الاحتلال الإسرائيلي لم يوفر حتى ثقافة المقاومة

18-09-2006

الاحتلال الإسرائيلي لم يوفر حتى ثقافة المقاومة

الانتحال”، “التحريف” “الاستيلاء على الرواية الفلسطينية” عناوين قضية أعادت الى الواجهة موضوع السرقات الإسرائيلية في الحقل الثقافي الفلسطيني، سرقات تغطي عليها عادة الجرائم السياسية الكبرى لإسرائيل... بدأت الحكاية عندما قامت الباحثة الإسرائيلية غانيت أنكوري، أستاذة تاريخ الفن في الجامعة العبرية في القدس المحتلة والأستاذة الزائرة في جامعة هارفارد، باستخدام أبحاث كمال بلاطة عن الفن الفلسطيني (نُشرت في الموسوعة الفلسطينية)، وبنسب مضمونها لنفسها في أطروحة صدرت هذا العام في لندن بعنوان “الفن الفلسطيني”. “هذه ثقافة اعتادت السرقة. حتى نشيدهم الوطني لحنه مسروق. فالمصادر الصهيونية كلّها تفيد بأنه لمؤلف مجهول، لكنه في الحقيقة لحن من مقطوعة “ما فلاست” لموسيقي تشيكي يُدعى بدريتش سميتانا” قالها الفنان الفلسطيني كمال بلاطة بسخرية مريرة كأنه يريد أن ينهي الحديث عن صدور هذا الكتاب.
لم يستطع بلاطة النظر إلى كتاب أنكوري بعد صدوره، تماماً كما كان يعجز عن النظر الى حبة برتقال فلسطينية مكتوب عليها “اسرائيل” خلال تجواله في السوق طوال ربع قرن عاشها في واشنطن... قبل أن ينتقل الى فرنسا. إذ من الصعب أن يرى فنان بحساسيته، عصارة حياته الفكرية في كتاب يحمل اسم أكاديمية إسرائيلية!
بدأت القصة قبل أشهر من نشر الكتاب عندما اضطرت أنكوري ـ قبل تسليم كتابها للمطبعة ـ أن تطلع بلاطة على مسودة الكتاب كشرط سبق واشترطه عليها لإجراء سلسلة من الحوارات عن تجربته الفنية وعن تاريخ الفن الفلسطيني. وكانت أنكوري اختارت كمال بلاطة مع أربعة فنانين فلسطينيين آخرين لتعدّ فصلاً مستقلاً عن تجربة كل واحد منهم، من بينهم منى حاطوم والراحل اسماعيل شموط.
ما حدث أن أنكوري، بعدما حاولت التملص من إطلاع بلاطة على مخطوطة الكتاب، رضخت أخيراً لإصراره وأرسلت له الفصول الثلاثة الأولى. “فوجئت حقاً وأنا أقرأ هذه الفصول. لم تصدّق عيناي شبكة الحيل الكتابية التي سخّرتها أنكوري لإخفاء المصدر الحقيقي لما أتت به من تفاصيل مختلسة من دراساتي”. ويضيف الفنان الفلسطيني: “بواسطة هذه التفاصيل، حيكت أطروحة الكتاب المنحولة برمّتها، من الأطروحة المركزية التي قضيت ثلاثة عقود من عمري في تجميع تفاصيلها والتدقيق في صحتها قبل نشرها”.
بعدها بدأ “صراع” بلاطة من أجل كشف السرقة. كتب للناشر رسالة توثّق للمقاطع المنتحلة في الكتاب مقارناً إياها بالمرجع الأصلي في دراسات بلاطة. كما أرسل نسخة من الرسالة إلى جامعة هارفارد وإلى بعض الأوساط الأكاديمية والفنية، ما جعل الناشر يجمّد بدوره إصدار الكتاب، طالباً من “كاتبته” إجراء “تعديلات” حتى يتمكن من نشره. وبالفعل أجرت أنكوري التعديلات المطلوبة، لكنها لم تعترف فيها بمصدرها المُغيّب، بل أمعنت في التمويه والتضليل المحكم لكل أثر مباشر يكشف العلاقة الحقيقية بعمل بلاطة... كأنها مقاول صهيوني يحاول محو آثار قرية.
تلقّف بعدها الإعلام هذه القضية، وراحت أنكوري تعطي أحاديث صحافية ـ أوّلها كان لموقع “الجزيرة نت” بالإنكليزية ـ عن كتابها “الرائد” الذي اعتبرته “أول كتاب” سيخرج الى النور عن الفن الفلسطيني. ونظراً الى أنّها “إسرائيلية نافذة” تجنّبت وسائل إعلام غربية (وعربية أحياناً) تغطية القضية. وسرّب أحد الفنانين الفلسطينيين المقرّبين من أنكوري، أن محاميها هدّد صحيفة “هآرتس” برفع قضية ضدها إذا تطرّقت الى الموضوع. بل وصل الأمر بأنكوري الى التصريح بأنّها قد “تقاضي” الفنان كمال بلاطة، لأن إثارته موضوع الانتحال أضرّت بسمعتها الأكاديمية! بدت واثقة أن بلاطة، الفنان الأعزل إلا من ثقافته، لن يستطيع فعل شيء أمامها... إنّها استعارة نمطية للصراع كلّه: إسرائيلية تنتهك بوقاحة، وفلسطيني لا يملك إلا أن يقاوم.
بعد ذلك، ظهرت مقالات متضامنة مع بلاطة في صحف عربية وفلسطينية، وبعض مواقع الانترنت والمدوّنات الشخصية، وهي على أهميتها بدت غير كافية بل مخجلة. فالسرقات الإسرائيلية في المجال الثقافي تكاد تصبح أمراً “عادياً”. والطريف أن هذه السرقات أخذت تصدر في الآونة الأخيرة عن “مناضلين” إسرائيليين يدّعون أنهم يدافعون عن الحقوق الفلسطينية. فالكاتب العبري سامي ميخائيل صدم كثيرين عندما انتحل رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” في روايته “حمائم في ترافلغار”. ثم قال في حوار صدر ضمن ملحق صحيفة “هآرتس” إن كل ما فعله كان تقديم رؤيته الخاصة للرواية، أي انه صاغها من جديد لأن كنفاني لم يحسن كتابتها! وهو لا يرى انتحالاً في ما قام به، ويكفي أنه يشير إلى غسان كنفاني في حواراته!
ميخائيل هو نفسه الذي شاهدناه في الفيلم الوثائقي “انس بغداد”، وهو يقول إنّه عاش حياته في مواجهة إسرائيل، فإلى أي مدى تراه ابتعد عن الايديولوجية الصهيونية إذ تعامل مع نص لكاتب فلسطيني بحجم كنفاني كأنه أغنية رعوية؟
وبالمنطق نفسه الذي يجد جذوره في “اللاوعي الاستعماري”، تعاملت أنكوري مع المراجع الفلسطينية، وتحديداً أبحاث بلاطة، كأنها مصادر شفهية أو مواد أوّلية لا ترقى في نظرها إلى مستوى المرجع!

نجوان درويش

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...