الحداثة في فكر محمد أركون

05-12-2006

الحداثة في فكر محمد أركون

منذ اكثر من اربعة عقود، اطلق محمد اركون مشروعه في "نقد العقل الاسلامي" الذي رأى فيه المدخل الضروري لتحديث المجتمعات الاسلامية والعربية. وعلى الرغم من ترجمة معظم كتبه الى العربية، لا يزال مشروعه لا يلقى الاهتمام الذي يستحق في سجال المثقفين العرب ومناقشاتهم، فيما تحظى كتبه باهتمام خاص في الغرب الاوروبي. في المقابل، نال اركون، ولا يزال، نصيباً وافراً من الهجوم "الاصولي الاسلامي" على افكاره الى حد تكفيره، لتصديه الجريء "لغير المفكَّر فيه" او "المستحيل التفكير فيه" في الفكر الاسلامي وتراثه. وكشفه "المستور" في فكر الحركات الاسلامية وتعريته الاسس الايديولوجية الذي تستقي منه عنفها. في هذا السياق، يشكل كتاب "الحداثة في فكر محمد أركون" للكاتب الجزائري فارح مسرحي، الصادر لدى "منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم"، إحدى المساهمات الجادة التي تتناول اهم المحاور الرئيسية للمشروع الاركوني، وخصوصاً في مجالات نقد العقل الاسلامي وشروط تحديث المجتمعات العربية والاسلامية.
بما ان مشروع اركون هو في حقيقته مشروع ادخال الحداثة وبنائها في العالمين العربي والاسلامي، يعرض الكاتب بداية لمفاهيم محددة تمثلها الحداثة كما استقرت في المجتمعات الغربية، بعدما سارت في رحلة امتدت من عصر النهضة الى تبلورها الاخير من خلال مفكري "الانوار" في القرون الثلاثة الاخيرة. فعلى الصعيد الفكري، تتميز الحداثة بأولوية الذات التي ترى ان الانسان يستمد يقينياته من ذاته وليس من تعاليم عقيدة محددة او سلطة اخرى على غرار ما كان حاصلاً في العصور الوسطى، مما يعني "تحرير الروح الاستقلالية" للذات البشرية وتعامل الانسان مع نفسه كذات واعية وسيدة وفاعلة. كما ترتبط الحداثة ارتباطا وثيقاً بالعقلانية نظراً الى تماهيها مع العقل الذي يقلص المجالات الغامضة والمبهمة التي تربط الانسان بالوجود، ويستبعد الخرافة والاساطير في تفسير الحوادث، ما يجعل هذا العقل المصدر الاساسي والوحيد للحقيقة والمعرفة عبر قدرته على تمكين الانسان من اكتشاف القوانين التي تسمح بالسيطرة على الطبيعة. تتمثل العقلانية ايضاً في فصل العلم عن التصورات الدينية والايديولوجية عبر نزع القدسية عن المجال السياسي باعتباره مجالاً دينوياً للصراع حول الخيرات والسلطة والرموز.
على المستوى السياسي، تتجلى الحداثة في نشأة الدولة الديموقراطية العلمانية، اي الدولة التي يجري فيها التمييز بين المجالين السياسي والديني، وتسمح في المقابل للفاعلين الاجتماعيين، اي المواطنين، ان يتصرفوا بحرية في اختيار حكامهم. وعلى المستوى الاقتصادي، تتجلى في تطوير انتاجية العمل البشري وسيطرة الانسان على الطبيعة وقوى الانتاج. اما على المستويين الاجتماعي والاخلاقي، فالحداثة تعبر عن قيم منفتحة قائمة على التعددية وقابلية التغيير ومعيارية النسبية والحرية.
قرأ اركون واقع المجتمعات العربية فرأى ان ما عرفته منذ قيام دول الاستقلالات ليس اكثر من تحديث مادي تمثل في ادخال منتجات تقنية اليها، من دون ان يرافق ذلك تغيير عقلي وثقافي كان هو الاساس في انتاج هذه التقنيات في الغرب. وهذا شأن يجعل المجتمعات العربية تعيش حالاً من الفصام، الأمر الذي يحمل أركون على الاعتبار ان النضال من اجل ادخال الحداثة يشكل الحلقة الرئيسية لقوى التغيير في المجتمعات العربية.
