غسان رفاعي: الشابة الوديعة واللغة الخشبية

18-05-2009

غسان رفاعي: الشابة الوديعة واللغة الخشبية

-1- الرواية سهدت جفني يوم ظهورها- ولم يكن كاتبها مشهوراً ولا معروفاً والفيلم أوجعني- ولم يكن مخرجه قد كرس بعد في حوليات الفن السابع- أبطال الرواية ثلاثة: رجل يخضخض في خريف العمر صعد في سلم الارتقاء الاجتماعي حتى بلغ القمة، وزوجة ارستقراطية تسبح في الجاه والرفاه، وشابة في مقتبل العمر، تملك رخاوة الجسم، وتوهج القلب وفوران الطموح، ولكنها ماتزال تتردد أمام تخوم الحياة، يلجمها خفر دون التقدم، وكان للرجل مع زوجته حياة علنية تتلألأ فيها المسرات والنجاحات، وتخضع لطقوس الروتين الاجتماعي، وكانت له مع الشابة حياة سرية خارج الشرعية الاجتماعية، تمتاز بالتأجج العاطفي، والسحر الرومانسي، وقد نجح الأبطال الثلاثة في التوصل الى نوع من التعايش السلمي والهادئ بين الحياتين، دون ضجيج ولا افتضاح.

‏ -2- ‏

كان الرجل «نجماً» يتربع على عرش امبراطورية مالية، ويتخايل فوق شبكة من العلاقات السياسية مع فرسان السلطة، ويحتل مراكز الصدارة في الاعلام المكتوب، والمرئي، والمسموع، ولا يكاد يمر يوم دون أن تظهر صوره وهو يتحدث عن «ازدهار الاقتصاد الوطني» و«الارتقاء بسمعة البلاد الحضارية» في المحافل الدولية، وكانت زوجته دوماً الى جانبه، تبتسم بإغراء، وتبارك مساعيه الحميدة. وكانت الأدبيات الرسمية ترشحه للمناصب الرئيسية المرموقة، وهو لا ينقطع عن إظهار زهده وترفعه. أما الشابة فقد كانت متوارية عن الأنظار، ولا يعرف أحد شيئاً عن حياتها المهمشة المتواضعة وكانت حريصة على أن تبقى خارج دائرة الضوء، قنوعة بدور «الظل الشاحب» خلف الأستار المسدلة، فخورة بارتباطها «السري» برجل يؤمن لها الحماية والوفرة. ‏

-3- ‏

حينما ينقضي النهار بضوضائه وتوتراته، ويطل الليل بأسراره ومباهجه، يتسلل «النجم الاجتماعي» الى شارع خلفي معتم، ويغلس الى شقة صغيرة، مغيبة بين الأزقة، وبعد أن يتلفت يمنة ويسرة، يدخل بحذر والعرق يتصبب من جبينه العريض، وما أن يغلق الباب خلفه حتى تنفرج أساريره، ويغمره شعور بالفرح والطمأنينة والارتياح، ويتداعى على الأريكة، وكأنه قد تخفف من أطنان من الأثقال، وسرعان ماتقفز الشابة اللدنة الى حضنه، وهي مضمخة بالطيب والريحان، وترتمي على صدره، تسكب عليه الوداعة والبلل، وفجأة تفك عقدة لسانه، ويفارقه الخوف ويقول لها بصوت خفيض دافئ: ‏

- «يا الله، ماأجمل أن أراك، بعد نهار ثقيل، بغيض، يا الله، ماأقبح هذه المسرحية التي أمثلها بإتقان، في الاجتماعات والندوات، واللقاءات الرسمية، معك أستعيد إنسانيتي، وطفولتي، هنا في هذه الشقة الضائعة بين الأزقة، أرمي كل أقنعتي ومساحيقي، أستعيد براءتي وصفائي، كيف أشكرك؟ كيف أرد لك الجميل..؟». ‏

وتتقصف الشابة بدلال، وتهمس: ‏

- «أظل خائفة، متوترة حتى تأتي، لاأشعر بالأمان إلا حين أراك، ذراعاك تجعلاني قوية كاللبوة، فلا تتركني»! ‏

-4- ‏

وفي ذات ليلة كثيرة الأمطار والعواصف، دلف «النجم» الى شقة الشارع الخلفي، وكعادته تلفت يمنة ويسرة قبل أن يدخل، وما أن استقر على أريكته حتى هتف بصوت متعب: ‏

- «أين أنت» افتقدتك اليوم أكثر من أي يوم آخر!». ‏

‏ ولم تهرع إليه، ولم تستجب لندائه الحنون، وبقيت في مكانها، مقطبة الجبين مكفهرة التقاطع، ودموع سخية تهطل من عينيها الوطفاوتين.. ‏

وجن جنونه، وقام إليها يمسح دموعها، ويربت على شعرها الأسود. ‏

ماذا حدث؟ أفديك بالعمر كله، لماذا هذا البكاء؟ ولماذا هذه الدموع، وقولي لي، ماذا حدث؟«. ‏

