وداعاً «ماري نستروم»: أوروبا تغلق سواحلها أمام اللاجئين

10-11-2014

وداعاً «ماري نستروم»: أوروبا تغلق سواحلها أمام اللاجئين

مئات القوارب البائسة التي تعبر البحر المتوسط لن تجد من ينتشلها. الشهران المقبلان سيكونان أشبه بمراسم تأبين لعمليات البحث والإنقاذ التي قادتها البحرية الإيطالية، تحت اسم «ماري نستروم» (بحرنا) الذي جاء من وحي هذه المهمة. حينما انطلقت، قبل عام من الآن، كان العالم ينقل صور مئات التوابيت للاجئين غرقوا قبالة جزيرة لامبيدوزا. أبحرت سفن الإنقاذ الايطالية تحت شعار «كي لا يتحول المتوسط إلى مقبرة».
كل هذا سيصير من الماضي قريباً. العملية البديلة انطلقت قبل أيام، تحت اسم «تريتون»، لتنفيذ مهمة مختلفة جذرياً، هي حماية الحدود. ستقودها وكالة «فرونتكس» المختصة بالرقابة الحدودية، بعدما أعلنت دول أوروبية عديدة معارضتها الاستمرار في عمليات البحث والإنقاذ.
التفويض الذي تعمل على أساسه «تريتون» لا يخولها النهوض بالمهام التي قامت بها «ماري نستروم»، كما أنها غير مجهزة أصلاً لهذا الغرض. انخرط في العملية الإيطالية قسم معتبر من الاسطول البحري، وعلى رأسه البارجة «سان جوستو» المزوّدة بتجهيزات متقدّمة تمكنها من القيام بالإنقاذ وإسعاف المصابين فوقها. أما العملية الجديدة فسيكون قوامها ست سفن مؤهلة لتنفيذ دوريات الرقابة الحدودية، تساندها طائرة وحوامة. التمويل أيضاً دليل إضافي على المهمات المحدودة، فهو يبلغ حوالي ثلاثة ملايين يورو شهرياً، أي ثلث ما كانت تنفقه البحرية الإيطالية على عملياتها.
كل هذه الحقائق استدعت انتقادات واسعة، سواء من سياسيين أو من الجمعيات الحقوقية. مبررات الأوروبيين لم تقنع العارفين بتفاصيل هذا النوع من السياسات. منهم وزيرة الهجرة الإيطالية السابقة سيسيل كينجي، التي سبق وخاضت في هذه النقاشات ولا تزال، بحكم كونها برلمانية أوروبية الآن.، قالت كينجي إنها تعارض ما قام به الاتحاد الأوروبي، موضحة أنه «في حال تم إيقاف عملية ماري نستروم من المهم أن نحصل على عملية بديلة تكون بالقدرة ذاتها، لكن عملية تريتون ليست الشيء نفسه».
وسط هذا النقاش، وجّهت «منظمة العفو الدولية» انتقادات لاذعة للحكومات الأوروبية. قال مكتب المنظمة في بروكسل إن إنهاء العملية الايطالية من دون إيجاد بديل لها يطرح «أسئلة خطيرة حول التزامات الدول الاوروبية بالنسبة إلى إنقاذ الأرواح، وحول مصداقيتها المتعلقة بحماية حقوق الإنسان».
هذه الانتقادات تسلحت بالأرقام، فالبحرية الإيطالية أنقذت أكثر من 155 ألف مهاجر، منذ انطلاق عملياتها في تشرين الأول 2013. «العفو الدولية» أبدت تعاطفها مع الجهود الايطالية المنفردة، وطالبت الأوروبيين القيام «بشكل عاجل ومشترك تأمين قدرات بحث وإنقاذ متينة، من أجل سد الفجوة الوشيكة في عمليات إنقاذ الحياة». الفجوة التي تتحدث عنها تتشكل نتيجة الطبيعة المختلفة للمهمة الجديدة، موضحة أن تفويضها ينحصر في «التركيز على دوريات السواحل، والتدقيق في طالبي اللجوء حالما يصلون إلى الساحل، وليس العمل في المياه العميقة».
