جائزة الأدب الفرنسي لكاتب أمريكي

07-11-2006

جائزة الأدب الفرنسي لكاتب أمريكي

إنه عام الفرنكوفونيين في جوائز فرنسا الأدبية لهذا العام. فبعد جوناثان ليتيل (الأميركي) الفائز بجائزة الأكاديمية الفرنسية وبعد نانسي هيوستن (الكندية) التي حازت جائزة فمينا يعود ليتيل ليفوز بجائزة غونكور نهار أمس، مثلما يكافأ الكاتب الكونغولي آلان مابانكو بجائزة رونودو. أربع من الجوائز الكبار ذهبت هذا العام إلى كتاب فرانكوفونيين، وهذا يؤكد الدور الكبير الذي يلعبه الأدب الفرنكوفوني في الثقافة الفرنسية الراهنة. هنا مقالة عن غونكور ورونودو بعد أن تناولنا الأسبوع الماضي جوائز ميدسيس وفمينا.
إنها من المرات القليلة التي لا يشكل فيها إعلان اسم الفائز بجائزة غونكور أي نوع من المفاجأة، لا للكُتّاب ولا لدور النشر ولا حتى للقراء، إذ كانوا انتخبوا الرواية الفائزة، منذ صدورها منذ أشهر قليلة، وإلا كيف نفسر هذه النسخ التي تجاوز عدد مبيعها أكثر من 250 ألف نسخة لغاية الآن، وهو رقم مرشح للارتفاع بعد الجائزتين اللتين حازتهما مؤخرا: جائزة الأكاديمية الفرنسية منذ أكثر من أسبوع تقريباً وجائزة غونكور، نهار أمس، وهذه الأخيرة هي أهم جائزة أدبية فرنسية على الإطلاق.
إذاً، اختيرت رواية المتسامحات للكاتب الأميركي جوناثان ليتيل (يكتب بالفرنسية) لتفوز بالجائزة الكبرى، (فاز ليتيل بدورة الاقتراع الأولى بنسبة سبعة أصوات مقابل ثلاثة لرواية مارسيل شنايدر مارلين، الجلسات الأخيرة، التي يتخيل فيها علاقة مارلين مونرو بطبيبها النفسي، في لحظات حياتها الأخيرة). وهي أيضا من المرّات القليلة التي تُكلل رواية أولى بالغونكور، آخرها كانت حقول الشرف لجان روو عام ,1992 لكن مع الضجة التي أثيرت حول المتسامحات كان من الصعب أن تمضي الرواية من دون أي جائزة هذا العام، إذ تحولت إلى ظاهرة حقيقية، إن من حيث حجمها (900 صفحة) وإن من حيث عدد النسخ المبيعة، وإن من حيث موضوعها، الذي يعود في زيارة إلى تاريخ قريب، ليتحدث عن ضابط في القوات الخاصة النازية خلال الحرب العالمية الثانية. كل الترشيحات والأنباء التي أعلنت منذ بداية أيلول الماضي، كانت تشدد على هذا العمل الكبير الذي جعل من كاتبه نجماً حقيقياً خلال عدة أسابيع. وإن كان هذا النجاح يدل على شيء فهو يدل كم أن الثقافة الفرنسية ومجتمعها لم يتخطيا بعد قصة الحرب العالمية الثانية، فالموضوع لا يزال حاضراً في صميم هذا الحراك الاجتماعي وبخاصة في كلّ ما يرتبط بعلاقة الفرنسيين بالنازيين. لكن تخصيص الحديث على هذا الجانب، قد يلحق الغبن بالرواية من حيث هي عمل أدبي حقيقي كبير، يشبه من حيث بنائه بنية روايات ستاندال وفلوبير. هنا أيضا، ثمة نقطة أخرى قد يكون توقف عندها أعضاء لجنة التحكيم مطولاً: ففي ظلّ ما يكتب اليوم من رواية فرنسية، تقترب كثيرا من تيار التخييل الذاتي أو من كتب السيرة والذاكرة، من دون أن ننسى التجريبية الكبيرة التي تعم الرواية الفرنسية المعاصرة، يأتي