في الشارع طفولة تقاسي وجع الأيام

02-01-2011

في الشارع طفولة تقاسي وجع الأيام

غرباء عن أفراح المدينة.. يرتدون الفرح بعين وبالعين الأخرى ينثرون حلم أطفال بعمر صغير على الخيبات.. يفترشون الطريق سريراً ويختارون دفء الشمس غطاءً.. أطفال ظلمتهم الحياة وقست عليهم مرة، وهم على أمل أن يعيشوها مرة فما الذي أوصلهم إلى هنا.
يقال إن ما في الشارع ليس موجوداً بأي كتاب.. وفي الشارع السوري أيضاً أطفال لا تستطيع مئات الكتب أن تصف معاناتهم وآهاتهم, فالأسباب التي أوصلت أطفالاً صغاراً إلى بيع طفولتهم بين أحذية المارة، وعلى عربات الفول وبسطات «الغزلة» أسباب قد لا يدركها حتى المهتمين بشؤون الأسرة والطفل، ففي كل مكان أطفال بأعمار مختلفة متسربين من مدارسهم يعملون لإعالة أسرهم.
من البرامكة إلى جسر الثورة إلى سوق الهال وقلعة دمشق والقائمة تطول, وفي أحد الشوارع كان لنا لقاء مع «هاني» ذي السنوات الاثنتي عشرة.. هذا تقدير هاني لعمره فهو لا يتذكر ما إذا كان في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من العمر حسب قوله «كلو متل بعضو».. ويتابع هاني الطفل الكبير الذي يبيع «اليانصيب» وبطاريات الساعات على زاوية بالقرب من جسر الثورة: «أستيقظ من طلوع الفجر لشراء الخبز لأسرتي ومن ثم أخرج إلى عملي الطويل، فوالدي تركني مع أخوتي الخمسة وذهب ليجدد شبابه بزواج آخر, ولم أرَ وجهه منذ خمس سنوات ولا أعلم عنه شيئاً»، ببراءة الأطفال وبكل حسرة وألم يقول هاني: «أمي عندها سكري ولا تستطيع العمل كثيراً، وأخي الكبير يعمل ميكانيكياً لكن من النادر أن أراه، فعندما أعود إلى البيت يكون قد ذهب إلى «السهرة» فهو يذهب في النهار إلى العمل وفي الليل يسهر مع أصدقائه».
التعليم إلزامي
تنص الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل وقوانين حماية الطفل في سورية على أن التعليم إلزامي حتى سن الخامسة عشرة ولا يُسمح بعمل الأطفال دون الثانية عشرة من العمر, ويُسمح لمن هم بين الثانية عشرة والثامنة عشرة بالعمل لساعات قليلة على أن يكون العمل غير مجهد وفي مكان غير خطر حفاظاً على سلامة الطفل النفسية والجسدية، ولكن على الرغم من هذه القوانين فإن عدد المتسربين من المدارس في سورية لا يُستهان به، والسؤال الذي يطرح نفسه هل تستوعب مدارسنا عدد المتسربين من المدارس؟
فعامل البوفيه أحمد الذي يعمل في أحد مطاعم المنطقة الحرة لم يعرف بماذا سيجيبنا عندما سألناه لماذا أنت هنا ولست في المدرسة، فما كان منه إلا أن نظر إلينا كثيراً وارتبك قليلاً ثم قال: «عم بشتغل شو بدي بالمدرسة..؟ وحسب رأي والدي الدراسة ما بتطعمي خبز فوزع المهام عليّ وعلى أخي، وعلى كل واحد منا أن يأتيه بثلاثمئة ليرة يومياً حتى نؤمن له ثمن الدخان ومصروف الجيب».
أما عبد الله الذي لا يعرف سبب دخول والده إلى السجن ناهيك عن أن أمه تزوجت منذ فترة طويلة وهو وأخوته السبعة يعيشون في بيت صغير جداً في منطقة القزازين.. عبد الله  يعمل ماسح أحذية عند جسر الثورة وأحياناً يضع بسطة «غزلة» يديرها أخوه الأصغر مصطفى الذي كان يحلم أن يذهب إلى المدرسة كبقية الأطفال الذين يراهم كل يوم أثناء طريقه لعمله، فمصطفى ابن السنوات العشر كان يحلم أن يصبح محامياً على الرغم من أنه لا يعرف ماذا تعني كلمة محامٍ، ولكنه يحاول أن يقرأ بعض اللافتات التي لا يرى عليها إلا أسماء الأطباء أو المحامين، ولكن أين السبيل إلى الجامعة وهو بالكاد يقرأ ويكتب اسمه ويتهجأ الأسماء الموجودة على اللافتات حتى أنه لا يذهب إلى المدرسة.