عبر الملاحظة الأخيرة، تضع المنظمة إصبعها على الجرح، الذي كان تحدث عنه باستفاضة قائد البحرية الإيطالية فيليبو فوفي خلال حوار سابق. معظم عمليات الإنقاذ كانت تجري في المياه الدولية العميقة، وكانت بحرية فوفي قادرة على القيام بذلك بفضل استخدامها البوارج المؤهلة. بخلاف ذلك، السفن التي تم توفيرها لعملية «تريتون» ليست مؤهلة سوى للعمل في المياه الإقليمية، وستكون مهماتها محصورة في نطاق 30 ميلاً بحرياً.
هذه الترتيبات أثارت اعتراضات من «المنظمة الدولية للهجرة». فرانك لاكزكو، مدير أبحاث الهجرة في المنظمة، قال في حديث  إن «الأولوية الأولى في نظرنا يجب أن تكون حماية الحيوات، ولذلك ساندنا بقوة عمليات البحرية الإيطالية. هل يمكن أن نتخيّل ما الذي كان سيحدث من دون ماري نستروم؟ بالتأكيد كانت أعداد الذين فقدوا حياتهم لتكون أعلى».
برغم جهود الانقاذ الايطالية، فقد ما يزيد على ثلاثة آلاف شخص حياتهم نتيجة غرق مراكب التهريب. لفت لاكزكو إلى أن الامتحان الحقيقي للعملية الجديدة سيكون في الربيع المقبل، على اعتبار أن أحوال البحر في فصل الشتاء توقف حركة الهجرة.
في الفترة الحالية، تمرّ عمليات الإنقاذ الايطالية بمرحلة انتقالية، حتى أواخر الشهر المقبل، قبل أن يتم إيقافها تماماً كما أعلنت وزراة الدفاع الإيطالية. إلى ذلك الحين سيجرّب الأوروبيون طريقة جديدة في العمل. ستقوم دوريات الرقابة الحدودية بإعلام البحرية الإيطالية، في حال صادفت حوادث غرق قوارب. حينها سيكون على الإيطاليين واجب الإنقاذ، كما تقتضي القوانين الدولية.
لكن قائد البحرية الإيطالية سبق وقال إن العنصر الحاسم هو التواجد في المياه العميقة، وهو ما لا تستطيعه العملية الجديدة وليست مخولة بفعله أصلاً. قال فوفي معلقاً على ذلك «إذا بقينا فقط في المياه الإقليمية فلن نرى إذا كان الناس في خطر أو إن كانوا يغرقون».
خلال الأشهر الماضية لم يوفر الايطاليون وسيلة للضغط على الأوروبيين كي يساعدوهم. أطلقوا نداءات متكررة طلباً للمساهمة من دون جدوى. لوحوا مراراً بأنهم سيوقفون عمليات البحث والانقاذ. وصل الأمر حد الربط بالتهديد الإرهابي، عبر الإعلان أن المهاجرين قد يكون بينهم إرهابيون متسللون. كشفت روما أن أحد القوارب حمل في العام 2011 أحد المطلوبين للسلطات الأميركية بتهمة الارتباط بتنظيم «القاعدة».
كل تلك المحاولات لم تأت بنتيجة. احتج الأوروبيون بأن العملية الإيطالية شجعت على ازدياد أعداد اللاجئين عبر البحر، وكانت بمثابة «جسر» لهم، كما قالت ألمانيا. الدول المعارضة حاججت بأن إيطاليا تنقذ اللاجئين، لكنها تسهل لهم السفر إلى الشمال الأوروبي، حيث استقرّ معظمهم.
بريطانيا كانت من الأكثر تصلباً، ورفضت تقديم أي مساهمة حتى في عمليات الرقابة البحرية. بعض الصحف البريطانية هاجمت توجهات لندن، واعتبرت أن ما تبنّاه الأوروبيون تجاه المهاجرين عبر المتوسط هو سياسة جديدة عنوانها «دعهم يغرقوا».
