نحو مقارنة وصفية بين الأديان

20-08-2006

نحو مقارنة وصفية بين الأديان

صدرت طبعة جديدة عن "دار النهار" لكتاب الدكتور أديب صعب "الأديان الحيّة، نشوؤها وتطورها، وهو الكتاب الثاني من رباعيته المعروفة في الفكر الديني. هنا المقدمة التي صدّر بها المؤلف هذه الطبعة.
كل مؤلف يخالجه شعور من الرضى والفرح عند صدور طبعة جديدة لأحد كتبه. وقد ازداد الطلب، منذ سنوات، على اعادة اصدار ثلاثية المؤلف في الدراسات الدينية، خصوصاً "الاديان الحيّة" التي تشكل واسطة العقد. هذا الكتاب الذي يظهر في طبعته الثالثة، أذاً، ليس مقصوداً لذاته، وإن أمكن ان يشكل موضوعاً لقراءة مستقلة ومفيدة. لكنه يأخذ نقطة انطلاقه من فاتحة الثلاثية، "الدين والمجتمع"، ويمهّد لخاتمتها، "المقدمة في فلسفة الدين". وإذ يأتي اليوم على حدة، فالمؤمل نشر طبعة جديدة قريباً للكتب الثلاثة المتكاملة، علماً ان اختصاص المؤلف الاكاديمي يقع في حقل فلسفة الدين، ولا يعوّل على التاريخ إلا بمقدار النفع الذي يسديه للفلسفة. والفائدة التي يمكن ان تجنيها الفلسفة من التاريخ (والتاريخ من الفلسفة) كبيرة حقاً. وتجدر الاشارة الى ان الثلاثية المذكورة اصبحت رباعية مع صدور كتاب جديد للمؤلف بعنوان: "وحدة في التنوّع: محاور وحوارات في الفكر الديني"، هو تتمة منطقية لكتبه الثلاثة السابقة.
الدراسات الدينية، كما يفهمها المؤلف وكما هي معروفة اليوم في عدد من الجامعات ومراكز الأبحاث حول العالم، تقوم على النظر الموضوعي الى الاديان من نواحيها التاريخية والفكرية والطقسية والتنظيمية والاجتماعية، ومن أي ناحية أخرى تخضع للدراسة العلمية. والمواد التي تكوّن نواة هذه الدراسات هي تاريخ الاديان وفلسفة الدين وعلم النفس الديني وعلم الاجتماع الديني. والى أهميتها العلمية في ذاتها وفي حقول التاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية، يمكن ان تؤدي هذه الدراسات خدمة كبيرة للحياة والفكر الدينيّين. صحيح ان من يعيش الدين عملياً لا يستمد دوافعه عادة من الوقائع التاريخية او المفاهيم الفلسفية او الاحصاءات السلوكية. لكن هذه الوقائع والمفاهيم والاحصاءات من شأنها ان تجعله يفهم دينه ويمارسه على نحو أفضل، ويحترم ذوي الاديان والعقائد الأخرى في اطار من التفاهم والسلام على مختلف الصعد الاجتماعية والعالمية. وتستطيع هذه الدراسات ان تساهم في نقل الفكر الديني نفسه او اللاهوت، كما في نقل التعليم والرعاية الدينيين، من الانماط السجالية التي ما تزال سائدة على نطاق واسع الى أنماط أكثر ايجابية.
يسر المؤلف ان رباعيته، التي لقيت تقدير كبار ممثلي الاديان والفكر الديني وصدرت أكثر من مرة وما يزال الطلب عليها كبيرا، نبهت القارىء العربي المعاصر للمرة الاولى الى ماهية الدراسات الدينية وأهميتها، كما طرحت فلسفة للدين قائمة على منهج منطقي صارم وأسس تاريخية راسخة. وقد أخذت بعض جامعاتنا الى حد، بهذه الدعوة، فاستحدثت مواد في تاريخ الاديان وفلسفة الدين والمقارنة الموضوعية او الوصفية بين الاديان بعيدا عن المفاضلة. الا ان الخطوة هذه تبقى خجولة في غياب دوائر مستقلة للدراسات الدينية، تعمل جنبا الى جنب مع دوائر التاريخ والفلسفة والعلوم السلوكية والآداب واللاهوت.
