قرار بتعليق التعليم المفتوح

21-06-2006

قرار بتعليق التعليم المفتوح

منذ أكثر من نصف عام صرح معاون وزير التعليم العالي آنذاك لجريدتنا أن هناك مشروعا لإحداث دراسات عليا لطلاب التعليم المفتوح, وجاء التصريح في إطار تحقيق صحفي عن أحقية خريجي هذا التعليم في الالتحاق بالدراسات العليا أسوة بخريجي التعليم الرسمي.‏

لكننا فوجئنا بصدور قرار يعلق التسجيل في معظم فروع التعليم المفتوح, بداية لمدة غير محددة, ثم لمدة عام حسب بعض التصريحات..‏

وقبل الخوض في ملابسات القرار, أود الإشارة إلى أن السياسات التعليمية قبل عام 2000 قامت على ركيزتين أساسيتين: الانتشار الأفقي والاستيعاب, معتبرة أن مجانية التعليم بكل مراحله, لا سيما العالي هو جزء رئيس من العملية التنموية, لكن مع انطلاقة توجهات حكومية جديدة, تبين أن نسبة خريجي التعليم العالي في مؤسساتنا تتراوح بين 8-12% وأن حوالى 66% من العاملين هم إعدادية ومادون, كما تبين أن المعاهد المتوسطة, لا سيما الفنية منها, ظلت تحمل مأزق العقلية المجتمعية السائدة المتمثلة في إضفاء طابع لعبة المواقع الاجتماعية على التعليم, وهكذا وجدنا الكثير من خريجي المعاهد يبادرون إلى التوجه نحو التعليم الجامعي بكل سبله في محاولة للخلاص من الحلقة الوسطى في التراتبية التعليمية والأهم للخلاص- حسب اعتقادهم- من بطالة مؤكدة في سياق توجهات اقتصادية جديدة.‏

وهكذا, صيغت سياسات تعليمية جديدة حاملة في ثناياها التنوع,ومدركة أن التعليم هو استثمار مربح ببعديه الاقتصادي والمجتمعي والأهم التنموي, آخذة في الاعتبار أن اقتصاد السوق بحاجة إلى كميات ونوعيات من مخرجات التعليم تتناسب وأفقه الجديد.‏

لكن كما يقال: (الحلو عندنا مايكمل) أطلقت وزارة التعليم العالي مجموعة من برامج التعليم الخاص بالتوازي مع فتح الباب للجامعات الخاصة, وبدل أن تكون تلك البرامج أداة تنافسية حقيقية والأهم أداة تحريضية لرفع سوية وتنافسية الجامعات الخاصة, يبدو أنها تحولت إلى عبء رغم مردوديتها العالية, وصار الكثيرون يشيرون بالبنان- أو على الأقل يشككون- أن هناك مصالح وشراكات عليا تعمل على طريقة (اضرب واهرب) في سوق تعليمي خام يحمل كل مقومات الربحية.‏

مبدئيا, ينص القرار على إيقاف تسجيل المنتسبين الجدد في البرامج التالية:‏

الحاسوب ونظم المعلومات في الاقتصاد والمحاسبة والإدارة بجامعة حلب وهندسة المعلومات في جامعة تشرين وهندسة استصلاح واستزراع الأراضي في جامعة البعث لأنها تتطلب تدريبا عمليا وتطبيقات فنية لا تتوافق مع امكانياتها من جهة, ولا مع واقع التعليم المفتوح من جهة أخرى.‏

وفي جامعة دمشق علق القرار الانتساب إلى الإعلام والمحاسبة والدراسات القانونية.‏

د. أحمد نتوف مدير التعليم المفتوح برر القرار بزيادة عدد الطلاب غير المتوقعة من 2200 طالب عام 2001 إلى حوالى 60 ألف طالب عام 2006 ولو ظل التسجيل ساريا هذا العام لوصل عدد الطلاب إلى مئة ألف وليس هناك إمكانية لتخديم هذا العدد الكبير الذي تتسبب امتحاناته بتعطيل المحاضرات في الجامعات النظامية.‏

أما د. رياض عجلاني أمين مجلس التعليم العالي فعزا الأسباب إلى عدم استكمال البنية العلمية لتحقيق أهداف هذه البرامج, مستشهدا بوجود حاسوب في جامعة حلب, ومع ذلك لم يستخدمه أحد من طلاب الحاسوب والمعلوماتية!! مضيفا أن هناك لجنة ارتأت وجود قصور في برنامج استصلاح الأراضي من الناحية العلمية وأن المنهاج وضع أساسا في مصر للفلاحين ونقل كما هو لإعطائه لطلاب الهندسة الزراعية!! وأشار عجلاني أن سبب تعليق الفروع النظرية في جامعة دمشق يعود إلى أنه لا يمكن السماح لعدد الطلاب في التعليم المفتوح أن يغدو مساويا لعدد طلاب التعليم الجامعي النظامي.‏

