أبو حيان التوحيدي بين إحسان عباس ومحمد كامل الخطيب

01-03-2007

أبو حيان التوحيدي بين إحسان عباس ومحمد كامل الخطيب

من بين ما يميز عقد السبعينيات- في القرن العشرين- ثقافياً تجدد الاهتمام بالتراث ومحاولة اعادة النظر اليه عبر عيون جديدة ففي هذا العقد ظهرت كتابات الطيب تيزيني وادونيس وزكي نجيب محمود وحسن حنفي وحسين مروة، ثم تلتها اعمال محمد عابد الجابري ومحمد اركون ومحمد شحرور وغيرهم، اضافة الى اعمال السلفيين وطوفان الكتب التراثية، وكلها اعمال كتابات كانت تتوجه نحو الماضي، في راهن عربي كان آنذاك- بدوره-يزداد تعقيداً وتشابكاً.
ولم تكن تلك هي المرة الاولى التي يسأل فيها المثقفون العرب ماضيهم في القرن العشرين، ففي عقد الثلاثينيات من هذا القرن توجه المثقفون العرب سؤالهم نحو الماضي، فظهرت كتابات محمد حسين هيكل وطه حسين والعقاد واحمد امين وجميل صليبا وغيرهم، حول التراث وموضوعاته وشخصياته، فما هو الجديد الذي اوجب اعادة سؤال الماضي؟ وهل سؤال السبعينيات- في القرن العشرين - للماضي، هو نفسه سؤال الثلاثينيات؟ أو لماذا اذاً كانت اعادة قراءة الماضي؟ اعادة سؤال التراث في وقت معين بالذات، وهل استطاع الفكر العربي- آنذاك- حل مسائل الحاضر ومشكلاته، ليتفرغ ويستدير نحو الماضي/ ذلك سؤال يطرحه تعقد الواقع العربي في مرحلة النهضة، وبالتالي تعقد مسائل الفكر واشكال الفكر، الذي يحاول فهم هذه النهضة في حركتها المعقدة.
 لكن سؤال الماضي ليس بعيداً عن سؤال الحاضر، ما دام السائل معاصراً فالماضي ليس جثة ميتة، بل هو نسغ مايزال يمتد في حاضرنا مشكلاً بعداً من ابعاده وإلا من ذا الذي يستطيع الادعاء ان الغزالي او ابن تيمية، أو احمد بن حنبل، ميت، او انه عديم التأثير في حاضرنا؟ وربما لا نبالغ عندما نقول: ان مفكرين من امثال احمد بن حنبل وابن تيمة، مايزالون يؤثرون في حياتنا تأثيرات لاتقل عن المحدثين، امثال سلامة موسى وطه حسين وساطع الحصري وغيرهم، ان لم تزدها، بهذا المعنى فالماضي وجه من أوجه الحاضر، وبعد من ابعاده ،والتاريخ والواقع اعطيانا امثلة عن خلافات وصراعات حول الماضي ومسائله، لكنها كانت في حقيقتها تتعلق بالحاضر، فالخلاف،مثلاً، على تفسير فلسفة ابن رشد، او قصة حي بن يقظان، ليس خلافاً وصراعاً حول مسألة تراثية، او حول هذا المفكرالذي عاش في الماضي، بل هو خلاف حول الراهن وفيه، خلاف بين تيارات وقوى اجتماعية- ثقافية تتصارع في الحاضر وعلى الحاضر لكن الماضي والتراث هما احدى ارضيات الصراع واحد تجلياته او اشكاله، وثياب الماضي التاريخية، على كل جلالتها، لن تستطيع ان تخفي وقائع الحاضر الشفافة.