على باب الله
مشاكل لا تُعد ولا تحصى وراء عمل الأطفال لاسيما المشاكل المادية المتعلقة بضيق الحال والفقر, فمعدلات الفقر المرتفعة وصلت  إلى 5.3 مليون نسمة من سكان سورية في دراسة أجراها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي, إضافةً إلى ارتفاع تكاليف المعيشة والجهل والتفكك الأسري، وتعرض الأطفال للتحرش الجنسي.
فهدى ذات الأربعة عشر ربيعاً التي تعمل في تنظيف البيوت وتعاني من مرض الربو، وتخرج من الثامنة صباحاً لتعود حوالي العاشرة مساء تقول: «كان يعمل والدي في أحد المعامل الخاصة وتوفي أثناء العمل نتيجة تعرضه لضربة كهرباء، أما أمي بحاجة كل أسبوع إلى غسيل كلى، لذا وجدت نفسي مسؤولة عن أخوتي ولا أريد أن يُحرَموا نعمة التعليم التي حُرمت منها فأسعى جاهدة إلى تأمين ما أستطيع لهم ليكملوا تعليمهم».
أما أدهم فلا يحب التكلم في الموضوع، فعندما تراه كل الأشياء تجعلك بحالة ذهول وصمت فتحت المتحلق الجنوبي ينام ويعمل ويعيش في المكان نفسه.. أدهم الذي أراه كل يوم في طريقي إلى العمل بالكاد استطعت التكلم معه, فهو بالكاد أيضاً كان مستيقظاً وعلى وجهه علامات التعب والحيرة والغضب فهو ينام على الطريق وبجواره أخوه الأصغر يتغطى كل منهم بشرشف لا يكاد يدفئ جسميهما، وعندما سألناه لماذا تنام على الرصيف؟ قال بكلمات مختصرة: «لا تسأليني عن الأسباب فنحن ناس على باب الله».
أما سهام التي رأيناها عند القلعة تقطع الشارع ذهاباً وإياباً تمسح السيارات تارة وتبيع علب «المحارم» تارة أخرى قالت لنا: «كثير من الصحفيين أتوا لسماع مشكلاتنا وقصصنا المأساوية ولكن «ما طلع معهم شيء» ونحن كل يوم مثل الذي قبله نعمل لآخر الليل ونعود في الصباح، فأبي لا يتوقف عن ضربي وأنا لم أتوقف عن العمل لأؤمن لقمة عيش أهلي، كما أن الناس لم يتوقفوا عن السخرية و«الحركشة» وأحياناً بالإغراءات المادية حتى أذهب مع أحدهم إلى مكان ما».
الفقر والتفكك الاجتماعي
برأي علم الاجتماع تنقسم عمالة الأطفال إلى إيجابية وسلبية وحسب رأي الأستاذ في قسم الاجتماع بجامعة دمشق الدكتور طلال مصطفى: «عمالة الأطفال لا تكون دائماً سلبية بل هناك عمالة إيجابية، فعمل الأطفال يكون إيجابياً عندما يكون تحت رقابة أسرية وعندما يكون العمل مناسباً لقدرات الطفل الجسدية والعمرية, فالطفل حتى بسنواته الأولى يساعد أهله في بعض الأعمال المنزلية وهذا شيء إيجابي لأنه ينمي قدرته الجسدية وإحساسه بالمسؤولية الاجتماعية، فهو يشعر بأنه مسؤول في الأسرة ولديه شخصية مستقلة, وكذلك يظهر عنده النضج الجسمي والاجتماعي والمعرفي مبكراً».
وعن العمالة السلبية يوضح د.مصطفى: «عادةً الطفل يقوم بأعمال هامشية إما ببيع بعض الأشياء على «البسطات» في الشوارع أو الحدائق أو قد يعمل بورش كالحدادة والنجارة والكهرباء وكلها ضمن القطاع الخاص، ففي القطاع الحكومي ممنوع أن يعمل الأطفال تحت سن الثامنة عشرة» ويضيف: «في القطاع الخاص لا تؤخذ بعين الاعتبار قدرة الطفل الجسمية، فأصحاب المهن الخاصة يستغلون الأطفال مادياً وجسدياً ومن المفروض أن يكون هناك لجان مختصة تراقب عمل هؤلاء الأطفال, وبالنسبة للعوامل التي تجعل الطفل يخرج للعمل، فالسبب الأساسي هو الفقر أو الحاجة فهناك بعض الحالات الاجتماعية التي تدفع الطفل للعمل كوفاة الأب أو التفكك الأسري، وعند طلاق الوالدين قد يضيع الأولاد ما بين الأم والأب, وأحياناً لا يكون هناك وعي كافي لخطورة عمل الأطفال فنجد أسرهم تدفعهم للعمل خاصة في العطل الصيفية من دون معرفة بخطورة الأعمال التي يقومون بها هذا إذا ما تسرب الأولاد من المدرسة».