معاون وزير التعليم العالي د. علي أبو زيد قال: إن سبب القرار هو وجود خطة عمل لدى الوزارة شكلت على أساسها عدة لجان لدراسة واقع التعليم المفتوح وتطويره بما ينسجم مع أهدافه وغاياته وتخليصه من المعوقات التي ظهرت بعد تطبيقه, واتخذ هذا القرار بالاستناد إلى لجنة قيمت واقع البرامج وطبيعتها ومدى تطابقها مع مفهوم التعليم المفتوح المعتمد على أسلوب التعلم الذاتي, ووجدت أن هذه البرامج تتطلب تدريبات عملية وفنية لا تنسجم في حقيقة الأمر مع مفهوم التعليم المفتوح, وفي بعض البرامج أوقف التسجيل بسبب الأعداد الكبيرة وعدم قدرة الجامعة على الاستيعاب.‏

هنا, أعود للتساؤل: هل تحتاج المبررات السابقة إلى أي تعليق?‏

أجل, لقد اكتشفنا فجأة, ونحن على أبواب افتتاح العديد من الجامعات الخاصة تقارب 18 جامعة, أن أعداد طلبة التعليم المفتوح كبيرة وتؤثر على امتحانات(لاحظوا فقط الامتحانات) التعليم النظامي, وأن المناهج لا تتناسب مع طبيعة هذا التعليم, مع أن هناك مناهج تم تأليفها وأنجزت خصيصا له, وإن البنية التحتية غير مستكملة, وأن وأن.. إلخ.‏

حسنا, لقد تنامت هذه المشكلات والمعوقات على مرأى من وزارة التعليم العالي, فهل فكرت بعلاجها? ألم تكن تعرف أن هناك فروعا وبرامج تطبيقية وعملية?‏

ألم تكن تعرف أن منهاج استصلاح الأراضي وضع للفلاحين وليس للمهندسين?! ومن المسؤول عن اكتشافات من هذا النوع بعد خمس سنوات?!! والأهم كيف سنثق بتخطيط المستقبل وسياساته إذا كانت هذه نتائج سياسات الماضي تشمخ برأسها أمام ناظرينا?‏

د. نتوف يرسم لنا صورة المستقبل الذي سيغدو يوما ما حاضرا: بينما علقت الجامعة هذه البرامج وجهت خططها لإنشاء مكان لاستيعاب ضعف الأعداد الموجودة حاليا في بلدة يلدا على مساحة 84 دونما واتخذت خطوات لتحسين التعليم المفتوح بإنشاء موقع على الانترنت لتقديم خدمات للطلاب.‏

المفارقة أن بعض أعضاء الهيئة التعليمية العليا يؤكدون على نجاحه, فمدير التعليم المفتوح يرى سبب الإقبال في الرسوم المرتفعة للتعليم الخاص ورفع المعدلات في الجامعات الحكومية والأسعار المعقولة لهذا التعليم ورغبة الناس بزيادة خبراتهم وثقة الطلاب بهذا النظام لاسيما وأنه حكومي وشهادته معترف بها وتوازي شهادة الجامعات النظامية, ويؤكد د. موفق زعرور أن التجربة ناجحة جدا لأن عدد الطلاب وصل إلى أكثر من 120 ألف طالب وأنه ينبغي عدم إيقافها لمجرد مشكلات إدارية يمكن حلها.‏

وفي هذا السياق, يتساءل د. محمد العمر المدرس في قسم الإعلام: هل يحل الإيقاف أو الإلغاء المشكلة? ولماذا لا يتم إصلاح هذا التعليم بدل إلغائه?‏

د. العمر: هناك انعكاسات سلبية للقرار على الطلبة والأساتذة ولا يعرف إن كانت مقصودة أم لا, لكنه- أي القرار- يوحي أن التعليم المفتوح بدأ بالانهيار والتراجع ما يزعزع الثقة بهذا النظام التعليمي المشكوك فيه أصلا منذ بدايته, وحتى الآن لا يعرف طلابه ما مصيرهم, وبدل الإلغاء والتعليق كان يمكن إيجاد أنظمة وقوانين تحد من الضغط الهائل للطلاب, كعدم السماح بالتسجيل إلا لمن مضى على نيله الشهادة الثانوية العامة عدة سنوات مع التوجه الفوري لإيجاد مخابر واستديوهات ومطابع..الخ.‏

وينقلنا هذا التساؤل للدكتور العمر إلى جانب آخر من إشكالية التعليم المفتوح: هناك المليارات من عائدات هذا التعليم, فلماذا لم يتم تبديل مقعد? وهل ستحل المشكلات التي بلغت عامها الخامس بواسطة التعليق والتوقيف?‏

على أي حال لم نحصل على رقم دقيق مع إدارة هذا التعليم, لكن بحسب تقديرات بعض المصادر يبلغ 2 مليار ليرة سورية سنويا على الأقل, وبدراسة جدوى اقتصادية بسيطة, بل بالحس المباشر لأي مستثمر, سنكتشف أن هذا التعليم أمّن ما يكفي لبناء أكثر من جامعة ببنى تحتية وعلمية تضاهي العديد من الجامعات الخاصة مجتمعة.‏

