ولنا في أمهاتنا السوريات أسوة.. فلتغفروا

15-12-2016

ولنا في أمهاتنا السوريات أسوة.. فلتغفروا

«في عيد الأم الماضي، جاءني ابني الأول حسان (26 عاماً) ملفوفاً بالعلم، وبعد أربعة أشهر استقبلت أخاه أحمد (24 عاماً) شهيداً أيضاً»، تتعثّر أم حسّان (من سكان مدينة طرطوس) بالكلمات، وهي تروي لنا شجاعة ولديها وفخرها بقرابينها للوطن على حدّ تعبيرها. صمت يُثقل هيبة المكان، تتحرّك الأمّ بضع خطوات إلى جانب صور أولادها، وتستذكر آخر الكلمات التي وصلتها منهم قبل الرحيل. تقبض بيدها على القلادة التي تدلّت فوق صدرها، وتقرأ عن صورة حسّان ما كُتب إلى جانبها «سامحيني أمي على الغياب، لكن الواجب أكبر». أما أحمد فكان دائماً يقول: «لا تحزنوا إن افترقنا لكن لا تنسونا ساعة النصر».أم سورية تودّع ابنها الشهيد (عن الانترنت)
فاجعة أم حسّان، التي كستها وطقس بيتها بالسواد، لم تنفذ إلى قلبها. وصور أبنائها ببزاتهم العسكرية المُعلّقة على الجدران، لم تسمح لأي رغبة بالانتقام بالطغيان على فطرتها كأمّ. تستجمع السيدة خلود المرعي قواها وتمسح دمعة راحت تركض فوق الوجنتين المتغضّنتين «بسامح .. إي بسامح، الولد بيتعوّض يا بنتي، بس الوطن إذا راح ما بيتعوّض، إذا راح الولد فيه غيرو، لكن إذا راح الوطن بيروح كل شي».
إلى سابق عهدها تعود بلدة قدسيا بعد طول انتظار، تتفحّص جميلة (52 عاماً) فاكهة أحد الباعة الجوّالين برفقة ابنتها. تُبدي السيدة ارتياحاً واضحاً لتعدّد الخيارات أمامها، تبادلنا الحديث أثناء سيرها لتفقّد باقي حاجياتها التي باتت اليوم متوفّرة. تقول جميلة: «ليست صعوبة تأمين الحاجيات وحملها ـ على قلتها ـ من مسافات بعيدة هي ما كان يؤرقني فقط، إنما همّ بناتي الثلاث. والدهم متوفٍ ولا إخوة ذكوراً لهم». تقاسيم وجه المرأة، وتلك الخطوط العميقة في كفيها، تبدو أكبر بكثير من عمرها الحقيقي «الخوف كبّرنا يا بنتي، كل شي كان همّ، روحتن ع المدرسة ورجعتن ومرضهن ودفاهن وأكلن .. كله همّ».
بعدما كرّت سبحة المُصالحات والتسويات في البلاد وفي العاصمة دمشق بالتحديد، وجدت الأمهات، في الفكرة، فرصةً للخلاص من كل ما أثقل كاهلهنّ على مدار السنوات الست الماضية. طرقات المدن المُسيّجة بالحصار المفروض أو المُطبق، والبُعد عن كل شيء، والمسؤوليات المُضاعفة، والخوف على حياة الأبناء هي بعض الأسباب التي دفعت مجموعة أمهات وسيدات من مدينة التلّ إلى الذهاب والتوسّط لإتمام تسوية في البلدة مُشابهة لتلك التي تمّت في قدسيا والهامة مُسبقاً. هذا ما سرّ به مفتي دمشق وريفها الشيخ عدنان الأفيوني، على هامش لقاء له مع إحدى الوسائل الإعلامية الأجنبية الشهر الماضي، قبل أن تبدأ بالفعل عملية التسوية في التلّ.
مستشار وزير المصالحة الوطنية إيليا السمّان أكّد  أن الأمهات على وجه الخصوص أدين دوراً جوهرياً وعاملاً مُهمّاً في تسويات قدسيا والهامة ومثيلاتها، وأن هناك عشرات النساء يأتين يومياً إلى مبنى الوزارة للتوسّط من أجل أبنائهن أو أزواجهنّ. ويقول: «هناك عشرات الأمثلة التي لا يُمكن حصرها، ترد يومياً إلينا من زوجات وأمهات مُسلّحين يطلبن تسوية أوضاع ذويهم، ليس فقط من دمشق إنّما من مختلف المُحافظات، ولي في حمص -مدينتي - تجربة شخصية لقصص عدّة من هذا النوع». لكن السمّان، الذي تحدّث من موقع المُطّلع، أكد أن بعض الحالات يصعب التعامل معها لعدة اعتبارات وأسباب، أهمّها أنّ القرار غالباً لا يكون بيد المُقاتلين الصغار، إنما بيد قادة جماعاتهم المُسيطرين على المناطق، وأصعبها أنه بات من الصعب اقناع بعض هؤلاء الشبّان بترك السلاح بعدما تحوّل هدفهم من «إسقاط النظام» إلى «الجهاد».
وحدهنّ الأمهات قادرات على خلق الغفران حتى في قمّة الألم والتعب، ووحدهنّ سيقمن بتصحيح أخطاء ودفع فواتير الأبناء، راضيات وراغبات ومسرورات وغافرات. للأمهات قدرة عجيبة على الاحتفاظ بأدقّ التفاصيل، لن تخونهنّ الذاكرة يوماً في استحضارها، ستجد دائماً من تذكر لك ساعة خروجها من منزلها آخر مرة! وما هو الحديث الذي دار بينها وبين أبنائها في الليلة التي سبقت سقوط قذيفة ما إلى جانب حديقتها! أو ماذا كانت وجبة الغداء التي حضّرتها لعائلتها يوم بدأت الأحداث بالاشتعال في حيّها! وحُكماً ستتعرّف كل الأمهات إلى مُقتنيات منازلهنّ إن وجدنها معروضة للبيع مُصادفة بعدما سُرقت! أمّا الثكالى والأرامل والفاقدات عزيزاً... فلهنّ حكايات أخرى.

سناء علي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...