أرمينيا المستضعفة تنشد السّلام عبر مشاريع اقتصاديّة مستفزّة لروسيا

24-11-2023

أرمينيا المستضعفة تنشد السّلام عبر مشاريع اقتصاديّة مستفزّة لروسيا

سركيس قصارجيان:


تشهد الدبلوماسية الأرمينية خلال الآونة الأخيرة نشاطاً مكثفاً باتجاه الدول الغربية، مقابل انكفاء واضح عن الجبهة الروسية والجهات المحسوبة على موسكو، وسط ترقّب روسي للخطوات الأرمينية "المريبة"، بالتزامن مع دخول المملكة المتّحدة إلى خط العلاقة الأرمينية - الأوروبية.
 
 
وقّعت يريفان اتّفاقيات عسكرية للمرة الأولى مع باريس، في محاولة واضحة لتحسين علاقاتها بحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي عامةً، في الوقت الذي يرسل فيه رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان إشارات بالانفصال عن المؤسسات والتحالفات الروسية كمنظمة معاهدة الأمن الجماعي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي ورابطة الدول المستقلة وغيرها.
 
 
وقبل أيام أطلق باشينيان مشروع "تقاطعات السلام" بهدف "إحلال السلام في القوقاز وأرمينيا وربطها بدول الجوار"، في وقت تشتد فيه منافسة القوى العظمى في منطقة القوقاز وأرمينيا على وجه الخصوص.

باشينيان يواصل استفزاز بوتين


أخيراً أبلغ باشينيان رئيس بيلاروسيا وحليف بوتين في حربه في أوكرانيا ألكسندر لوكاشنكو، تغيّب بلاده عن قمة منظمة معاهدة الأمن الجماعي في 23 تشرين الثاني (نوفمبر)، وهي النموذج الروسي لحلف شمال الأطلسي في منطقة الاتحاد السوفياتي سابقاً وتقودها موسكو.
 
 
تغيّب يريفان عن حضور القمة يعتبر حدثاً استثنائياً، فللمرة الأولى في تاريخ منظمة معاهدة الأمن الجماعي تمتنع يريفان عن المشاركة في هذا الاجتماع، لكنّه لا يعتبر مفاجئاً، بخاصة بعد رفض يريفان طلب المنظمة إجراء تدريبات على أراضيها وامتناعها عن المشاركة في تدريبات المنظمة، إلى جانب سحبها سفيرها أو ممثّلها لدى المنظمة من دون تعيين بديل له حتى الآن، كل ذلك بالتزامن مع تصاعد التوتر في العلاقات بين روسيا والغرب.
 
تبرر أرمينيا مواقفها السلبية من منظمة معاهدة الأمن الجماعي بامتناع الأخيرة عن الإيفاء بالتزاماتها اتّجاه يريفان، أبرز أعضائها المؤسسين، في وجه الهجمات الأذربيجانية الأخيرة ضد أراضي جمهورية أرمينيا ذاتها، حيث باتت باكو تسيطر على ما يقارب من 140 كم2 من الأراضي الواقعة ضمن حدود أرمينيا، بالإضافة إلى سيطرتها أخيراً على كامل إقليم ناغورني كاراباخ. 
 
اتّخذت منظمة معاهدة الأمن الجماعي موقف المتفرّج على الهجمات الأذربيجانية، على الرغم من هدفها الرئيسي في التصدّي الجماعي لأي خطر عسكري أو أمني تتعرّض له إحدى الدول الأعضاء، بحسب بيان تأسيسها، إلا أن علاقات الدول الأعضاء الاقتصادية والتجارية الوثيقة مع باكو، غير العضو في المنظّمة، حالت دون اتّخاذ الأخيرة أي خطوات عملية، مكتفية باقتراح إرسال فريق مراقبة للحدود الأرمينية - الأذربيجانية، كحل وسط لتفادي الحرج، وقد أبلغ باشينيان لوكاشنكو طلب يريفان سحب هذا الاقتراح من جدول أعمال قمة المنظّمة "لعدم جدوى وجوده".
 
