الحداثة العربية والسلطة

05-12-2006

الحداثة العربية والسلطة

يستدعي الكلام عن الحداثة العربية سؤالين، أولهما: ما هو السياق التاريخي الذي ولدت فيه؟ وثانيهما: ما هي الوقائع الاجتماعية التي جاءت بها الحداثة الوليدة؟ يحيل السؤال الأول، عادة، على الغرب الاستعماري، الذي صارعه المجتمع العربي وتعلّم منه، مبرهناً أنّ صراع طرف ضعيف مع آخر أقوى منه لا ينهى عن التعلّم والمراجعة والمساءلة. بيد أنّ الجواب الواضح يقوم في حيّز آخر يقول: ولدت الحداثة العربية في سياق تاريخي تميّز بضعف الدولة، أو ما يدعى بذلك، ذلك أنّ حضور الاستعمار المباشر، إنكليزياً كان أو فرنسياً، منع عنها الشرعية، إضافة إلى حضور «الاستقلال الشعبي الذاتي - النسبي» - الذي تكوّن خلال الكفاح ضد الاستعمار ومواجهته. يتمثّل جواب السؤال الثاني بعناصر عدة: ظهور الصحف والأحزاب السياسية والمثقفين وصعود الترجمة وبدايات تحرّر المرأة، مع ولادة أجناس أدبية حديثة، مثل: المسرح والرواية والقصة القصيرة والشعر غير العمودي والنقد الأدبي...

تحرّض هذه المقدّمات، على رغم عموميتها الواضحة، على سؤالين جديدين، هما: متى بدأ تراجع هذه الحداثة؟ وماذا تبقّى منها بعد قرن من الزمن، على اعتبار أنّها ولدت في نهاية القرن التاسع عشر، أو في مطلع القرن العشرين؟ جواب السؤال موقع للاختلاف، فالبعض يضعه في منتصف العقد الثالث من القرن الماضي، مستأنساً برد الفعل المتعصّب الذي واجه به البعض كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» وكتاب زميله علي عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم». وهناك بعض آخر يرى في ثورة عبدالناصر - عام 1952 - تاريخاً رسمياً أسّس للانقلاب على الحداثة واستئصال شروطها متكئاً على مفهوم «الحكم التسلّطي». طرف ثالث يرى أنّ الانتصار الإسرائيلي المدوّي عام 1967، وطّد دعائم تقويض الحداثة العربية في مستوياتها المتعددة. مهما تكن نزوعات التفسير وأسبابه الفكرية، فإنّ الواضح الجوهري يملي الكلمات التالية: إذا كانت هشاشة السلطة السياسية، خلال فترة السيطرة الاستعمارية المباشرة، قد سمحت بولادة هشّة لحداثة متعددة الوجوه، قابلة للنمو والتطوّر، فإنّ «دولة الاستقلال الوطني»، التي أعقبت الاستعمار، قامت، في مسار متصاعد، باستئصال محسوب لشروط الحداثة وعناصر تطوّرها. فعلى خلاف سلطة هشّة سابقة، استطاعت «دولة الاستقلال»، وبعد الهزيمة المدوّية خصوصاً أن تعيد إنتاج وظيفتها بشكل مختلف، اعتماداً على عنصرين أساسيين، غير متزامنين، هما: الجهاز الأمني الذي اجتاح المجتمع في مرافقه كلّها، مختصراً الصوت المجتمعي إلى صوت سلطوي وحيد. استطاع الجهاز الأمني أن يلغي جميع الفراغات، أو المسام، التي لم تكن سلطة ما قبل - الاستقلال قادرة على التسلّل إليها. أما الجهاز الثاني فهو الجهاز التعليمي - الإعلامي، الذي ينقل «حقيقة سلطوية» وحيدة بأسلوب لا تغيّر فيه، وبلغة ساكنة لا تحتمل التغيير. وجاءت الأجهزة السمعية - البصرية وظهور الفضائيات لاحقاً، لتوزّع على الجميع خطاباً واحداً، من دون أن تحتاج الدولة إلى «تقنيات كلاسيكية»، مثل تطوير وسائل النقل والإصلاح اللغوي وبناء المصانع وتجسير المسافة، سياسياً وثقافياً، بين المدينة والريف...

ماذا تبقّى من الحداثة المقموعة، وهو السؤال الثاني؟ يقال عادة «بقيت الحداثة الأدبية». بيد أنّ الجواب تعوزه الدقة، أو يخالطه تفاؤل رَغَبي. فالرواية، وهي «ديوان العرب الجديد»، انتقلت اليوم من طور «الظاهرة»، حال سبعينات القرن الماضي، إلى طور «الحالة»، التي تشير إلى عدد قليل من الروائيين الممتازين، أما الشعر الحديث فلا يزال مستمراً بأسمائه الكبيرة، التي اشتهرت في الستينات والسبعينات أو ولدت في هذه المساحة الزمنية، والمسرح، كما يعرف العاملون فيه، يتداعى يوماً وراء يوم، وصولاً إلى القصة القصيرة التي يحافظ عليها كتّاب معتزّون بإيمانهم.

