رسّامو الشوارع..فنانون شتتتهم محافظة دمشق وأحذية الصالحية

23-11-2009

رسّامو الشوارع..فنانون شتتتهم محافظة دمشق وأحذية الصالحية

ربما انتبهت إليهم وأنت تحث الخطا في شوارع دمشق الجميلة، هناك وأنت عائد إلى بيتك البعيد أو ربما لمحتهم على رصيف موارب تحت أحد أعمدة الإنارة الكهربائية يتدفؤون بالضوء ما برحوا يرسمون وجهاً لامرأة معشوقة، أو صورة لطفل في سنيه الأولى، أو وجهاً لرجل مات في الحرب ولم يعد إلا في صور الأبيض والأسود.

هكذا هم يعملون بهدوء ودونما جلبة، يوزعون خطوط العمر على امتداد الشوارع المكتظة بباعة الأحذية الرياضية فيركضون.. ‏

تعلّموا الرسم وحدهم، يرسمونك بخمس دقائق مقابل كفاف عيشهم الحافي، فلماذا لا نقدم لهم الألوان والورق وهم من يحدقون لساعات طويلة في وجوه من يرسمونهم، يحفظون وجوههم عن ظهر قلب ثم يهدونهم إياها على ورق بسيط بأصابع من فحمٍ وأقلامِ رصاص يدلقون الألوان على صداراتهم البالية إمعاناً بالحياة.. 
 ‏ بدأت الحكاية عام 1995 عندما دشن محافظ دمشق السابق «محمد زهير التغلبي» حجر الأساس لعدة أكواخ من الحجر الدمشقي لتكون مراسم لفنانين جوالين في سوق الصالحية لأربعة من الرسامين، وبمشاركة نقابة الفنانين التشكيليين وبمناسبة اليوبيل الفضي لحركة تشرين التصحيحية، كانت المراسم في ذلك الوقت تشكل معلماً من معالم السوق اقترحها نقيب الفنانين «أيمن الدقر» بعد أن عدلت المحافظة عن فكرة استثمار هذه الأكواخ كمقاهٍ صغيرة، هكذا بدأت المدينة تأخذ مدنيتها شيئاً فشيئاً.. اعتادت فرق سياحية أجنبية على زيارة هذه المراسم التي جعلت المشهد أقرب إلى مكان يُحترم فيه الفنان ويعامل كغيره من أرباب المهن، فنانون يرسمون جنباً إلى جنب من محلات الألبسة والأحذية والصاغة، لاشيء كان مريباً، مصالحة وتسوية جيدة نجحت المحافظة بإبرامها بين الفن والتجارة، لكن ما الذي حدث بعد خمس سنوات من افتتاح هذه المراسم؟ ‏

يقول «مازن نعمة-رسام»:لم نفعل لهم شيئاً، لم نضايق أحداً بوجودنا، هذه المراسم كانت متنفساً حقيقياً وكنا على علاقة طيبة مع التجار وأصحاب المحلات، إلى أن بدأ البعض من أصحاب المحال التجارية برفع شكاوى منظمة إلى المحافظة بأن هذه المراسم تعرقل الطريق وتمنع الزبائن من الدخول إلى محلات الألبسة، وتحرج النساء من أن يتفرجن ويقسن ما يشترينه على راحتهن، ولتحاشي ذلك قامت المحافظة بوضع ما يشبه حاجز عبارة عن سرداب بطول عشرين متراً أمام المراسم قسم السوق إلى قسمين، إلا أن هذا الحل لم ينجح بل ضاعف الأزمة بين الرسامين والتجار، وأصبح على الزبون الآتي إلى السوق أن يذهب إلى نهاية الشارع ليلف ويتفرج ويشتري ما يريده» ‏

يبدو أن المحافظة لم تنتبه فعلاً لهذا التصرف الذي أثار الكثير من المضايقات للفضاء الذي تحتله المحلات، فلم يعد الأمر متوقفاً على بضعة أمتار تشغلها مراسم الفن، بل باحتلال يعلن طريقة تسوق جديدة فرضتها المراسم في السوق. ‏

