نجاة الصغيرة صوت يسكننا

18-12-2006

نجاة الصغيرة صوت يسكننا

«هذه نجاة. وهذا الحب المنقوش على الكفين. وهذا الصوت الشجي الذي يصلك بالهمس واللمس».

المحتفون بالمطربة نجاة الصغيرة في دبي اليوم ربما يقدمونها بتلك الكلمات، أو يحارون في البحث عن كلمات لائقة يصفون بها صوتاً عرف، على مدى أكثر من نصف قرن، كيف يصنع للكلمات لوناً ورائحة وشكلاً وعبقاً يتسرب الى الأحاسيس ويقيم في زواياها العميقة والشفافة. صوت مجّد الكلمات وصنع نجاحها. ألم تكن نجاة إحدى النوافذ التي أطلت منها كلمات نزار قباني على الناس مبكراً؟ «متى ستعرف» و «أسألك الرحيل»... وغيرهما.

ألم تكن مميزة في تسريب القصيدة الشعرية الحديثة الى المذياع والميكروفون؟

في «لا تكذبي»، سطرت نجاة تحت اسم الشاعر كامل الشناوي خطوطاً بالأحمر. لا نقول أنها صنعت هالة الشاعر، لكنها كشفت الستار عن تلك الهالة، فأوصلت تعابير مثل «كوني كما تبغين لكن لن تكوني، فأنا صنعتك من هواي ومن جنوني، وقد برئت من الهوى ومن الجنون»... الى ابن الشارع العادي، ذلك المترجل على الرصيف يدندن «الهمس واللمس»، وذاك القاعد على كرسي في المقهى يجزم «اني رأيتكما... إني سمعتكما».

حين وقفت تلك الفتاة الصغيرة على المسرح، كان عنقها أقصر من الميكروفون، وكانت الصحافة الفنية تسأل عمن ينقذ الطفلة من المهمة الشاقة وعناد الأب في جرها الى دنيا الغناء.

لكن الأب لم يكن ظالماً. كان قد التقط إشارات عشق الفن لدى طفلته. إشارات لم تكن هي تملك وعياً مكتملاً لتفسيرها. صنع الأب لطفلته مبكراً «هالة» من الرقي والجمال جعلها تؤدي لمطربات سبقنها.

غنت لمحمد عبد الوهاب، فانتبه الى موهبتها قبل أن يتبناها ويظل الى جانبها، تنهل من موسيقاه المجددة، حتى أيامه الأخيرة. توافق صوت نجاة الطربي، بخامته الحساسة المتميزة، مع لغة عبد الوهاب الموسيقية التي لم تحد يوماً عن الإيغال في العمق، على رغم شكلها وأدائها العصريــــين. وكـــأن صوت نجاة هو الوردة الــتي يسربها نهر من الماء الرقراق الى مناطق مهجورة في دواخلنا. الى أمكنة غير مكتشفة، عذراء، أو ظننا أن اليباس طاولها.

بعد سنوات، فتح الموسيقار أمام تلميذته خزانته لتغرف منها ما تشاء. «محلاها عيشة الفلاح»، «يا مسافر وحدك وفايتني»...

ثم كان لا بد من بليغ حمدي، المجنون العشريني العابث الذي اقتحم عرين أم كلثوم. كانت نجاة تحتاج بدورها الى ذلك الجنون. في نهاية الستينات، كان العالم كله يبحث عن فضاءات أكثر رحابة واتساعاً. انتفضت الأفكار والأيديولوجيات التحررية والجسد. وعرفت صاحبة «ساكن قصادي» كيف تتكيف. عزف عمر خورشيد على أوتاره الكهربائية ألحان «أنا بعشق البحر»، وصارت تتخلى في مرات عن التقليد الطربي بإعادة «الكوبليه» ثلاث مرات. صارت أغنيتها أرشق، كما الكلمة التي لم يتوان بليغ حمدي عن كتابتها، متنكراً باسم «ابن النيل».

كمال الطويل رافقها أيضاً، من «ساكن قصادي» الى «لا تنتقد خجلي الشديد»، آخر قصيدة غنتها نجاة للشاعرة الكويتية سعاد الصباح، قـبل أن تــقرر الاعتزال في قمة مجدها.

ظلت نجاة قوية. سيدة المسرح وقيثارة الغناء. صوت مخملي أبى لظروف كثيرة أن تخدشه. رفضت أن يخترق الناس خصوصياتها. دافعت عن حياتها الخاصة التي كانت تضيق أكثر لمصلحة الفن الذي أفنت له لياليها والساعات. لا يزال صوت المطربة الكبيرة محفوظاً في ذاكرة الجيل الذي رافق نشأتها، ولكن أيضاً جيل الشباب الذي يشتري أشرطة أغانيها والأسطوانات، ويسرح مع صوتها الى فضاءات من الحرية والحنان و «تقديس» الحب في زمن... عز فيه الحب!

إبراهيم توتونجي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...