"بيبي" المنتصر في مسيرة باريس

21-01-2015

"بيبي" المنتصر في مسيرة باريس

الجمل ـ * يوري أفنيري ـ ترجمة رندة القاسم:
لو أن الإسلاميين الإرهابيين الثلاثة لا يزالون أحياء، لحق لهم الفخر بأنفسهم. فبارتكابهم الهجمتين (و اللتين تعتبران عاديتين وفقا للمعايير الاسرائيليه) نشروا الذعر عبر فرنسا، و حشدوا ملايين الناس في الشوارع، و جمعوا أكثر من أربعين رئيس دولة في باريس. لقد غيروا المشهد في عاصمة فرنسا و بقية المدن الفرنسية بتعبئة آلاف الجنود و الضباط لحراسة اليهود و أهداف أخرى محتمله..و لعدة أيام سيطروا على الأخبار عبر العالم...
ثلاثة إرهابيين فقط قاموا بذلك. ثلاثه!!!!!.....يجب أن يبدو هذا الأمر في نظر الإرهابيين الإسلاميين المحتملين عبر أوروبا و أميركا بمثابة الانجاز العظيم،  انه دعوة لكل الأشخاص و المجموعات الصغيرة للقيام بنفس الشيء ثانية و في كل مكان. 
الارهاب يعني قذف الرعب، و الثلاثة في باريس نجحوا بالتأكيد في القيام بذلك. لقد أرهبوا سكان فرنسا، و اذا كان ثلاثة شبان بلا مؤهلات قادرين على القيام بذلك، فتخيل ما يمكن أن يفعله ثلاثون أو ثلاثمائه.
و بصراحة، أنا لم أحب التظاهرة الكبيره، لقد شاركت في مظاهرات كثيرة خلال حياتي، ربما أكثر من خمسمائة مره، و لكن دائما كانت ضد السلطات. لم أشارك أبدا في مظاهرة بدعوة من الحكومة، و حتى ان كان الهدف جيدا. و لكن هذه المظاهرة بالذات لها نتائج عكسية، فهي لم تقم فقط بإثبات أن الإرهاب فعال و شجعت هجمات مشابهة، بل أساءت أيضا  للمعركة الحقيقية ضد المتعصبين.
فمن أجل توجيه معركة فاعلة، ينبغي على المرء أولا وضع نفسه في مكان المتعصبين و محاولة فهم الديناميكية التي دفعت شبان مسلمين مولودين محليا لارتكاب هكذا أفعال. من هم؟ بماذا يفكرون؟ ما هي مشاعرهم؟ في أية ظروف نشأوا؟ ما الذي يمكن القيام به لتغييرهم؟ بعد عقود من الاستخفاف، يبدو هذا عملا صعبا، يحتاج وقتا و جهدا، بدون نتائج مؤكده. و من الأسهل بكثير للسياسيين المشاركة في مسيرة في الشارع أمام الكاميرات...
و من الذي سار في الصف الأول مبتهجا كما المنتصر؟ انه "بيبي" الوحيد خاصتنا... كيف وصل هناك؟ ستتجلى الحقائق مع الزمن. و لكن يبدو أنه لم يتلقى دعوة على الاطلاق، و على العكس من ذلك، أرسل له الرئيس فرانسوا هولاند رسالة واضحة: أرجوك، أرجوك لا تأتي.... فهذا الأمر سيحول التظاهرة إلى وقفة تضامن مع اليهود، عوضا عن كونها صرخة عامة من أجل حرية الصحافة و بقية "القيم الجمهورية".و مع ذلك قدم نيتينياهو برفقة وزيرين من أقصى اليمين.
و مع وضعه في الصف الثاني ، قام بما يقوم به الإسرائيليون، اذ دفع جانبا رئيساً إفريقياً أسوداً كان قبله ليضع نفسه في الصف الأول.و من هناك بدأ بالتلويح للناس على الشرفات عبر الطريق. كان مبتهجا كما القائد الروماني في موكب نصره. و يمكن للمرء تصور مشاعر هولاند و بقية الرؤساء الذين حاولوا أن يبدوا رزينين و حزينين على نحو ملائم في هذا الاستعراض للشجاعة .
ذهب نيتينياهو الى باريس كجزء من حملته الانتخابيه، و كمرشح محنك، كان يعلم تماما أن ثلاثة ايام في باريس ، يمضيها في زيارة المعابد اليهودية و القاء خطب يهودية متفاخرة ، تساوي أكثر من ثلاثة أسابيع في بلده ، و هو يتبادل الشتائم....و لم تكن دماء اليهود الأربعة، الذين قتلوا في المتجر اليهودي، قد جفت بعد حين دعا القادة الإسرائيليون اليهود في فرنسا إلى حزم حقائبهم و المجيء إلى إسرائيل. فاسرائيل ، كما يعلم الجميع، أكثر مكان آمن في العالم.