عبد الهادي المحايري أيضاً أحد هؤلاء الرسامين الذين شردتهم المحافظة على الرصيف المقابل وعلى بعد أمتار قليلة يجلس إلى جانب عمودٍ من الإسمنت مستغرقاً في رسم وجه لطفلة صغيرة، ويحدثني محايري عندما أقترب منه وعينيه ما تزالان تصغيان إلى خطوط الفحم على الورق الأبيض «ارسم هنا منذ عشر سنوات، ولي زبائن كثر يترددون علي مُحضرين معهم صور أهلهم وأحبائهم، لكنني قبل ذلك كنت أرسم في مدن كثيرة، متنقلاً بين عمان ودبي والشارقة لسنوات طويلة، زادي هو أقلام الفحم والورق الأبيض، فأنا رسمت ما يقارب ألف وجه لنساء ورجال وأطفال«يعدل عبد الهادي من وضعية جلوسه ويقول»الآن لا يمكنني أن أتذكر كل الوجوه التي رسمتها، لكنني أستطيع أن أنسجم في كل مرة مع الوجه الجديد الذي أنقله إلى الورق، لا سيما أن وجوه الناس مختلفة ومتنوعة وغنية بحزنها وفرحها وهمومها، ما لا أستطيع أن أنساه هو وجوه الأطفال الضاحكة والمشرقة، والممتلئة بالسعادة، يعدل بعضاً من تفاصيل الوجه الذي يرسمه ويقول لي عندما أسأله عن مرسمه:»كنا نرسم بهدوء لا نزعج أحد ولا أحد يزعجنا، المراسم التي كانت هُدمت في يوم وليلة، ما يضايقني أنهم هدموها على اللوحات التي كنت قد رسمتها بماء العين، ولا أدري أيُ ذنب اقترفت هذه الأعمال، البعض اتهمنا بأننا نمارس الكبائر والفظائع في هذه الأكواخ، ومنهم من قال أن النساء يترددن على المراسم، يا أخي ما هذه التهمة الشنيعة، يتساءل المحايري: هل من المعقول أن نرسم الشخص دون أن نراه، وهل من المعقول أن يشكك بأخلاق الفنانين لمجرد أنهم يرسمون النساء، إنها موديلات، نماذج نشتغل عليها، ونحن كنا نرسم الأطفال والرجال أيضاً، لكنها يبدو أنها حجة للرد على وجودنا هنا بين واجهات ألبسة النسواني والولادي. ‏

يعود المحايري إلى رسمته، يقاطع الصدغين بالجبين والأنف، ويغمّق العينين، إنها رسمة لوجه طفل يجلس أمامه سعيداً ومتلهفاً لرؤية وجهه مرسوماً على الورق.لكن ألم يحتج أحد من الذين يرسمهم المحايري على صورته؟يجيب المحايري ضاحكاً: «حدث ذلك معي لمراتٍ عدة، لكنني في كل مرة كنت أقول للشخص الذي لا يريد أن يصدق أن ما رسمته هو وجهه، أنه أجمل من الطبيعة لكن الرسم أيضاً إبداع وخلق، أنا لا أصور الأشخاص بل أرسمهم، وهذا مختلف تماماً، في الرسم يضفي الفنان لمساته على الوجه الذي يقوم برسمه، أما الكاميرا تصور حرفية الملامح الإنسانية، وهذا ما لا أصبو إليه طبعاً. ‏

مع أنه تعلم الرسم وحده منذ الصغر لكنه أصر أن يتبع دورات لتعلم الرسم في معهد أدهم اسماعيل، ليتنقل بعدها بين مراسم عدة في مدينة دمشق، ويتتلمذ على أيدي فنانين كبار كنذير نبعة وزهير حضرموت وفاتح المدرس، يقول «نعمة» أحب الرسم ولا أجيد غيره لكسب قوت العيش، ومع أنني أعتبر الفن مهنتي إلا أن ذلك لا يمنعني من إهداء لوحاتي لأناس يمرون بي كل صباح ومساء، بعضهم لا يملك ثمن اللوحة وبعضهم الآخر أعرف أنه يدفع كل ما في جيبه لأرسم له صورة لحبيبته»، يمتلك «نعمة» كرسياً خشبياً خاصاً بالرسم مع حمالة خشبية للوحاته، تراه يحدق نحو وجه من يجلس أمامه ليرسمه في أقل من نصف ساعة، مصغياً إلى تفاصيل الوجه الذي ينقله طازجاً إلى ورقه الأبيض، فمع أن «مازن» بدأ حياته مُقلداً للوحات فنانين عالميين كرفائيل ومانييه وفان كوخ لكنه الآن يستطيع إبداع رسوماته الخاصة مقتبساً وجوه المارة في شوارع دمشق. ‏