وأشاحت عنه بوجهها وقالت له بعد صمت: ‏

- »البارحة رأيت مشهداً في الشارع، أسلمني الى الغضب والحزن«. ‏

وركع على ركبتيه وأمسك بيديا، وقال متوسلاً: ‏

-»وماذا رأيت؟ ما الذي أغضبك؟« ‏

ورفعت ناظريها إلى السقف، وكفكفت دموعها، وقالت بتحد: ‏

- »اسمعني جيداً! لقد قدمت لي مالم يقدمه أي رجل لامرأة، منحتني الحماية، أغرقتني بالرفاه، شملتني بعنايتك الواسعة، لكنك لم تعطني الحق في أن أتأبط ذراعك في الشارع علناً أمام كل الناس، ماأثارني البارحة مشهد عادي، عادي جداً. لقد رأيت رجلاً يتأبط ذراع امرأة بثقة واعتزاز، شعرت فجأة أنني لا أملك هذا الحق، إنني لا أراك إلا في الظلام، في شقة خلفية، مسدلة الستائر، ولا تدخل علي إلا على رؤوس أصابعك، بعد أن تلتفت يمنة ويسرة«. ‏

وامتقع لونه، وارتجفت شفتاه، ثم قال: ‏

- »ماذا دهاك؟ قلت لك، أكثر من مرة، إن حياتي الأخرى هي حياة مزيفة متسخة، وإنني لا أستعيد إنسانيتي إلا معك، صدقيني، أعد الدقائق، بل الثواني حتى أنهي دوري في مسرحية مفروضة عليّ، ولا قدرة لي على الخروج منها. ‏

أسألك بإلحاح، هل قصرت عليك، هل أنت بحاجة الى شيء آخر؟«. ‏

تقلصت، ودفعته عنها برفق، ثم قالت: ‏

- »المشهد الذي رأيته في الشارع فجر فيّ نزيفاً لايمكن إيقافه بعد اليوم. ‏

مادمت متضايقاً من حياتك الأخرى التي تصفها بالاتساخ، والزيف، فلماذا لاتتخلى عنها، لماذا لاتكون صادقاً مع نفسك، ألا تملك الشجاعة الكافية لإعلان رفضك للدور الذي تمثله في تلك المسرحية؟«. ‏

وصمت، وحاول أن يرد فتلعثم: ‏

- »حياة متسخة، ولكنها تؤمن لي الاستقرار، لماذا هذا الإصرار، لماذا، أنا حريص عليك، ولكن؟ من أين أتتك هذه الفكرة؟ كيف سيطرت عليك الرغبة في أن يتأبط أحد ذراعك في الشارع؟«. ‏

وغادر »النجم« الشقة الضائعة بين الأزقة، وهو يتلفت يمنة ويسرة، وبعد إمعان التفكير قرر عدم العودة إليها ثانية. ‏

-5- ‏

وكذلك مثقفونا على امتداد الوطن العربي، إنهم نسخ مكررة عن »الرجل النجم«: في النهار، وتحت الأضواء الرسمية، هم متزوجون من »السلطة الشرعية« ويأكلون على موائدها، ويضربون بسيفها، ويسبحون بحمدها، حتى إذا خيم الظلام، غلسوا إلى شقة في زقاق خلقي، وأخذوا يبكون على كتف عشيقة شابة اسمها »القضية« ويعترفون أمامها أنهم »يرفضون« الزيف والنفاق، وأنهم لايشعرون بإنسانيتهم، وصدقهم، وبراءتهم، إلا إذا كانوا معها. ‏

وذات يوم أصاب »القضية« ما أصاب الفتاة اللدنة، وأخذت تطالبهم بأن يتأبطوا ذراعها علناً في الشوارع، ماداموا »متضايقين« من أضواء النهار الساطعة، ومتبرمين بالزيف المعلن. وإذ ذاك فضل معظمهم عدم العودة إلى الشارع الخلفي، بعد أن اختاروا » الشرعية والحماية والمكاسب« تاركين وراءهم القضية، مستوحشة، وحيدة، مقهورة. ‏

-6- ‏

استقطبت محافل باريس، طوال الأسبوع المنصرم، ثلاث ندوات »رسمية« حول موضوعات ساخنة: »حوار أم صدام بين الحضارات؟«، »حسنات وسيئات الحداثة«، »الاستفراد الحضاري وانعكاساته«، وقد شارك في هذه الندوات مثقفون عرب تتداول أجهزة الإعلام أقوالهم وتعليقاتهم على مدار الساعة. كانت مداخلاتهم أقرب ماتكون إلى قصائد مدح وغزل بحكامهم »الملهمين« الذين تأقلموا مع المستجدات، وكانوا على مستوى طموحات شعوبهم، وماكاد هؤلاء المثقفون يخرجون من قاعات المؤتمر أو الندوة، حتى استبد بهم الشوق إلى »الشابة- القضية« التي تختبئ في الأزقة الضائعة، وأخذوا يتفنون في إظهار الإخلاص لها، والتفاني في خدمتها. هل هذه الثنائية المشينة، هي الضريبة التي يتوجب على المثقفين العرب دفعها، مرغمين أو عن طيب خاطر؟ يبدو أن الشابة الوديعة قد بدأت تضيق ذرعاً بهم، وبلغتهم الخشبية، وقد تقرر المجاهرة بمأساتهما، والصراخ في الشوارع!.. ‏

د. غسان رفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...