ليس من المعلوم بعد ما إن كانت يريفان ستنسحب من "الناتو الروسي" على الرغم من تصاعد الأصوات المطالبة بذلك داخل أرمينيا، في ظل تراجع وتيرة الاتّصالات بين يريفان وموسكو إلى أدنى حد في تاريخ علاقات البلدين، إذ لم يسجل أي تواصل بينهما منذ الاتصال الهاتفي لباشينيان مع الرئيس الروسي مهنئاً إياه بعيد ميلاده في 19 أيلول (سبتمبر) الماضي.
 
إلى جانب امتناع يريفان عن حضور قمة اليوم لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، فقد غابت أرمينيا أيضاً عن قمة رابطة الدول المستقلة في بيشكيك في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، ومن المحتمل أن يغيب باشينيان عن اجتماعات الاتحاد الاقتصادي الأوراسي المزمع عقدها في كانون الأول (ديسمبر) القادم، وهو الاتحاد الروسي الموازي للاتحاد الأوروبي. وبالمثل تغيّب وزير الخارجية الأرميني عن اجتماع وزراء خارجية رابطة الدول المستقلة في 8 تشرين الثاني، وتغيّب رئيس الأمن الوطني الأرميني عن اجتماع أمناء مجلس الأمن لرابطة الدول المستقلة في موسكو.
 
وفي مقابل تغيّب باشينيان وفريقه الحكومي والأمن والعسكري عن القمم الروسية، تسجّل يريفان حضوراً مكثّفاً في القمم والاجتماعات الغربية. ففي 5 تشرين الأول حضر باشينيان قمة للمجتمع السياسي الأوروبي في غرناطة في إسبانيا، فيما غاب عنها الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف الذي بات أقل اندفاعاً نحو الغرب وأكثر قرباً من موسكو بعد فرض باكو سيطرتها على كامل إقليم ناغورني كاراباخ. وفي 10 تشرين الثاني حضر باشينيان منتدى للسلام في باريس، ومن ثم زار بروكسل، في نشاط دبلوماسي أرميني استثنائي في الجغرافيا الأوروبية.
 
والأسبوع الماضي أعلنت كل من يريفان ولندن إطلاق "حوار استراتيجي" مشترك بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية الأرميني أرارات ميرزويان لندن لمدة يومين، وأعقبت ذلك زيارة الوزير البريطاني لشؤون الاتحاد الأوربي يريفان، وذلك بعد أسبوع من لقائه ميرزويان في لندن.

الغرب يسعى لكسب أرمينيا

يعرف باشينيان الذي وصل إلى السلطة بثورة أطاحت السلطة الموالية لموسكو في أرمينيا بتوجّهاته الغربية، وهو ما أثار حساسية موسكو منذ اليوم الأول من التغيير السلمي للسلطة في البلاد. ولم يخف باشينيان وأركان إدارته رغبتهم في نقل أرمينيا إلى الفلك الجيوسياسي الغربي، وهو هدف كان من الصعب تحقيقه في ظل الحاجة إلى الدعم الروسي للاحتفاظ بإقليم ناغورني كاراباخ.
 
لكن، مع تطوّر العلاقات الروسية - الأذربيجانية وحاجة موسكو المتزايدة لباكو وحليفتها تركيا، بخاصة بعد الحرب الأوكرانية، زادت أذربيجان ضغوطها العسكرية على يريفان، مقابل صمت موسكو الاضطراري أحياناً والمقصود في الكثير من الأحيان، ما شكّل، إلى جانب خسارة كاراباخ، مبرراً قوياً لباشينيان من أجل الخروج من الفلك الروسي مدعوماً بمزاج فئة واسعة من الشعب الأرميني المعروف تاريخياً بتعاطفه مع روسيا ودعمها.
 
بعد انتصار أذربيجان على أرمينيا تحرص العواصم الغربية على اتباع سياسات قائمة على تفادي استبعادها وعزلتها. ومع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، يبدو الهدف الأساسي للغرب، وبخاصة الغرب الأنكلوسكسوني في جنوب القوقاز كسر نفوذ روسيا في حديقتها الخلفية، لذا فإن جذب أرمينيا إلى صفّها يعتبر الخطوة الأهم على طريق تحقيق هذا الهدف.
 