- من غريب المصادفات أنني لم أكد أنتهي، ذات يوم، من قراءة كتاب الحيوان للجاحظ، حتى وقع في يدي كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان -اتفاقاً - فإذا بي أمام جاحظ آخر يبهرني بروعة أسلوبه، وطرافة اتجاهه، وتنوع موضوعاته، فتركت الجاحظ جانباً، وتعلقت بأبي حيان، وبعد الإمتاع عكفت على المقابسات، وعلى رسالته في الصداقة، فقرأتهما، وأخذت أجمع الملاحظ عن عصر الرجل وحياته وثقافته، وإذا بي أسلك هذا الذي جمعته في كتاب هو إلى القصة أقرب منه إلى الترجمة.
كان ذلك في فترة الحرب الثانية- وكنت يومئذ بمدينة صفد من فلسطين - وبعد انتهاء الحرب بقليل، سافرت إلى مصر للدراسة، فتزودت من المصادر بما لم أكن أعرف، واطلعت على مناهج كانت قبل الدراسة الجامعية مجهولة لديَّ، فتغيرت نظرتي إلى القصة التي نسجتها، وعندئذ عمدت إلى مافيها من حقائق فاستخرجتها، وأضفت إليها ما جدَّ من معلومات، وكتبت شيئاً شبيهاً بالرسالة الجامعية في منهجه وتبويبه.
ولم ألبث أن غادرت القاهرة إلى الخرطوم فعدت -مرة- إلى تلك الرسالة التي كتبتها، وإذا بالرضا الذي كنت أمنحها إياه قد تزعزع، ورأيتني أقبل على كتابتها من جديد، فلا أنا أخط قصة، ولا أنا أكتب رسالة جامعية، وإنما أمزج بين الاتجاهين، فأكف من غرب الخيال وألتزم الحقيقة، وأستخف بهذه المحاكمات حول الروايات والأخبار، وأوجز في أشياء أطلت فيها، وأطيل في أمور كنت أوجزتها، وأجدني أستشف من نفسية التوحيدي، ومن طبيعة موقفه في الحياة، أموراً كانت تخفى عليّ، وبعد أن صحّ لي من هذا الكتاب الوجه الذي ارتضيته، دفعته إلى المطبعة، قبل أن تتغير إليه نظرتي، فأُعمل فيه يد التغيير والتحوير.
تلك فترة طويلة، نقلتني بين فلسطين والقاهرة والخرطوم، وقلبت هذه المعلومات على ثلاثة أوجه، فمحت أشياء وأثبتت أشياء، ولكنها لم تستطع أن تمحو صداقتي للتوحيدي، ولا أن تزهدني فيه، وأشهد لقد زادتني الأيام إكباراً لفنه، ولا أريد أن أنتحل موقف المحسن المتصدق، فأقول: إنها زادتني عطفاً على وضعه الاجتماعي، ولكني أقول: إنها عجزت عن أن تكحل عيني بالمثالية التي قد تحقر أبا حيان أو تلحظه بازدراء.
ولم آسف، وأنا أنتهج هذا النهج، لأني خنقت النهج القصصي في هذا الكتاب، ولا أسيت على أني قللت فيه من تعالم الجامعيين وحذلقتهم المنهجية.
فقد وجدت بديل ذلك كله في رسم خط لنمو الشخصية والثقافة والنفسية، وفي نقل الصراع بين التوحيدي ومجتمعه، وفي تصوير القبضة الحديدية التي نسميها «النشأة الأولى» وفي الحديث عن المهواة المترامية، بين الواقع والمبادىء المثالية.
وكفاني هذا المنهج أمر الدخول في لجاج الخصومة بين الآراء كأن أسأل: هل كان التوحيدي زنديقاً؟ هل كان وضاعاً للحديث والأدب؟ هل كان مفكراً أصيلاً؟ هل كان... هل كان... فإن البناء الذي اخترته لهذه الدراسة كفيل بالإجابة عن هذه الأسئلة في غير جلبة أو ضوضاء.
وأعفاني هذا المنهج نفسه من الوقوع في خطأ آخر تتصل جريرته الأولى بياقوت الحموي، حين قال في أبي حيان «وكان متفنناً في جميع العلوم من النحو واللغة والشعر والأدب والفقه والكلام على رأي المعتزلة» فذهب الدارسون المحدثون يتحدثون عن علاقة التوحيدي بكل علم من هذه العلوم، على حده، وعندما أرادوا أن يضعوه بين النحويين أو اللغويين أو الفقهاء أو المحدثين لم يجدوه هنالك، لأن التوحيدي لم يكن واحداً من هؤلاء - لقد كان واسع الاطلاع حقاً يعرف الفقه والحديث والتصوف والتاريخ والنحو على خير ما يعرفه من يتصلون بهذه العلوم، ولكنه قبل كل شيء آخر، كان أديباً فناناً، والأديب الفنان يشارك في أشياء كثيرة، ليتميز بشخصيته وطبيعته وطريقته، فقصارى جهدنا أن نصوّر مدى تميزه في موقفه الفني، لا مدى مشاركته في الرواية، لأننا نستطيع أن نلخص تلك المشاركة في جملة أو جملتين، فنقول: «كان محيطاً بأطراف العلوم الإسلامية وعلوم الأوائل، واسع الرواية في كل علم».
وربما كانت هناك ناحية واحدة إلى جانب الميزة الفنية تستحق البحث حين ندرس أبا حيان، وتلك هي مهارته في الخط ومعرفته بأنواعه وأنواع الأقلام، وإنما أغفلت النظر في هذه المسألة لبعدها عن بيئتنا في العصر الحاضر، ولانعدام الشواهد اللازمة من خط التوحيدي نفسه، ومن أنواع الأقلام والخطوط، وما إلى ذلك: بل إن هذه الشواهد لو وجدت، لكان غير هذا الكتاب المختصر مجالاً لدراستها.
وأخيراً أدعو بما دعا به أبو حيان، وهو أبلغ من كتب في فن المناجاة:
«اللهم... وأرنا الحق في معرضه البهي المونق حتى ننتحله موقنين، وبيّن لنا الباطل في منظره الزري حتى نولي عنه معرضين، وفي الجملة والتفصيل كن لنا ناصراً، ومعيناً حاضراً، وإلينا ناظراً، وهيئنا للحذر من خطرات الحيرة، ونظرات الحسرة... ياذا الجلال والإكرام، ويا مصرف الأيام بين النقض والإبرام».