المأخذ الجوهري على بريطانيا ونظرائها أنهم نسبوا زيادة الهجرة عبر البحر إلى عمليات الانقاذ، من دون أن يتحدثوا عن دور الحروب والنزاعات التي سببت يأس الآلاف ودفعتهم إلى المجازفة بحياتهم. يلوم الأوروبيون المهربين، خصوصاً في ليبيا التي «توشك أن تصير دولة فاشلة»، كما قال حرفياً مسؤولون أوروبيون، بعد حملة جوية أطاحت النظام السابق، لكنها تركت البلد وشعبه للتمزق في حرب أهلية مستعرة الآن.
لكن الحديث عن المهاجرين في سياق السلبية ليس مسألة عارضة، بل يبدو أنها سياسة ممنهجة وفق المعنيين. حينما سألنا لاكزكو، مسؤول منظمة الهجرة الدولية، عن القضية رد بالقول إن «الطريقة المضللة التي تعرض بها قضية المهاجرين تخلق الانطباع كأن هناك اجتياحاً من المهاجرين لأوروبا». لفت إلى نتائج مسح أجروه في العام 2011. أظهرت أرقامه أن المواطنين الأوروبيين يقدرون عدد المهاجرين في بلادهم بما يفوق ضعفين إلى ثلاثة أضعاف الأعداد الفعلية.
لحسن الحظ أن من يتحدّث هو مسؤول في «المنظمة الدولية للهجرة»، التي ولدت في العام 1951 بغرض مساعدة أوروبا على توطين ستة ملايين لاجئ تشرّدوا بعد الحرب العالمية الثانية. ينتقد لاكزكو كيف أن أوروبا لا تأتي الآن على ذكر الدور الإيجابي للهجرة، التي لم تتوقف على مدار التاريخ. بريطانيا المتصلّبة تجاه المهاجرين، حتى بالنسبة إلى المواطنين الأوروبيين، لديها الآن ما يفوق خمسة ملايين مهاجر بريطاني في الخارج.
لكن السرديات السلبية هي المربحة، خصوصاً لخطاب أحزاب اليمين، واليمين المتطرف، الصاعدة في عموم القارة العجوز. حتى السويد، البلد المعروف بتسامحه مع استقبال اللاجئين، فاز في انتخاباته الأخيرة حزب متطرف يرفع راية العداء للهجرة.
برغم الخطاب الحربي الأوروبي ضد ما يسمّونه «الهجرة غير الشرعية»، لا يقدّمون عملياً أي حلول بديلة. بدائلهم لطالما كانت تشبه عملية «تريتون»، وكان هاجسها رفع الأسوار على حدودهم. منذ سنوات تتواصل النداءات، مصحوبة بالوعود السياسية، بأن هناك حاجة لسياسة لجوء وهجرة مشتركة، تفتح أبواباً شرعية وممكنة لمن يريد الوصول إلى القارة العجوز.
قالت وزيرة الهجرة الإيطالية السابقة  إن على أوروبا المعترضة توفير السياسة المفقودة: «إذا أردنا القيام بشيء قويّ، فمن المهم جداً أن نضغط في البرلمان الأوروبي لصياغة سياسة هجرة ولجوء مشتركة».
الوصول إلى أوروبا لطالما كان مسألة معقدة بالإجراءات والاشتراطات، حتى قبل موجة الهاربين من النزاعات والحروب في الدول الموصومة بتسمية «العالم الثالث». الأمر ممكن دائماً لأغنياء تفتح لهم أموالهم كل الأبواب، وإلى جانبهم هناك قلة كانت محظوظة إما عبر دعوات إلى مؤتمرات أو ما شابه، أو عبر الايفادات الحكومية. حتى بالنسبة إلى القادرين في الطبقة المتوسطة، ممن أرادوا القيام بزيارات قصيرة، كان هناك شروط أولها امتلاك حساب مصرفي فيه حد أدنى من المدخرات لا يتناسب مع مستوى دخل بلدانهم.
في أحد المؤتمرات الكثيرة التي تتحدث عن القضية الساخنة، قال سيرجيو بارسيلا فيرنانديز، الباحث الاسباني المتخصص في سياسات اللجوء والهجرة، إن أوروبا «لم تترك في الحقيقة منفذاً أمام الناس إلا اللجوء إلى شبكات المافيا والتهريب».

وسيم إبراهيم

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...