يوم في السرفيس : جربوع يلتقط رزقه المرمي على الطريق

02-05-2007

يوم في السرفيس : جربوع يلتقط رزقه المرمي على الطريق

الجمل – تحقيق – حسان عمر القالش : "يارب أن أجد المقعد الأمامي فارغ, أو مقعدا مريحا على الأقل" هذه كلمات يقولها (محمود) في نفسه حابسا اياها بين جدران قلقه الصباحي واقفا على ناصية الطريق ينتظر مرور "السرفيس" الذي سيوصله الى وسط المدينة ومنها الى وظيفته في احدى الدوائر الحكومية.
والسرفيس لمن لا يعرفه هو آلية نقل اخترعها مبدعون معظمهم من أختنا الحنونة كوريا لنقل المواطن السوري "خصيصا" من مكان الى آخر, وهو عبارة عن باص صغير جدا يتسع لعشر ركاب "محشورين" وقد تصح نظرا لحجمه تسمية "جرذ" أو "جربوع" التي أطلقها عليه الناس في بدايات تعرفهم واعتيادهم عليه.
يسير السرفيس بمحمود مسافة بسيطة ليتوقف فجأة بعد أن لوّح (معروف)بيده ليصعد اليه راكضا ثم راكبا, وما هي الا نفس المسافة أو أقصر حتى يعود السائق الى توقفه المفاجئ ليلتقط (الياس)من على الطريق,ولا يلحق السائق أن يقـلع حتى يتوقف بفجأة "غير مفاجئة"ليرتمي (حسين)في ممر السرفيس  حيث المقاعد "الاحتياطية"التي يطوى ظهرها كما تطوى ظهور الركاب بسببها.
وكما هي "اصطباحة" محمود ستكون اصطباحة معروف والياس وحسين, قد تعكرت بالرضوض العصبية التي أحدثها الوقوف المتكرر للسرفيس, ونزق سائقه في مشاحنة باقي السائقين ومنازعته اياهم للحصول على أكبر كمية من الركاب في أسرع وقت ضمانا لانطلاقة مبكرة وأسرع في جولته السـرفيـسـية التالية, فـ"ها هي عشر ليرات واقفة هنا, وهاهي عشرة أخرى هناك" كما يتظارف بعض السائقين في اشارة الى الآدميين الواقفين في الشوارع بانتظار خدماتهم, فهم في عرفهم "رزق مرمي على الأرض"...!
واذا سألت فردا من هذا "الرزق" ما هو شعور الراكب في السرفيس؟ سيكون الجواب القاطع بأنه "مهين ومـذل" فأمجد المحامي الداخل حديثا الى الحياة العملية يشعر بشيء من الاذلال عندما يتوقف به "أحد السرافيس العاملة ضمن دمشق عند احدى الاشارات المرورية فيرى من شبّاكه السيارات (الخاصة)وركابها المتأنـّقين المرتاحين المتوقفة عند الاشارة", ويتذكر كيف ركب بدوره "ممتطيا"السرفيس بخطوة عالية وسريعة من ساقه اليمنى وكيف تكرمشت ثيابه بينما "سـائـس" السرفيس يمشي به متحفزا لراكب آخر. وما ان تدخل هذا العالم لتصبح راكبا فيه حتى تبدأ مشاهد "كوميديا سوداء" يتعرّض الركاب فيها لمزيد من شعور بالدونيـّة والانتقاص من القدر.
سوسن مثلا والتي كأغلب الناس تستقل سرفيسين في الذهاب من بيتها الى العمل وكذا في العودة, ينتابها غضب ممزوج بمرارة عندما تصف كيف "  يركع الراكب أو يحني رأسه وظهره وجذع جسمه كله وهو يبحث أو يهم في الجلوس على أحد المقاعد" ناهيك عن مدى الحرج اذا كان الراكب راكبة أنثى " وتزيد على مرارتها وصفها وسيلة النقل هذه بأنها "معدّة لنقل البضائع والدّواب" وتنهي كلامها بـ"لكن أنا وأغلبية السوريين الساحقة مجبرين على التنقل بها كونها أرخص وسيلة نقل..".
 هذا ولم نتحدث بعد عن حوادث ارتطام الرؤوس بسقف السرفيس أو بكتف أحد الركاب أو حتى جلوس أحد الركاب في حضن الآخر كما حدث في حـدّوتة سامـر الذي كان جالسا في أمان الله في المقعد الأول المعاكس وما ان انشقت الأرض عن راكب "يؤشــر" للسائق حتى "ضرب" فرامله وداسـها بعزم وقوة, ليجد السيدة العجوز التي كانت تجلس قبالته قد أصبحت في حضنه.."كل هذا في ثواني قليلة".