يرى اركون ان مفتاح ادخال الحداثة هو نقد العقل الاسلامي بنصوصه المؤسسة وتراثه التاريخي، والذي يسعى الى البرهنة ان الفرق والحركات الاسلامية تنطلق من مسلّمات فكرية وايديولوجية واحدة، على الرغم من الاختلافات والصراعات القائمة في ما بينها. فالعقل الاسلامي عقل تاريخي له نقطة تشكُّل، وبداية ونهاية، تحدد منذ "رسالة الشافعي" التي عنيت بالاحكام الشرعية والاصول الدينية التي قام عليها الفقه في العصور اللاحقة ولا تزال تحكم الزمن الراهن. تستند هذه الاصول الى الخطاب القرآني وسيرة النبي والإمام علي والائمة عند الشيعة. وتعالج الرسالة موضوعاً مركزياً يتعلق بـ"اسس السيادة العليا او المشروعية العليا في الاسلام، حيث يمثل القرآن مصدر السيادة الالهية العليا، والسنّة مصدر السيادة العليا للنبي. بناء عليه، تحدد الرسالة دور العقل في البحث عن الاحكام الموجودة في النصوص المؤسسة (القرآن والسنة)، وتؤسس لتكوين عقل اسلامي منغلق في قوانين حديدية صارمة تقوم على الجزم بأن سبل النجاة في الدار الآخرة ووسائل الوصول اليها تجد كل تفسيراتها وشروحها في القرآن، مما يعني ان مهمة العقل الرئيسية تقوم فقط في قراءة صحيحة لهذا النص.
يشتغل هذا العقل داخل اطار معرفة جاهزة فيستخرج المعرفة الصحيحة استناداً الى النصوص المقدسة، بما يكرّس العقل الديني عقلاً تابعاً للوحي وخادماً له، غير متجرىء على تجاوز ما يقول به هذا الوحي، وقد نجم عن ذلك تحوّل العقل الاسلامي الى عقل دوغمائي يرتكز على ثنائية ضدية حادة متمثلة في "نظام من العقائد والايمان يقابله نظام من اللاعقائد واللاإيمان". يتجلى ذلك في اعتقاد راسخ لدى جميع المسلمين بأن الاسلام اطار صالح لكل زمان ومكان، وبأن الايمان بوجود الاسلام الحق يتضمن مسلّمات تقول بإله موجود واحد خالق قادر، خاطب الناس باللغة العربية، وكلامه مدوّن في القرآن الذي يحوي كل شيء ويمثل الحقيقة القصوى، وبأن المؤمن متفوق على غير المؤمن والمسلم على غير المسلم. لا يفوت اركون ان يرى في هذه "القوانين" اساساً للخطاب الاسلامي المعاصر المتطرف الذي يستمد قوته من كونه يرى نفسه ممثلاً للحقيقة الالهية المطلقة والوحيدة، ويرفض وجهات النظر المخالفة له، وصولاً الى اصدار فتاوى تكفير والحاد واباحة دم لمن يخالف هذا الخطاب وشعاراته. لذلك يدعو اركون الى ثورة فكرية عريقة تنطلق من تحرير العقل واعطائه مكانة جديدة بوصفه الحاكم الاول والمرجع الاخير في كل ما يختص بمعارف الانسان واعماله، ورفض الاحكام القطعية، والتعامل مع العالم والواقع والنصوص باعتبارها مشروعات مفتوحة.
يشير فارح مسرحي في قراءته لمشروع اركون، الى تشديده على تحديث العقل الاسلامي الذي يقتضي اولاً وقبل كل شيء استقلالية هذا العقل وقبوله بنقد معارفه بعيداً عن الدوغمائية والنظرة الارثوذكسية التي عرفها الفكر الاسلامي في غالبية فترات تاريخه. تعتبر مهمة نقد التراث مسألة اساسية في تحرير المسلمين والعرب. فهذا التراث الاسلامي الذي يجمع النصوص المقدسة، كما تراه كل جماعة او فرقة من الفرق الاسلامية، يحوي ايضاً العادات والتقاليد السائدة التي استمرت بشكل او بآخر بعد الاسلام، يضاف اليها التشريعات والقوانين الحديثة من انتاج التدخل الاستعماري، وغيرها من التراث الخاص بالاقليات. يستخدم اركون ما يسميه مفهوم "الاسلاميات