انها ردة الفعل الصهيونية الأوتوماتيكية : اليهود في خطر.. الملجئ الآمن الوحيد في إسرائيل..تعالوا على جناح السرعة!!! و في اليوم التالي تحدثت الصحف الإسرائيلية بابتهاج عن قدوم  أكثر من عشرة آلاف فرنسي يهودي عام 2015 للعيش هنا بسبب نمو العداء للساميه. و من الواضح ، أن هناك الكثير من العداء للسامية في فرنسا و بلدان أوروبية أخرى، رغم أنه أقل بكثير من الاسلامفوبيا. و لكن القتال بين اليهود و العرب على التراب الفرنسي لا علاقة له بالعداء للسامية، فهو صراع مستورد من شمال افريقيا. فعندما اندلعت حرب التحرير الجزائرية عام 1954 كان على اليهود هناك اختيار أحد الجانبين، و تقريبا قرر الجميع دعم فرنسا، القوة الاستعمارية، ضد الشعب الجزائري. و هذا الأمر له خلفية تاريخية، ففي عام 1870 ، قام وزير العدل الفرنسي أدولف كريميو ، الذي كان يهوديا، بمنح الجنسية الفرنسية لكل اليهود الجزائريين ، فميزهم عن   جيرانهم المسلمين.
حاولت جبهة التحرير الجزائرية جاهدة سحب اليهود المحليين الى صفها، و أعرف هذا لأني كنت مشتركا بالموضوع. اذ طلبت مني منظمتهم السرية في فرنسا إنشاء مجموعة دعم إسرائيلية، من أجل اقناع أخوتنا في الدين الجزائريين. فأسست "اللجنة الإسرائيلية من أجل جزائر حرة" و نشرت موادا استخدمت من قبل جبهة التحرير الجزائرية ضمن جهودها لكسب اليهود.
و لكن عبثا، فاليهود المحليون ، الفخورون بجنسيتهم الفرنسية، أصروا على دعم المستعمرين. و في النهاية، كان اليهود بارزين في OAS السرية الفرنسية المتطرفة و التي قادت الصراع  الدموي ضد مقاتلي الحرية. و عمليا تجلت النتائج بهروب كل اليهود مع الفرنسيين من الجزائر عندما حل يوم الحساب. لم يذهبوا إلى إسرائيل، تقريبا كلهم ذهبوا إلى فرنسا، بعكس اليهود المغربيين و التونسيين اذ  قدم معظمهم الى اسرائيل. فبشكل عام ، الأفقر و الأقل تعليما اختاروا اسرائيل، بينما ذهبت النخبة ذات التعليم الفرنسي إلى فرنسا و كندا.
و ما نراه الآن هو استمرارية هذه  الحرب بين المسلمين و اليهود الجزائريين على التراب الفرنسي. فكل الفرنسيين اليهود الأربعة الذين قتلوا في الهجوم يحملون أسماءا شمال افريقية و دفنوا في إسرائيل. و لم يكن هذا الأمر سهلا، فالحكومة الاسرائيلية وضعت ضغطا كبيرا على العائلات الأربع من أجل دفن أبنائهم هنا، اذ أرادوا دفنهم في فرنسا، قرب منازلهم. و لكن بعد المساومة حول أسعار القبور، وافقت العائلات أخيرا.
يقال بأن الإسرائيليين يحبون الهجرة و لا يحبون المهاجرين.و هذا ينطبق تماما على المهاجرين "الفرنسيين" الجدد. ففي السنوات الأخيرة، أتى الى هنا سائحون فرنسيون بأعداد كبيرة، و غالبا ما كانوا مكروهين، و خاصة مع بدئهم شراء شقق على الواجهة البحرية في تل أبيب ليتركوها بعد ذلك فارغة، كنوع من الضمان. بينما الشبان المحليون غير قادرين لا على ايجاد و لا على دفع ثمن شقق في منطقة العاصمة.و فعليا كل أولئك السائحين و المهاجرين "الفرنسيين" من أصول شمال افريقيه.
و عندما يسألون عما دفعهم للمجيء الى اسرائيل، فان جوابهم المتفق عليه بالاجماع : العداء للساميه.و هذه ليست ظاهرة جديدة ، و في الحقيقة، الغالبية العظمى من الإسرائيليين ، هم أو آباؤهم أو أجدادهم، قد أتوا هنا بسبب العداء للسامية.