كما تبقى هذه الخطوة ناقصة جدا ما لم تعد باحثين يعتمدون أرقى الشروط الاكاديمية. لكن المؤسف، رغم تأسيس بعض برامج الدراسات ان الكتابات العربية المعاصرة ما تزال منعدمة في علم النفس وعلم الاجتماع الدينيين، وهزيلة في فلسفة الدين، وغير علمية في تاريخ الاديان، مع حاجة ماسة الى الثقافة والاصالة والابداع في كل هذه المجالات.
لعل بعض هذه المحنة جزء من محنة الانسانيات التي بدأت تشتد منذ نحو ثلاثة عقود لا في جامعاتنا العربية فحسب، بل حول العالم. حتى في جامعات الغرب ذات التراث المستمر والمتراكم والعريق، تعاني الدراسات الكلاسيكية والادبية والفلسفية ضعفا أكيدا بالمقارنة مع الماضي غير البعيد نسبيا. والكتابات العظيمة حول شؤون ثقافية خطيرة من نوع التراجيديا الاغريقية وأعمال افلاطون وأرسطو والرواقيين والاداب اللاتينية والتصوف وعصر النهضة وشكسبير والحركات الكلاسيكية والرومنطيقية والرمزية في الشعر والادب والفن، والاعمال الابداعية لعباقرة مثل دوستويفسكي وتولستوي وكامو، تبدو كأنها قد تلاشت وباتت صدى من انجازات الماضي السعيد وذكرياته.
لسنا هنا في صدد معالجة عوامل هذه المحنة وسبل تجاوزها. لكننا نتطلع الى تأليف عربي اصيل في مختلف حقول الدراسات الدينية، يفيد في آن معا من افضل الانجازات العالمية في هذه الميادين ومن الثقافة العربية في عصرها الذهبي، أي خلال المرحلة المعروفة بالقرون الوسطى في الغرب. وفي الحقل الذي ينتمي هذا الكتاب اليه، تاريخ الاديان، نأمل صدور كتابات علمية رصينة حول أديان المنطقة وأديان العالم، تعتمد افضل المناهج والطرائق التي توصل اليها كبار العلماء في هذا المجال.
لماذا لا يكون لنا باحث عربي في تاريخ الاديان من عيار الباحث الروماني ميرسيا ايلياد مثلا؟ لماذا لا يكون لدينا مجموعة مؤرخين عرب تبادر الى نشر مجلة، او اكثر من مجلة، مكرسة لهذا الموضوع، متى يكون لدينا دارس للهندوسية او للبوذية يتقن اللغات الاصلية لهذه الديانة او تلك ويقيم مقارنات مفيدة، تاريخيا ودينيا، خصوصا بينها وبين الاسلام او بينها وبين المسيحية الشرقية، في مراحل التاريخ التي تلاقت فيها هذه الاديان على الارض الهندية او العربية او سواهما؟ متى يتسنّى لنا هؤلاء العلماء العرب الذين لا يكتفون بالاخذ عن الغربيين، بل يقدّمون مادة اصيلة يأخذ عنها الغربيون وسواهم اخذهم عن حجة، كما يصححون الاخطاء وينبّهون الى الأهواء التي وقع فيها الغربيون عند دراسة اديان منطقتنا، ولا سيما الاسلام والمسيحية الشرقية، من غير ان يركبوا اهواءهم الشخصية ويرتكبوا اخطاءهم الخاصة؟
هذا المؤرخ العربي المنشود، الذي يجب ان يستمد مبادئ علمه من افضل ما توصلت اليه البحوث العالمية في تاريخ الاديان، يجب ان يعرف، في الوقت نفسه، ان تاريخ الاديان، حسب المنهج الوصفي او الفينومينولوجي، بدأ قبل ألف سنة في تراثنا العربي مع البيروني في كتاباته عن اديان الهند، ربما قبل ان يبدأ في اي تراث آخر. لا بد لهذا المؤرخ، اذاً، من العودة الى البيروني وسواه من مؤرخي الاديان العرب، مع استلهامهم واظهار اهميتهم للعالم.