التطبيقية" في اعادة قراءة التراث الاسلامي قراءة نقدية، ويعتبر هذا المفهوم ممارسة علمية متعددة الاختصاص تريد ان تأخذ على عاتقها طرح المشكلات الفعلية التي تعانيها المجتمعات الاسلامية، ومحاولة حلها والسيطرة عليها وفق المسار العلمي والمنهجية العلمية. تنطلق "الاسلاميات التطبيقية" من واقع المسلمين وحاضرهم ومشكلاهم، فتستنبط ما يتعلق بها من تعاليم دينية واغراض سياسية ومصالح اقتصادية وغير ذلك من العوامل المؤثرة في الحركة التاريخية الشاملة للمجتمعات. من اجل ذلك، يستخدم الكاتب منهجية ترتكز على مقومات ثلاثة، الاول يتعلق باعتماد المقاربة السيميائية الالسنية لمعرفة كيف تقوم العلاقات المستخدمة في النصوص بالدلالة وتوليد المعنى. اي لماذا معنى معين وليس معنى آخر. ويستند المقوّم الثاني الى المقاربة التاريخية الانثروبولوجية والسوسيولوجية لاضاءة النصوص والكشف عن مشروطيتها التاريخية، من اجل التأكيد ان الدين ظاهرة من ظواهر الحياة الاجتماعية يمكن ملاحظتها وتحليلها كسائر الاوضاع الاقتصادية والسياسية والثقافية. فيما يهدف المقوّم الثالث المتمثل بالمقاربة التيولوجية الى كسر طوق الاحتكار الذي يلف التفسير التقليدي للنصوص المقدسة، بما يسمح ببناء لاهوت جديد وتكوين منظومة عقائدية تفسح أمام المسلمين والعرب دخول عالم الحداثة.
يولي اركون قضية العلمانية حيزاً اساسياً في مشروعه كشرط لدخول العرب والمسلمين العصر، ويرى في تحقيقها مقياساً للوصول الى الحداثة، رافضاً فكرة ان الاسلام دين ودولة او دين ودنيا. فالدولة في الاسلام، كما في المسيحية، ظاهرة دنيوية قبل ان تكون دينية، بل هي استعانت برجال الدين لتأهيل مشروعيتها. تتعلق العلمنة بإرادة الفهم والمعرفة، ويحقق تبنيها في المجتمعات الاسلامية حماية للدين ضد احتكار السلطة له، وسحب البساط من تحت اقدام الحركات الاصولية، والتمييز بين المستوى الروحي المتعالي للدين والمستوى الايديولوجي السائد. انها علمنة منفتحة على ابعاد الانسان بما فيها البعد الديني، من دون ان تكون هناك سيطرة لبعد على آخر. ومن اجل ذلك يرفض اركون العلمانية النضالية والايديولوجية التي تحققت في تركيا وبعض دول الغرب، وتحولت عقيدة ايديولوجية تضبط الامور وتحدّ من حرية التفكير.
لا يتوقف مشروع اركون التحديثي عند ظاهرة العلمانية ووجوب تحققها، فهو يشدد على احترام حقوق الانسان شرطا لتحقيق العلمنة، كما يرى ان دخول المسلمين عالم الحداثة يتوقف على احترام حقوق الانسان وترسيخ النزعة الانسانية في مجتمعاتنا. يرتبط ذلك بنظام الحكم والسلطة القائمة في المجتمع، بما يعني ان النضال من اجل حقوق الانسان يقوم اساساً على النضال من اجل تحقيق الديموقراطية. تمثل دمقرطة النظام السياسي الخطوة الاولى في طريق تحرير الطاقات الاجتماعية، وحيث يستحيل ضمان الحقوق الروحية والاخلاقية والثقافية للشخص البشري الا بواسطة النظام الديموقراطي ودولة القانون.
مما لا شك فيه ان مشروع اركون في نقد العقل الاسلامي وتحديث المجتمعات العربية مشروع طموح جداً، إذ يحتاج تحقيقه جملة عوامل موضوعية تتصل بدرجة تطور المجتمعات العربية ودرجة تكوّن القوى الاجتماعية المتعددة المشرب لحمل هذا المشروع والنهوض بتبعاته، وهو شأن لا يزال بعيداً عن التبلور في واقعنا العربي الراهن.

خالد غزال

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...