بالنظر إلى دول جنوب القوقاز، فإن أرمينيا هي الوحيدة التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع موسكو، لناحية وجود قواعد عسكرية روسية على أراضيها، واعتمادها اعتماداً شبه كامل على روسيا كمصدر للطاقة وعضويّتها في كل المنظّمات الإقليمية المؤسسة روسياً.
 
 
يوحي غياب ردود الفعل الأوروبية الحاسمة خلال محاولات أذربيجان بسط سيطرتها على إقليم ناغورني كاراباخ، برغبة هذه الدول في الوصول إلى السيناريو الحالي، والمتمثّل بخسارة أرمينيا الإقليم، وهو ما أدخل علاقات أرمينيا مع روسيا في طريق مسدود ودفع يريفان إلى البحث عن حلفاء جدد في الغرب.
 
من المؤكد أن أذربيجان ستبقى الفاعل الأكثر أهمية واستراتيجية في جنوب القوقاز بالنسبة إلى الغرب، لكن هذا لا يمنعه من تطوير علاقات جيدة مع الدول الأخرى، لذا يرى الغرب أن ترك أرمينيا ضعيفة ومعزولة سيزيد من نفوذ روسيا عليها، ويجعلها مضطرة إلى التحرّك مع موسكو في الإقليم خوفاً من الخطر الأذربيجاني - التركي المتلازم.
 
اتّساقاً مع هذه السياسات اتّخذ مجلس الشيوخ الأميركي أخيراً قراراً بتجميد المساعدات العسكرية إلى أذربيجان، والقائمة منذ نيل الأخيرة استقلالها عن الاتحاد السوفياتي عام 1992، والمعنونة في سياق الحرب ضد الإرهاب، وذلك خلال عامي 2024 و2025، ضمن ما عرف بقانون حماية أرمينيا. لا شك في أن باكو هي الشريك الأهم لواشنطن في قطاعات الطاقة والتعاون العسكري والسياسي، لكن هذه الخطوة من شأنها إرسال رسالة إيجابية إلى أرمينيا وحثّها على مواصلة جهودها للاتساق مع الغرب. في المقابل، لا تخشى واشنطن خسارة باكو، المحاطة من أقرب حلفاء أميركا في المنطقة: تل أبيب وأنقرة، والتي تجمعها علاقات شراكة استراتيجية في قطاعات الأمن والاقتصاد.

مشروع باشينيان للسلام

قبل أيام نشر رئيس الوزراء الأرميني عبر حسابه الرسمي على موقع "إكس" فيديو لمشروع سماه "تقاطعات السلام"، يظهر رغبة أرمينيا في عقد سلام دائم مع جيرانها الأتراك في كل من تركيا وأذربيجان، وذلك من خلال فتح الطرق التجارية في المنطقة عبر خريطة تقع أرمينيا في قلبها لربط الشرق بالغرب والشمال والجنوب في منطقة القوقاز بين بحار قزوين والأسود والمتوسط.
 
اللافت في الفيديو المذكور تأكيد أرمينيا سيادتها على الممر الاستراتيجي العابر ضمن أراضيها جنوباً لربط أذربيجان بأوروبا عبر تركيا، وهو ما يمكن أن يزعج روسيا الراغبة في فتح "ممر زانكيزور" بضمانتها ووضعه تحت إشرافها، مقابل حماسة الدول الغربية لمثل هذه المشاريع التي من شأنها زيادة الضغوط على موسكو في ظل حاجتها إلى ممرات تجارية بديلة بعد العقوبات الغربية الواسعة عليها.
 
لكن، في الوقت ذاته، قد تؤدي مثل هذه المشاريع إلى تشتيت جهود السلام الذي تحتاجه يريفان بإلحاح، مع تراجع الحماسة الروسية لتحمّل مسؤولية أمن أرمينيا القومي مقابل تركيز الدول الغربية على التحكّم بالممرات التجارية المذكورة بأي ثمن، بهدف إضعاف موسكو ودفعها إلى تقديم تنازلات في ملفات إقليمية ودولية وأولها أوكرانيا.
 
المصدر: النهار العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...