وفي تفاصيل الرحلة داخله كيف تكون, يجب أن نذكر أن مقعدين أو ثلاث – حسب نوع السرفيس – من مقاعد الركاب العشر هي مقاعد جانبية صغيرة ظهرها قصير تطوى جانبا وتفتح عند الحشرة والازدحام وعادة ماتكون باليـة وغير صالحة لـ"الاستخدام البشري", فاذا أراد راكب ما يجلس في المقعد الخلفي أو الذي قبله أن ينزل في محطته فهذا معناه أن يطوى المقدين المتحركين الجانبيين وينزل راكبيهما معه الى الشارع, يودعانه ويعودا الى رحلة الحشر من جديد. ولا يهم اذا كان هذان الراكبان في كثير من الرحلات نساء أو عجائز أو من ذوي الكروش والأبدان المنتفخة. وأيضا وأيضا لا يهم ان تكرر هذا النزول لأكثر من محطة طوال خط سير السرفيس. والمشهد يزداد إهانة في ساعات الذروة خصوصا في أوقات انتهاء الدوام الرسمي عندما ترى بأم العين وأختها مجموعة من الناس يتحولون من مظهرهم القدير والمحترم الى السباق والتدافع للحصول على مكان في سرفيس يمر بهم بسرعة ليمهلهم ثوان معدودة للركوب, ونفس المشهد يتكرر عند النزول منه مع فارق المساحة الضيقة ضيق القبور, فتعجب لانسلال الناس منه عبر فراغ صغير من الزحمة لتنطبق عليهم مقولة " الخروج من عنق الزجاجة"..
أما ما تتعرض له الفتيات في بعض خطوط السرفيس في بعض المناطق خاصة مابين الريف والمدينة أو بين مناطق صناعية ومناطق سكنية,  فحـدّث بلا ملل.. كان أحد سرافيس خط دمشق – عرطوز يسير خارجا من دمشق مرورا بمنطقة "السومريّـة" حيث محطة الفتاة الوحيدة بين الركاب, فطلبت من السائق أن ينزلها لكنه لم يستجب! ظنّت أنه لم يسمع فرفعت صوتها مكررة الطلب, لكن السائق تعمّـد اهمالها مجددا, فما كان من أحد الركاب الا أن انهال عليه بالشتائم والصراخ آمـرا اياه بالوقوف وانزال الفتاة, فأدار السائق مقود السرفيس الى أقصى اليمين وجنح به بسرعة واقفا مستنفرا لشجار مع الراكب.
 وقد تكون هذه الفتاة محظوظة بشهامة ذاك الراكب,الا أن كثيرا من الرجال والشباب تخونهم شهامتهم ومروءتهم أمام "ذكوريّة" بعض السائقين كما حدث مع ناجي في طرطوس الذي بقي طيلة مسير السرفيس يسمع "عنتريّـات" وبطولات السائق الكلامية الماجنة والبذيئة وهو يدردش مع صديقه الجالس بجانبه والذي كان بدوره يشحنه ويستفزه على هذا الحديث ليصل صوته الى فتاتين  اضطرتا الى تحمّـل هذه الدقائق الخادشة للحياء العام والتي كثيرا ما تتعرض لها الفتيات وبشكل شبه يومي.
ومنذ أن زحفت هذه الآليات على شوارع البلاد بطولها وعرضها,بقراها وحاراتها وأزقـّتها, نشأ معها مايمكن أن يسمى بـ"بيئة سائقي السرافيس" فبعد أن كان أغلبهم في البداية رجالا كادحين يعملون باحترام وصمت, دخلت اليهم فئات شبابية تشـرّبت حياة الشارع والبطالة والعدائية ليضطر كثير من الناس الى التعامل والاحتكاك اليومي معها. وبالاضافة الى كل ماسبق ليس من الترف أن نشتكي من لامسؤولية الحكومة في معالجة هذه الظواهر ومن نتيجة احتلال هذه الآليات للبلد بدون تخطيط و تنظيم مسبق, هي التي تستطيع بعيونها العشرة على عشرة أن تعرف وترقب وتلاحظ ما تريد, ومع أن العمل بهذه الآليات يضع الرغيف على طاولات كثير من الأسر كما يقول المثل الغربي, الا أنه ليس ظلما أو اجحافا أن نطالب بمجموعة من الأصول والمواصفات الواجب توفرها فيمن يريد العمل على "نقل" المواطنين الذين يسـاقون في هذه الآليات كما في سياسات الحكومة الاقتصادية والاستثمارية سـوق الخراف. وليس لحجـّة " السـتر على العباد " أن تمنعنا من رفض كل ما ينقص انسانيتنا ويدهور طرق عيشنا.


الجمل

 


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...