إحسان عباس
بيروت -حزيران (يونيو) 1956

من هنا يكون سؤال الماضي نتاجاً وان لم نقل شكلاً للسؤال الاساسي الا وهو سؤال الراهن، فالانسان لايطرح على نفسه الا الاسئلة التي يحتاج الى اجوبتها في حياته وراهنه، والماضي يعنينا بمقدار ما يشغلنا في الحاضر، وسؤال الراهن وقضيته منذ أوائل القرن التاسع عشر، المستمر هو سؤال: النهضة وقضيتها، او بصريح العبارة مغادرة الماضي.
 لكن الكلام الذي تقدم لا يعفينا من محاولة تبيان الاسباب التي جعلت قسماً كبيراً من الفكر العربي في سبعينيات القرن العشرين وما بعد، يتجه نحو الماضي، اذ ما الذي يجعل شاعراً كأدونيس ، يبحث في التراث ويكتب «الثابت والمتحول» وما الذي يجعل مناضلاً وناقداً كحسين مروة، يبحث في «النزعات المادية في الفكر العربي الاسلامي» وما الذي يجعل استاذ فلسفة، كالطيب تيزيني يبحث في «التراث والثورة» اليس الشاعر المناضل والاستاذ من اخصائيي الحاضر فلماذا يتجه هؤلاء الى الماضي اذاً؟
 بدهي ان معرفة الواقع تؤدي الى معرفة الاسباب التي جعلت هؤلاء المثقفين يسألون الماضي، ليكون سؤال الماضي قناعاً لسؤال الحاضر او شكلاً من اشكاله، ان تحليل الواقع العربي في حركته المستمرة منذ اوائل القرن التاسع عشر يستطيع ان ينير لنا الطريق التي سلكها هؤلاء المثقفون نحو الماضي، فالحاضر هو الذي يفسر الماضي وليس العكس، كما يقول السلفيون(1)، عندما ينطلقون من الماضي في تفسيرهم للحاضر، فعبر الزمن تكتمل ادواتنا وقدرتنا على التحليل، والشيء يدرس في نهايته وليس في بدايته، بهذا تصبح مشكلة التراث والماضي عموماً مشكلة للمجتمع والفكر العربي المعاصر، وهو يسائل ذاته وراهنه عبر التراث الذي صار موضوعاً معاصراً لهذا الفكر، والاختلاف بين سؤال السبعينيات الذي قام به ادونيس ومروة وتيزيني وغيرهم، وبين سؤال الثلاثينيات الذي قام به طه حسين والعقاد واحمد امين والعقاد هو اختلاف في درجة ونوعية التطور الاجتماعي- الثقافي - الفكري بين مرحلتين زمنيتين مشاهما المجتمع والفكر العربي خلال هذه الفترة مثلما هو اختلاف في شكل المسائل الاجتماعية والسياسية المطروحة، واختلاف في شكل التركيب الاجتماعي وفي محتوى القوى الاجتماعية المتصارعة في المجتمع في كل مرحلة، وإن لم تكن معالجات التالين افضل من معالجات السابقين بالضرورة.
 في الثلاثينيات كانت هناك ملامح واسس برجوازية محلية تتكون وتصعد متشكلة بتأثير الغرب، ومنطلقة من رحم طبقة «ملاكي الاراضي» الريفية والساكنة في المدن عموماً، وتعبر عنها ليبرالية فكرية وسياسية في طور التشكل ، وكانت هذه الطبقة بحاجة لتملك واقعها عبر تملك تاريخها معرفياً، وهكذا قدمت تصفية حساب فكرية مع واقعها عبر تراثها، وربما من هنا نفهم تلك النزعة العقلانية المعتزلية لدى احمد امين وطه حسين ومحمد حسين هيكل، في ابحاثهم التراثية. بينما قسر العقاد الموضوع بالعبقرية، فكتب سلسلة «العبقريات الاسلامية» اما في السبعينيات، فالبرجوازية المحلية والليبرالية، بل و«القوى الثورية» المتكونة نتيجة الحركة السكانية الجديدة والهجرة من الريف الى المدينة،وتوسع