والجوهري في هذا كلّه يقول: تنتمي غالبية المبدعين الحداثيين - العرب إلى مناخ ثقافي - سياسي سبق دولة الاستقلال (جاوز معظمهم الستين أو اقتربوا منها)، وينتمي ما تبقّى، رمزياً، وهم أقليّة، إلى ذلك المناخ، من دون أن ينتسب إليه زمنياً. وهذا الوضع جمع بين الأدب والمنفى، مكانياً كان الأخير، حال المبدعين العرب في أرض غير عربية، أو مجازياً يوحّد بين كاتب قاهري مقهور وآخر لبناني مأخوذ بفكرة التداعي ومجانسة الأحياء والأموات. يمكن التصريح اتكاء على ما سبق، وهو كسابقه لا تنقصه العمومية، بالقول الآتي: لا يتمثّل نجاح السلطة العربية، التي تساوي بين الحق والثبات، بهزيمة الحداثة، لأغراض سلطوية، بل بتوليد مجتمع قروسطي معادٍ للحداثة. إنّها فتنة الصانع والمصنوع، أو فتنة المصنوع الذي يمتثل إلى إرادة صانعه، مع مقاومة طوراً وبطمأنينة مخدوعة في طور لاحق: فإذا كان النظام القروسطي، تجريداً، نظاماً يعيّن ذاته مرجعاً كليّاً للسياسة والمعرفة والحق والحقوق والواجبات، فإنّه لا يحقق ديمومته، كما ديمومة رعيته الخاضعة، إلاّ إذا أنتج مجتمعاً قروسطياً، يبارك الثبات ويؤثّم الحركة. عندها يتداعى معنى الحديث عن الاستبداد والتسلّط والديكتاتورية، ذلك أنّ وحدة الصانع والمصنوع، أو الحاكم والرعية، تعطي ثبات السلطة شكل البداهة، أو العرف، أو القاعدة التي لا يشذّ عنها إلاّ المأفون والمأجور أو المرتهن إلى إرادة خارجية. وبداهة فإنّ القول بـ «العُرْف» يفضي إلى القول بـ «الخصوصية»، طالما أنّ الاستبداد، الذي تعافه جميع الأرواح البشرية، ترحّب به «الروح العربية» وتتأذّى من غيابه. قبل زمن «الخصوصية»، التي تسوّغ ما لا يمكن تسويغه، كان هناك حبل من المسوّغات يَنهى عن الحرية ويطالب باستقرار «روح الأمّة»، باسم التنمية وتحقيق الوحدة العربية وصولاً، طبعاً، إلى قضية فلسطين. والسؤال البسيط: كيف تمكن محاربة الصهيونية، التي هي امتداد للحداثة الأوروبية واستطالة مديدة دموية للاستعمار القديم والحديث بمقولات سياسية - فكرية تتعامل مع «البَيْعة» و «روح الأمّة» ونصاعة «الحق التاريخي» وسطوة «الخير» الذي تنصره الأرواح الفاضلة.

يحيل كل ما سبق على موضوع الأدب والحداثة الأدبية. فالممارسة الأدبية، مهما كان موضوعها، تنكر الكليّات وتتعامل مع الذاتي والفردي والجزئي والمجزوء. فالروائي لا ينتج، أدبياً، شخصية، إلاّ إذا رأى إلى ملامحها وسيمائها وخصائصها، وكل ما يمنعها عن الالتباس بغيرها، بل إنّه لا يتمايز من غيره من الروائيين إلاّ إذا أخذ بمنظور وتقنية ولغة خاصة به. وكذلك حال الشاعر، الذي يبدأ من الشعر كي يصل إلى الشاعر الذي فيه، وحال الناقد، الذي عليه أن يخرج على «المجموع» إنْ أراد قولاً لا يذوب سريعاً في بلاغة الجماعة. تردُّ سلطة الثبات على الإبداع الأدبي بشكلين: شكل بسيط سهل ميسور هو: الرقابة، وشكل آخر، أكثر حذقاً ومهارة وفاعلية هو: إنتاج الكلي وإلغاء الفردي. فالمجتمع هو الكل والحزب كلّي الأغراض والمقاصد كليّة ولغة الكل لا تحتمل التجديد والعقل كليّ لا يقبل بالاجتهاد... يصل الحديث عن الكلّي، لزوماً، إلى روح الأمّة وعقل الأمّة وواجبات الأمّة... أي إلى كل ما لا يستطيع الفرد المجزوء التعبير عنه، شاعراً كان أو روائياً أو ناقداً. إنّ أسطورة «الكل»، هي التي تجعل من الحداثة الأدبية، في العقل التسلّطي، هرطقة وضلالاً وخروجاً على الإرادة الجامعة، وهي التي تفضي إلى مجتمع يتطيّر من المتخيّل الأدبي. والآن ما معنى الدفاع عن الحداثة؟ الجواب هو نقد التقليد والمحاكاة والاتباع... أي بمعنى بسيط: نقد السلطة السياسية، التي تأخذ بمعايير قروسطية، واسعة الديمومة، كي تنتج مجتمعاً مغترباً عن الحداثة، يرى الأسماء، ولا يدقّق بمواضيع الأسماء. في كتابه «الأنظمة الشمولية والتسلّطية» الذي صدر في مطلع الألفية الثالثة، يتحدّث خوان. ج. لينر عن «التسلّط الكامل» ولا يعثر على نموذج له إلاّ في بعض البلدان العربية.

فيصل دراج

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...