أتوقف عن أسألتي عندما يغرق وجه «مازن نعمة» بالدموع يقول بصوتٍ مخنوق:»عام 2000توقف كل شيء هدمت المحافظة كل الأكواخ بعد أن سمعت ما سمعته من تجار السوق، ورغم أنها بنيت بقرار سياسي لم يمنع ذلك من إبادتنا أنا وزملائي «وضاح الدقر والمحايري» بقينا هكذا على الأرصفة، نرسم بصمت وبلا أي مأوى، لا أدري حقيقة من المستفيد من هذا، لكنني أؤكد أن التهم التي وجهت لنا كانت مرعبة، وتتعلق مباشرةً بشرفنا، هذه التهم التي حولتنا من فنانين إلى مروجي دعارة، تخيل لم أعد أستطيع أن أنظر في وجه أحد، لو أنهم اقتلعوا المراسم بحجة ضيق المكان، لكان الأمر سهلاً للغاية وعادياً، لكن هذه المراسم اقتلعت بتوجيه أقسى الاتهامات وأبشعها إلى الفن والفنانين. ‏ هدمت المحافظة الأكواخ بشكل مفاجئ ولم تكلف خاطرها بتوجيه ولو حتى إنذارات إلى أصحاب هذه الأكواخ، جاءت القصة كما يرويها «نعمة» بشكل صدمة بعد أن اتهمت المحافظة الفنانين بأنهم غير أخلاقيين، ويروّجون لتجارة النساء، يجهش «نعمة في البكاء ويتابع»أنا لست حزيناً على المراسم، بل حزيناً على سمعتي التي تلوثت، الشائعة التي أطلقتها المحافظة عليّ أنا وزملائي قسمت ظهري، الشائعة تقتل الفنان وتخمد طاقته على المتابعة، ولا أعرف حتى اليوم لماذا كل هذه القسوة بالتعامل مع الفن بهذه الطريقة، قالوا لنا أننا أحد فروع فنادق ساحة المرجة الرخيصة، تخيل ذلك..» ‏

أرصفة للأجرة أيضاً.. ‏

سوق الصالحية من الأسواق الرئيسة ولابد أن الكثير من المتنفعين كانوا وراء إزالة المراسم من السوق، يقول «المحايري» :»أصحاب بسطات الأحذية والملابس المهربة عملوا على التآمر مع أصحاب المحلات والشرطة على بيع كل متر مربع من السوق، ولاشك أن المساحة التي كانت المراسم تشغلها «حليت بعينن» فالأمتار في سوق الصالحية لا تصلح للفن بقدر ما تصلح لبائعي الأحذية والجرابات وعربات الذرة والبوشار وخلافه، لذلك تم الاتفاق وتقسيم المساحة الكاملة للسوق بين أصحاب المحلات وأصحاب البسطات بالاتفاق مع المتنفعين من ذلك في المحافظة، لم يمهلونا حتى نجمع لوحاتنا وألواننا، وفي ساعة واحدة كانت هذه المراسم ركاماً مثل سمعتنا التي قضت عليها المحافظة بلا دليل» ‏

«رياض السهلي 37 سنة» من الفنانين الذين فقدوا أماكنهم على أرصفة المدينة يجلس في إحدى ردهات سوق المهن اليدوية في دمشق لا يحب الرسم التشكيلي، ويتهكم دائماً من كلمة«تشكيلي» قائلاً «تشكيلي ببكيلك»، فالفن عند السهلي نوع من الرفاهية الخاصة التي تعكسها الألوان الزيتية التي يقوم بتطبيقها بنفسه. ‏

يعترف «السهلي» أنه لم يتعلم الفن التشكيلي، لكنه يواظب منذ ما يزيد على عشرين عاماً على عشر ساعات من العمل. ‏

يدعوني رياض إلى كأس الشاي وهو يحضر جبلته، يخلط الأزرق بالأصفر ويمزجهما ببعض الزيوت الخاصة وبدلاً من أن يأخذ رشفته الأولى من الشاي يصبّ قليلاً منه على مزيج ألوانه فأسأله متعمداً لماذا أضفت الشاي إلى الألوان؟ فيقول لي غير متفاجئ من سؤالي: إنه سر الصنعة الذي يسرع من جفاف اللون على سطح اللوحة ويزيد ذلك من بريق ألواني على الوجوه التي أرسمها، ويضيف: «هل يعرف التشكيليون هذه الطريقة، أنا اخترعت الرسم بالشاي وأجزم لك أنه ما من فنان تشكيلي وصل إلى هذا الاختراع»، يكمل السهلي رسم جرة الماء التي تحملها امرأة بدوية- هل تعرف تلك المرأة البدوية يا سيد رياض؟ يجيبني ضاحكاً: لا أبداً، لا أعرفها ولم يحدث قط أن رأيتها إنها من خيالي الخاص، لكنني أحب البدو وكنت أتوق لأن تسقيني إحدى تلك النساء البدويات من جرارهن المليئة بمياه الواحات البعيدة، هذه صورة لا تغيب عن مخيلتي ويمكنك أن تلاحظ ذلك في معظم ما ‏أرسمه. ‏

سامر محمد اسماعيل

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...