ويختم د.مصطفى: «تتمثل النتائج السلبية التي تعود على الطفل نتيجة العمل بعمر مبكر في أمراض نفسية وجسمية فنرى الطفل يعاني من خلل بالنمو الجسدي والنفسي ومن بعض العاهات الجسدية، فوجود هؤلاء الأطفال في بيئة اجتماعية قد يظهر عليهم عدم القدرة على التواصل الاجتماعي السليم مع الآخرين فهم عرضة للانحراف، وهذا ما وجدناه في مدارس الأحداث فأغلب الشباب الموجودون والذين هم دون الثامنة عشرة كانت لديهم انحرافات غير أخلاقية كالسرقة والنهب والتدخين بسبب قضاء وقت طويل في بيئة غير سليمة.. هذا إذا ما تكلمنا عن النمو النفسي والوجداني غير السليم الذي تعاني منه هذه الشخصيات غير المتزنة عاطفياً واجتماعياً».
ماذا تعني مكافحة..
سماء حارقة أم ماطرة لا يهم وليس بالحسبان التفكير بالطقس ما دام أصحاب الأمر لا يدركون ما الأمر, فماذا يفعلون لأطفال المستقبل وشباب المستقبل.. هؤلاء الذين يسكنون بيوت غرفها مفتوحة إلى السماء كأيديهم وينتظرون الآتي لعله يكون أفضل وهم لا يعلمون, فوزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل الدكتورة ديالا الحج عارف أكدت «أنه لا يمكن الجزم بخلو سورية من عمالة الأطفال» لافتة إلى أهمية تعاون جميع الأطراف المعنية ممثلة بالوزارة و«اليونيسيف» ومنظمة العمل الدولية والجمعيات الأهلية والحكومية.
كلام الوزيرة جاء خلال ورشة العمل التي أقيمت لمناقشة أولويات ومحصلات خطة العمل الوطنية الخاصة بمكافحة أسوأ أشكال عمل الأطفال في سورية وأضافت الوزيرة: «أنا أعترض على كلمة مكافحة، والأفضل هو الحد منها تمهيداً للقضاء على عمالة الأطفال؛ لأن الفقر ليس السبب الوحيد لهذه الظاهرة إضافةً إلى ضرورة التمييز بين امتهان الأطفال لحرفة أو مهنة لأسباب تتعلق بالفقر وبين العادات والتقاليد المتوارثة في المجتمعات».
وتابعت د.عارف: «تعديل فكرة نقل أي حرفة أو مهنة من جيل الى آخر، وعدم ارتباط نقلها بممارسة الأطفال المبكرة لها والعمل على تطوير وارتقاء جميع المهن» مشيرة إلى «أنه ليس هناك أرقام دقيقة لدى الوزارة لعمالة الأطفال في سورية, وهناك محاولات لتجديد البحث عن إحصاء وصولاً إلى الأرقام المنشودة»، وتعتقد الوزيرة أن هذه الظاهرة في سورية لم تتحول إلى المستوى المعقد وبالجهد المتواصل ستتقلص الظاهرة.
أبحاث وإحصائيات
كشفت مديرة المكتب الإقليمي في منظمة العمل الدولية في بيروت شذى الجندي أن الأرقام التي نتجت من خلال الدراسات والأبحاث عن عمل الأطفال في سورية بينت أنه يوجد 650 ألف طفل يعمل أغلبهم بالقطاع الزراعي  والمؤسسات العائلية.
وبينت الجندي أمام ورشة وزارة الشؤون لمكافحة عمل الأطفال أن نسبة الأطفال العاملين الذين تتراوح أعمارهم بين 5-14 سنة تشكل 4% من النسبة الكلية لعمل الأطفال، وأكدت أن برنامج مكافحة عمل الأطفال يعد إحدى نتائج برنامج العمل اللائق الذي أُطلق عام 2008، وهو مهم جداً للتصدي لهذه الظاهرة، وأضافت: «ستُطلق في الفترة القادمة وثيقة برنامج تعزيز الحوار الاجتماعي لمشاركة جميع الجهات المعنية بالتعاون مع كافة الجهات في سورية، كما ستُطلق دراسة خاصة تكشف واقع عمالة الأطفال في سورية».


لورى محمود

المصدر:الرأي السورية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...