المدن كانت قد قاربت حد الاخفاق، وبدأ يتكون تشكيل اجتماعي ثقافي جديد يشكل الفكر اليساري احد اهم مقوماته ،ولهذا يلاحظ ذلك المزيج من النزعة الهيكلية والماركسية في ابحاث التيزيني وأدونيس وحسين مروة ان ذلك يعني في جملة ما يعني، ان المجتمع العربي مشى في اعادة تشكيله وتركيبه، واستيعابه الافكار الغربية ، خطوة الى الامام ومشى مسافة بين طه حسين العقلاني الديكارتي المتعاطف سياسياً مع حزب ملاكي الاراضي ، وبين حسين مروة الماركسي، مثلما يعني - بالمقابل- ان الموضوعات والافكار السلفية عادت تطل برأسها ونجحت في جذب «التقدميين» الى ارضها وميدان بحثها المفضل وعلى ارضية من هزيمة الخامس من حزيران 1967، وهي هزيمة للمجتمع العربي بمقدار ما كانت هزيمة للـ «تقدميين» وانظمتهم الحديثة.
 إن كونية التاريخ العالمي الحديث، وشمولية الثقافة الانسانية المعاصرة، تطرح على كل ثقافة موضوع تراثها الخاص ،وكأنها بذلك تطرح مسألة عمومية النظرية وتميزها معاً وكأنها تطرح مشكلة الخاص والعام مسألة الكوني والمحلي ، فما من نظرية ذات صفة شمولية تستطيع برهنة صحتها الا عبر مقاربتها، لـ«الخاص» والفكر الغربي المعاصر وربما تاريخياً منذ اليونان يطرح نفسه كفكر شمولي انساني ضمن هده الصيغة، فهل تستطيع النظرة الحديثة وهي نظرية غربية، كونية، ان تحل اشكالات الواقع العربي المعاصر ذي البعد التاريخي - الثقافي الموغل مئات القرون في الماضي ؟
 هذا هو السؤال- التحديث الذي تطرحه علينا وعلى نفسها تلك الابحاث التي حاولت في السبعينيات تناول التراث من وجهة نظر ومنهجية جديدة اياً كان الرأي في مقدار اهميتها وجودتها او توفيقها، فهذا السؤال يعنينا لأنه في الحقيقة سؤال لواقعنا، فيه وعنه، وسؤال الواقع الراهن هو سؤال اجتماعي سياسي، وليس مجرد سؤال معرفي فقط، من هنا تكتسب هذه الابحاث بعدها الراهن، وتكتسب دلالتها المعرفية- السياسية الراهنة ، وإن تمت على ارضية تراثية او على أرضيةالثقافة القديمة.
 لم يكن سؤال الماضي اذاً ترفاً فكرياً، او هروباً من الراهن نحو واحة الماضي الآمنة لكنه كان دخولاً جريئاً في حقل الغام شديد الخطورة كان دخولاً معرفياً مباشراً في قلب الصراع الاجتماعي - السياسي، وان صب في طاحونة السلفيين وقتها عبر احدى اهم المسائل الا وهي مسألة الماضي الذي ما يزال حاضراً ،وكأنه بذلك يسحب الحاضر نحو الماضي يسحب الاحياء نحو الموتى، فيجعل الاحياء امواتاً والاموات احياء، يجعل ابن رشد وابن تيمية والقديس اوغسطين وتوما الاكويني والغزالي حاضرين في القرن العشرين ويجعل ادونيس وحسين مروة والتيزيني اسرى في شبكة الماضي المعقدة وغائصين في القرون الهجرية الاولى وما تلاها.