المؤرخ المنشود للاديان، مثل كل باحث جدي، تعده وتتعهده عادة الجامعات ومراكز الابحاث عبر تأمين كل التسهيلات المطلوبة، وفي هذا الزمن الذي يشهد تقهقر الانسانيات، نرجو ان تبادر الجهات القادرة الى اصلاح الجامعة باعادة الروح اليها. وهذه الروح هي الانسانيات. وعلى اهمية العلوم الطبيعية والهندسة والتكنولوجيا في بناء المجتمعات والحضارات ومسؤولية الجامعة في احتضان هذه المعارف وتنميتها، فما يصنع الجامعة، وما يصنع الانسان والمجتمع والحضارة، صنعاً حقيقياً باضفاء الهدف والمعنى والقيمة على هذه العلوم هو الدراسات الانسانية. واذا كانت الانسانيات قلب الجامعة، فقلب الانسانيات يكمن في التاريخ والفلسفة: التاريخ للسعة والفلسفة للعمق.
وفي ظل واقع عالمي يسوده الاستغلال والحروب والظلم ويعلو فيه منطق القوة على منطق الحق، لا بد من احياء المثال القديم القائل بأن الناس حول العالم اخوة بعضهم لبعض ومواطنون لمدينة واحدة هي العالم بأسره. هذا المثال نادت به احدى الفلسفات التي كانت منطقتنا مهداً لها، وهي الفلسفة الرواقية. واذا كان الكلام عن "العولمة" من الموضوعات الطاغية اليوم، واذا كانت النماذج المطروحة للعولمة تقتصر على الجوانب الاقتصادية التي تحاول توحيد العالم عبر هيمنة الاقوياء، اي تحت حد السيف، فالمطلوب "عولمة مضادة"، ان جاز التعبير، ترفع الظلم وتحقق العدالة ويستعيد فيها الانسان روحه الضائعة.
نرجو ان تكون دراسة التاريخ من العوامل التي تحفزنا على استعادة المثال الرواقي للعولمة الصحيحة، هذا المثال الذي تجسده الاديان خير تجسيد. صحيح ان تاريخ الاديان، في جانب منه لا يستهان به، هو تاريخ يكتنفه سوء التفاهم والعنف، وان الحروب الدينية، القومية والاهلية، كانت من اسوأ الحروب على مرّ الزمن. هذا الجانب المظلم سوف يبقى، مع الاسف، جزءاً من تاريخ الاديان، وان كان لا ينتمي الى جوهر الدين. وهو جوهر لا نستمده من قراءة محض ظاهرية لمسيرة الاديان، بل نستمده من دراسة عميقة للتعاليم الدينية في ارقى صورها.
هذا يعني ان اموراً عظيمة مثل النبوّة وصراع الروح ضد قوى الشر وملحمة النفس البشرية في معركة الوجود لتحقيق انبل ما فيها ستبقى هي ايضاً جزءاً من تاريخ الاديان، بل الجانب الاصيل من هذا التاريخ.
ونؤكد هنا، مرة اخرى، على الترابط الوثيق بين التاريخ والفلسفة كشرط لتحقيق اي دراسة عادلة ومتوازنة في ماهية الاديان. هذا ما حاولناه في الفصل الاخير من الكتاب الحالي، اذ اقمنا ما سميناه "مقارنة وصفية" بين الاديان، بعيداً عن المفاضلة، افضت بنا الى ملاحظة عناصر مشتركة بين الاديان يتألف منها بالذات جوهر الدين. والدين جوهر قبل ان يكون اي شيء آخر، قائم على المحبة والتفاهم والسلام بين الناس. ولئن صحّ ان ما يمنح ديناً معيناً بعض هويته هو ما يميز هذا الدين عن سواه، فهناك هوية دينية عميقة مستمدة من هذا الجوهر الواحد. وعند الكلام عن هوية دينية، يجدر البحث عنها في ما يجمع قبل البحث عنها في ما يفرّق. وحسب هذا الكتاب انه خلص الى ما يجمع.

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...