شخصيات تجمع بين الطيبة والقدرة على التحايُل التي يشتهر بها الفلاح القديم، في مواجهة الطبيعة والحكام الغاشمين.
البلكيمي صدمته أجواء المدينة، وأدرك أن السياسة شيء أكبر ممّا تخيّله أو تعامل به مع رفاق الدائرة الصغيرة. هل هي أضواء الإعلام؟ أم مزاج الجماعة الكبيرة حيث يتحرّر الشخص من ثقافته بالتدريج وفي السر؟ المشكلة ليست في أن البلكيمي أجرى جراحة تجميل، لكنها تكمن في أنه أخفاها، وصنع حكاية كاذبة تصوَّر أنها ستمرّ.
لم يكن يعرف أن السر سيُكشف ويتحول إلى فضيحة لا تكشف عن السذاجة المتناهية فحسب، بل تكشف أيضاً ترهُّل فكرة الاضطهاد التي يعيش عليها الإسلاميون. عندما اخترع البلكيمي حكاية محاولة الاغتيال، خرج مصدر من حزبه يقول «إنها حلقة في سلسلة استهداف الإسلاميين». وعندما انكشف الخداع وهاجت الدنيا على البلكيمي، لم يجد سوى السير بحماية أسطورة الاضطهاد، وقال «لقد هاجمني الإعلام لأنني من التيار الإسلامي».
يبدو أنّ العودة إلى أسطورة الاضطهاد هي الأسلوب الوحيد لمواجهة صدمات «الديموقراطية» التي عاد عبد المنعم الشحات من كهفه ليعاود الهجوم عليها، لكونها «ضدّ الإسلام». لا يكمل الشحات عبارته لنعرف أن «الديموقراطية ضد الإسلام» كما يراه هو.
لا يزال الشحّات (وغالباً هو شخص طيّب آخر) يعيش في أجواء الصدمة الأولى بين الإسلام والحداثة. اختلط الموت بالحضارة، والاحتلال بالتحديث، وهنا ظهر مفكرون ومجددون من رفاعة الطهطاوي إلى محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين ومصطفى عبد الرازق وطه حسين، ممن صنعوا جسوراً وكتبوا وصفات تخفف آلام الصدمة وتستنهض سكان هذه المنطقة التي أظلمتها الخلافة العثمانية، لالدخول في العصر الجديد.
ليس الإسلام ضد الديموقراطية إذاً. لكنّ نوعاً من المسلمين لا يزال عند الصدمة الأولى. الشحات من هذا النوع الذي يريد أن يعطي لصدمته ملمح النبل والنقاء، ليبدو وحده حاملاً للنظرة الصحيحة، ومضطهداً لأنه حاملها. هنا تطلّ الفاشية من خلف الطيبة والسذاجة. البلكيمي ليس الشحات، ولكنه نسخته القادرة على التكيّف أكثر مع صدمته. خجل البلكيمي من رغبة «التجميل»، وهذا الخجل هو ما دفعه لارتكاب خطيئة سياسية. أراد أن يصنع من الخجل بطولة، ولم يجد في عقله إلا سيرة المضطهد، الضحية، المستهدف... اخترع الرجل حكاية الاعتداء وسرقة أموال سيارته الحديثة.
إنها محاولة غبيّة في التعامل مع الصدمة، دفع ثمنها كاملاً من سمعته النيابية. ربما ظلّ كما هو طيباً، لكنه أظهر ما في الطيبة من فاشية أحياناً. الضحية تتحوّل إلى فاشية عندما تجد حولها قوة ما.
لقد اعتاد البلكيمي قيادة الحشد من المسجد إلى الحزب. ملأ فراغ السياسة عندما كانت ممنوعة ومحرَّمة وحين كان السياسي مطارَداً، ومقار الأحزاب ملعونة. لم يكن لدى الجموع إلا الجامع. ليس جميع من يعتلون المنبر مؤهلين ليكونوا صناع رأي عام أو قادة بالمعنى السياسي. عدد كبير منهم نراهم نواباً لا يميّزون بين خطبة الجماعة والكلام في البرلمان، ولا بين منصة السياسة ومنبر الجامع. البلكيمي ضحية مثيرة للرعب، تماماً مثلما قاد سيارته وعلى أنفه الشهير ضمادات جعلته يبدو كائناً متحوِّلاً أو من أهل الفضاء أو الكهوف. هذه الكائنات تغادر إذاً... إلى أين؟


فتاوى تحت الطلب

ميكروفونات الميدان حملت صوت الشيخ من على الهاتف. الشيح حازم أبو إسماعيل لم يأتِ، لكنه تحدث بالهاتف. طالب المئات من المعتصمين بتعليق الاعتصام، لكنهم رفضوا. قالها بحنان الأب الخائف على رعيته، وردوا عليه بقوة الجنود في معركة الدفاع عن دين الله. مشاهد تبدو مثيرة لمنقّبات في الميدان، نساء قلن للصحف «نحن لا ندافع عن الشيخ، ولكن عن إعلاء كلمة الله». إنهنّ في لحظة جهاد، بعدما كان نزول الفتيات إلى الميدان خطيئة اجتماعية. «ما الذي ذهب بهنّ إلى الميدان؟ لماذا لا يبقين في بيوتهن؟». هذه نبرة الخطاب السلفي المتهكّم على كسر الفتيات قواعد الثقافة المحافظة. إنها تناقضات مركبة ومربكة، فالمرأة هي الإعلان المتحرك عن الشعور بالعار من الحداثة الذي قامت عليه جماعات السلفية كلها. الطريق السلفي يقوم على العودة الى الحجاب الذي خلعته هدى شعراوي في محطة القطار لحظة عودتها من روما، رمزاً لتحرر المرأة وخروجها من كهف القرون الوسطى. لم تكن أمهاتنا خارج الإسلام حين كنّ يرتدين ملابس عصرية، وليست السيدة المحجّبة الآن خارج العصر. هذه التناقضات تتكشّف الآن، وكما لم يكن من قبل، لم يعد الحجاب حاجزاً عن التفكير الحر الحديث أو معبِّراً عن تلك الجماعات، وهذا انتصار على ثقافة القبيلة التي أرادت العودة بنا إلى الوقوع في أسر فتاوى تحت الطلب الذكوري.

وائل عبد الفتاح

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...