 ثمة نقطة اخرى قد تساعدنا في تحليل الاسباب التي جعلت سؤال الحاضر يأخذ شكل الماضي او يتقنع به وهي الحالة المتردية للمجتمع العربي الحاضر لكن الذي يملك في الوقت نفسه تاريخاً مجيداً لمجتمع كان مزدهراً وها هو يعاني الذل والصغار والتخلف ومصاعب التحول التاريخي، بل والهزيمة العسكرية والاجتماعية امام حضارة متجددة متفوقة بل وأمام دولة صغيرة «مصطنعة» هي اسرائيل وفي هذه الحالة أليس طبيعياً ان يلتجىء بعضهم الىماض مزدهر هرباً من حاضر متخلف؟! أليس من الطبيعي ان تهاجم الحضارة الحديثة باسم الماضي وتتهم بأنها« جاهلية القرن العشرين»؟ كما قال محمد قطب في ستينيات القرن العشرين الا نجد في هذا الوضع تفسيراً لكل التيارات السلفية التي تنادي بالعودة الى الفردوس الاسلامي المفقود،والتي لا تجد حلاً لمشكلات الحاضر الا في الماضي ؟
 ذلك كان موقف أوائل المثقفين العرب الذين اصطدموا بالغرب والواقع معاً، فلجؤوا او عادوا الى الماضي» الى التراث، وكانت تلك هي الخلفية الفكرية للشعراء الذين اسسوا ما يمكن تسميته بـ«الكلاسيكية الجديدة» بدءاً من محمود سامي البارودي ، وانتهاء بأي شاعر يقتفي نمط القصيدة العربية التقليدية وذلك هو موقف مجتمع متخلف ذي ماضٍ عريق امام حضارة جديدة زاحفة تطالب - بل وترفض - بتغيير كل القيم فهل من عجب اذاً ان يتشبث هذا المجتمع ، وهو ما هو عليه من التخلف والضعف والقهر بماضيه، غاضاً الطرف عن الراهن البائس؟ وهل من عجب ان يتباهى هذا المجتمع بالماضي في وجه الغازي، لا بل ان بعضهم تجمح به المباهاة التعويضية الى ايجاد اساس الحضارة الحديثة في الحضارة الاسلامية بينما يتعمق آخرون في التنقيب التراثي ليكتشفوا ان اساس النظرية المادية انما هو قائم في المصادر الفلسفية عندنا، او في تاريخنا وتراثنا ويزيدنا بلبلة ان مفكرين «غربيين» أمثال غارودي وجاك برك وماسينيون، يدغدغون عواطفنا وتخلفنا ومباهاتنا، بل وتماهينا بالماضي، ليقولوا لنا: انتم الاساس والمآل، فحافظوا على انفسكم كما انتم، وبمعنى آخر، ظلوا على حالكم المختلفة، وهم يرفضون كونية التاريخ العالمي الحديث وشمولية الثقافة الانسانية المعاصرة تحت مقولات مختلفة مثل الخصوصية والاصالة والعودة الى التراث ،ونقد استيراد الافكار وغيرها من المقولات والافكار التي يأتي اصحابها في مقدمة من يناقضها.
كان كتاب الطهطاوي، عن السيرة النبوية اول كتاب عربي في عصر النهضة الحديثة يعود الى الماضي سائلاً ومستلهماً، فمن خلال سيرة النبي، اراد الطهطاوي ان يقدم معادلاًحضارياً متقدماً ومتحدياً للنمط الاوروبي المتقدم والواقع العربي المتخلف عبر شخصية النبي بكل عبقريتها وجلالتها التاريخية، وبهذا تكون عودة الطهطاوي الى الماضي وسؤاله له، بل واستنجاده به، محاولة للاجابة عن اشكالية سؤال الحاضر آنذاك- القرن التاسع عشر- فكم هي طويلة الطريق التي سيمشيها المجتمع العربي في الرد على التحديات وسؤال الواقع منذ هذا كان الفكر يلجأ الى الماضي في سؤال الحاضر الى ان يصل هذا المجتمع الى مرحلة يصير فيها قادراً على دراسة الماضي كماض اي ضمن معطياته وظروفه التاريخية، ودون اية اسقاطات او دوافع سياسية راهنة، او دون اية عقد نفسية نحو الذات او الاخر، بل ودون اية تمركزات ذاتية او انبهارات بالآخر .
 إنها طريق طويلة وشاقة لكن المجتمع العربي المعاصر وثقافته يمشيانها وفي شجاعة المسير، حتى ولو كان متعثراً كما في شجاعة السؤال، حتى ولو كان متلعثماً تكمن امكانية الجواب وانفتاح الافق.