لكن القوانين والأنظمة لم تكن تسمح باستثمار هذه العائدات- كما يقول أصحاب الشأن- في وزارة التعليم العالي وبالتالي وصل التعليم المفتوح إلى عنق الزجاجة محاصرا من فوق بسدادة النظم والقوانين ومن تحت بهشاشة بنية تحتية تعليمية متكلسة, مع أننا نتجه إلى اقتصاد سوق ينبغي أن يكون همه في قطاع كهذا استثمارا رابحا على مستوى رأس المال أي اقتصاديا وهذا ما حدث, واستثمارا رابحا على المستوى البشري وتنمية الكفاءات العلمية وهذا ما وصل إلى دوامة الأزمة.‏

وهنا أود أن أنوه- ولست متأكدة إن كان هذا صحيحا تماما- إن بعض الدول تخصص جزء كبيرا من ميزانياتها -20% في ماليزيا على ما اعتقد- من أجل التعليم, ويعتبر أن هذا الاستثمار إنتاجيا وليس خدماتيا, لأن نتائج البحث العلمي على سبيل المثال باتت سلعة قائمة بحد ذاتها قابلة للتصدير, بل إن بعض الدول تقدم البحوث كجزء من الاستثمارات, وأيضا عالم البرمجيات يقوم الانتاج فيه على المعرفة والعنصر البشري.‏

مع ذلك, يرى معاون وزير التعليم العالي أن القرار لاحظ مصلحة الطلاب فحافظ على حقوق المسجلين وأعطاهم مدة عشر سنوات للتخرج, أما بالنسبة للبرامج المعلقة (ومن يضمن أنها لن تلغى كغيرها!!) فيمكن للطالب أن يسجل في البرامج الأخرى التي ما زالت مفتوحة (ومن يضمن أنها لن تعلق!!).‏

أيضا يرى د. رياض العجلاني أن الطلاب لم يتضرروا, خاصة أن هناك نية بزيادة الاستيعاب الجامعي بنسبة 25% متسائلا: لماذا تتعاملون مع القرار على أنه مشكلة وكأنه انقلاب.‏

لنلاحظ كيف يطرحون الأمور: تارة من منظور جزئي.. المهم فيه ألا يتضرر أفراد أو مجموعات وأخرى من منظور عام ينظر إلى هيكلية التعليم المفتوح ودوره ككل, لكن المفارقة أن لديهم برامج وحلولا على أساس أن الكل مستمر وحلولا وبرامج للجزئي على أساس الكل (أي التعليم المفتوح) انتهى أو على وشك.‏

أما د. موفق زعرور رئيس مكتب التعليم العالي في نقابة المعلمين فتحدث عن أضرار القرار على ميزانية التعليم, مؤكدا أنه يخفض الموارد الذاتية للجامعات وأن نصف تعويض التفرغ لأعضاء الهيئات التدريسية في سورية هي من موارد التعليم المفتوح وبالتالي عندما تنخفض موارد الجامعة ستنخفض موارد الأساتذة.‏

أحد خريجي التعليم المفتوح- قسم الإعلام- اعتبر هذا التعليم مكسبا لأبناء الطبقات الشعبية, فهو مريح ماديا, ورأى أن المنهاج المصري الذي درسه مميز واحتوى على معلومات حديثة يفتقدها التعليم النظامي وأنه ركز على العلاقات العامة والإعلان ..مارأى الخريج أن مشكلة هذا التعليم هي عدم التخطيط له منذ البداية بشكل صحيح والتعامل معه كحصالة نقود واعتماده على البنية التحتية للتعليم النظامي دون استثمار عائداته ودون التفكير باستقلاليته مؤكدا أن الاعتراضات على المنهاج المصري ليست في مكانها الآن لأنهم هم من وضعوها دون دراسة والغريب أنهم عندما حاولوا استبدالها اعتمدوا العناوين نفسها.‏

أما حسين عبدو الطالب في السنة الثانية إعلام فيؤكد أن المواد جميعها نظرية ولايوجد أي جانب عملي ويأتي من مصياف مرة في الأسبوع وأن هذا التعليم يشكل له ولزملائه منفذا مريحا من النواحي المادية والعلمية حيث يأخذ الطالب الأسس والمبادئ ويبني عليها قدراته الذاتية.‏

يتذكر د. العمر أن التعليم المفتوح انطلق من فكرة تخفيف العبء عن كاهل التعليم النظامي المجاني نتيجة الأعداد الهائلة وعدم القدرة على الاستيعاب وأن الدولة أوجدته ليكون رديفا للتعليم الحكومي وايضا كان طلابنا يدرسون في دول اخرى ويدفعون أضعاف المبلغ الذي يدفعونه في بلدهم مع أن أساتذتهم غالبا ما يكونون من السوريين لذلك ارتأت الدولة ايجاد هذا النظام التعليمي لتكسبهم علميا واقتصاديا.‏

لكن يبدو أن متغيرات جديدة دخلت على لوحة التعليم في سورية ويبدو أن هذه المتغيرات ارادت ان تحقق لنفسها ولادة قوية بغض النظر عن الخسائر التي قد تحدثها في ثوابت السياسة التعليمية .‏

 

سعاد زاهر

المصدر: الثورة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...