خلق مصطلحا العداء للسامية و الصهيونية في نفس الوقت تقريبا، مع نهاية القرن التاسع عشر. و قد عبر تيودور هيرتزيل، مؤسس الحركة  الصهيونية عن فكرته عندما كان يعمل في فرنسا كمراسل أجنبي لصحيفة  Viennese النمساويه خلال قضية دريفوس، عندما بلغ العداء الخبيث للسامية في فرنسا ذروة جديدة.و بالطبع العداء للسامية استعمال خاطئ ، لأن العرب ساميون أيضا، و لكن المصطلح يقصد به عادة كارهي اليهود فقط.
فيما بعد، تودد هيرتزيل إلى قادة معادين للسامية في روسيا و أماكن أخرى، طالبا عونهم مع الوعد بتخليصهم من اليهود. و هكذا فعل خلفه، ففي عام 1939خططت منظمة إرجون السرية من أجل غزو عسكري لفلسطين بمساعدة جنرالات معادين بعمق للسامية من الجيش البولوني، و قد يتساءل المرء فيما اذا كان من الممكن أن تظهر دولة اسرائيل للوجود عام 1948 لو لم تكن هناك الهولوكوست. و مؤخرا، ذهب مليون و نصف يهودي روسي الى اسرائيل بسبب العداء للساميه.
ولدت الصهيونية نهاية القرن التاسع عشر كرد مباشر على تحدي العداء للسامية. و بعد الثورة الفرنسيه ، سيطرت الفكره الوطنية الجديدة على كل الأمم الأوروبية، الكبيرة و الصغيره، و كل الحركات الوطنية كانت تقريبا معادية للسامية.و الاعتقاد الأساسي في الصهيونية مفاده أن اليهود لا يمكنهم العيش في اي مكان عدا دولة يهودية، لأن انتصار العداء للسامية أمر محتوم في كل مكان. دعوا اليهود في أميركا ينعمون بحريتهم و رفاهيتهم، فعاجلا أم آجلا سينتهي ذلك، فهم هالكون كحال اليهود في كل مكان خارج إسرائيل.
و الاعتداء الجديد في باريس يؤكد هذا الاعتقاد الرئيسي, و كان هناك القليل جدا من الرثاء الحقيقي في اسرائيل، و عوضا عن ذلك وجد احساس سري بالنصر. و ردة الفعل العفوية للاسرائيليين العاديين هي : " لقد قلنا لكم ذلك " و "تعالوا بسرعة قبل أن يصبح ذلك متأخرا جدا".
حاولت كثيرا أن أشرح لأصدقائي العرب أن العداء للسامية هو أكبر عدو للشعب الفلسطيني، فقد ساعد على دفع اليهود الى فلسطين، و الآن يحدث هذا ثانيه. و بعض من المهاجرين الجدد سيستقر بالتأكيد ما وراء الخط الأخطر في الأراضي الفلسطينية المحتلة على أرض عربية منهوبة. و حقيقة أن اسرائيل تستفيد من هجوم باريس قادت بعض وسائل الاعلام العربية الى الاعتقاد بأن كل القضية عملية "رايات سوداء"، و  مصطلح رايات سوداء يستخدم لوصف عملية عسكرية سرية مصممة بشكل يبدو فيها الفاعل غير الفاعل الحقيقي. و في هذه الحالة يمكن القول ،بأنه تم التلاعب بالمرتكبين العرب من قبل الموساد الإسرائيلي.
بعد أي جريمة، السؤال الأول الذي يتم طرحه هو "من المستفيد؟". و من الواضح أن الفائز الوحيد من هذا الاعتداء هو إسرائيل. و لكن القول أن إسرائيل تختبئ وراء الجهاديين لا قيمة له. الحقيقة البسيطة هي أن الجهاد الاسلامي في أوروبا قد أساء فقط للمسلمين، فالمتعصبون من كل الفئات يخدمون أسوأ أعدائهم، و المسلمون الثلاثة الذين قاموا بهجمات باريس صنعوا معروفا كبيرا لبينيامين نيتينياهو.

 


*كاتب إسرائيلي و مؤسس حركة السلام "كوش شالوم"، في مراهقته كان عضوا في منظمة آرجون العسكرية ، كما كان عضوا في الكنيست بين عامي (1965 و 1974) و عامي( 1979 و 1981)

الجمل : عن موقع Information Clearing House



.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...