 نلاحط ان اعادة النظر في التراث والبحث فيه عموماً ،وهو ما تكاثر في عقد السبعينيات من القرن العشرين اضافة الى المسلسلات التلفزيونية والاذاعية وحركة بناء المساجد والكنائس، اكثر من المصانع والمدارس والمستشفيات والمصانع، بدلا من بحث مشكلات الواقع الراهن بمشكلاتهما العيانية من سياسية واقتصادية وثقافية انما كان يعني نجاح السلفيين في جذب الطرف الآخر الى ميدان بحثهم المفضل، اي الى الماضي وقد تم ذلك بعد ان فرض السلفيون حضورهم كقوة اجتماعية وسياسية فاعلة وبمساعدة اموال الفورة النفطية وعلى ارضية من التحولات السكانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية باتجاه الرأسمالية اي مزيد من تكامل الارتباط التبعي بالسوق العالمية ورافقها هجرة مكثفة من الريف الى المدينة واشتداد سيطرة الدولة ومفاهيمها التسلطية على المجتمع المدني، كما رافقها - بالمقابل وكرد فعل - دعوات للعودة الى الماضي بالنسبة لقطاعات كبيرة من المفكرين والافراد والحركة السياسية، مما احدث تبدلاً في ميادين الاهتمام والبحث وتغيراً في انماط القيم وربما يكون ذلك احد الاسباب الرئيسية في ذلك الارتباط الذي نلاحظه في أبحاث التقدميين العرب عن التراث، هذا الارتباط الذي يتجلى، أول ما يتجلى، في النزعة «الانتقائية» حيث جرى البحث المحموم عن جذور «المادية» عموماً و«الاشتراكية العلمية» خصوصاً، في التراث، وكأن ذلك كان تسويغاً وبحثاً عن مشروعية، أو «شرعنة» وتأصيلاً للأنظمة الحاكمة التي طرحت شعار الاشتراكية، في الستينيات من القرن العشرين، وكانت قد بدأت تحس بافتقادها للمشروعية، وخصوصاً بعد الخامس من حزيران عام 1967، أو في محاولات «تكييف» التراث لمآرب ايديولوجية وسياسية آنية.
ثانياً، في حين ان النظرة المنهجية العلمية لأي موضوع، تقتضي دراسة الظواهر، وحتى الثقافية منها، ضمن ظروف الظاهرة ومعطياتها التاريخية، أي ضمن الشروط، أو النسيج الاجتماعي - الثقافي الذي ولدت وترعرعت وتحولت فيه، ومن خلاله، الظاهرة، أضف إلى ذلك مفارقة طريفة وذات دلالة، وهي ان التقدميين الذين يفترض فيهم ومنهم نقد التراث وربما نقضه، ظهروا آنذاك، وكأنهم المهتدون أو الملتجئون إليه، فهل كانت هذه «انتهازية» أم «ارتداداً» أم «توفيقية» أم كانت مجرد تخبط؟!.

-هذا كتاب للدكتور إحسان عباس (1920 - 2003) يناقش شخصية أو موضوعاً تراثياً، ألا وهو «أبو حيان التوحيدي» من وجهة نظر عصرية وحديثة، وبأدوات ورؤية حديثتين، وهو مثال لدراسة الماضي، كماضٍ، لكن بعيون ورؤية وأدوات حديثة تحاول اكتشاف ما هو مستمر فيما هو قديم، وما هو قديم فيما هو حديث، وهل من قديم - جديد مثل شعور «الغربة» وإحساسها لدى الإنسان الحديث، وهو ما كان مدار فكر وحياة أبي حيان التوحيدي.
وزارة الثقافة ودار البعث تقدمان هذا الكتاب للقراء الأكارم.    

هوامش:
(1) معروف هو قول لايبنتز: ان الاشياء الدنيا موجودة في الاشياء العليا ، بأكمل مما هي في ذاتها.

 محمد كامل الخطيب

 

 

المصدر: البعث

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...