كاتب من أصل أميركي، ليعيد إحياء مناخات لم تعد موجودة إلا نادراً في الأدب الفرنسي المعاصر، بمعنى آخر يعيد التذكير بهذه الرواية الفرنسية التي خرجت العديد من الكتاب العظام في العالم. صحيح أنها رواية تعتبر كلاسيكية اليوم، لكن متانة هذا الكلاسيك لا يزال يفرض احترامه، حتى على الأجيال الروائية الشابة. يكفي أن نقرأ مثلا العديد ممن يكتبون من الشبان اليوم، إذ يشكل فلوبير أهم مراجعهم التي يتحدثون عنها.
من هنا وبعيداً عن حدثية الجائزة، تشكل رواية المتسامحات كتاباً مرشحاً لأن يجد مكانته في الرواية الفرنسية المعاصرة، للأسباب العديدة التي ذكرنا، وبخاصة من خلال هذه المناخات الاجتماعية التي تسردها وتصفها، لتشكل رؤية جديدة من أشكال العمل على الذاكرة الجماعية المرتبطة بتاريخ أسود من تاريخ أوروبا المعاصرة وحتى تاريخ العالم، لكن عبر أسلوب يقترب من روحية الكتابة الأميركية الجديدة التي عرفت كيف تتخلى عن الإنشاء الممل، لتذهب عميقاً إلى قلب الأشياء.
الكاتب
ولد جوناثان ليتيل عام 1967 في نيويورك، ويعيش حالياً في برشلونة. عمل لفترة طويلة مع المنظمة الإنسانية عمل ضد الجوع، وبخاصة في البوسنة والهرسك، كما في الشيشان وجمهورية الكونغو الديموقراطية وأفغانستان. هو ابن الصحافي (كاتب التحقيقات الكبير في النيوزويك) والكاتب الأميركي الشهير روبرت ليتيل، صاحب العديد من روايات الجاسوسية (التي تدور بخاصة خلال الحرب الباردة)، والاختصاصي بقضايا الشرق الأوسط. يحمل الجنسية الأميركية، لكنه يكتب بالفرنسية، إذ نشأ وحاز شهادة البكالوريا في فرنسا أما الشهادة الجامعية فمن يال. يشكل الأدب الفرنسي مرجعياته الكبرى وبخاصة أعمال المركيز دو ساد وفلوبير وجان جينيه وموريس بلانشو وجورج باتاي. يتمنى أن يحصل على الجنسية الفرنسية، التي لم يستطع الحصول عليها، بعد أن تقدم لها مرتين، لأسباب إدارية غامضة. بعد انتهاء الحرب في البلقان، ذهب إلى هناك ليرى عن كثب ما كانت عليه الحرب. بعد وصوله إلى سراييفو، أجرى اتصالات مع منظمة العمل ضد الجوع. عمل معها لسنين عدة، قبل أن يتفرغ عام 2001 للبدء بكتابة روايته هذه.
كان ليتيل قد أرسل مخطوط كتابه هذا إلى ثلاث دور فرنسية، لكنها رُفضت قبل أن توافق عليها منشورات غاليمار، وذلك بمساعدة الكاتب والفرنسي والناشر في الدار عينها، ريشار مييه، الذي قدم المخطوط إلى لجنة القراءة في الدار التي وجدت بالإجماع أنها أمام عمل مدهش، لم نكن نشك بجودة العمل على الإطلاق، لكن كان ثمة رهان في إصدار الكتاب مع بداية الموسم الأدبي. لم نكن نتخيل أبدا أن الكتاب سيحظى بهذا الاتساع.
المتسامحات
لكن ما هي هذه الرواية التي أثارت كل هذه الضجة؟ تروي المتسامحات، (والاسم مأخوذ من الميثولوجيا الإغريقية حيث نجد الإيرينيس أو الأومينيد، وهن هذه الآلهات المعذبات والمنتقمات القبيحات اللواتي يطلق عليهن، تورية وخشية، اسم المتسامحات)، عبر هذا الفريسك الكبير، الممتد بين أعوام 1941 ,1944 والموثق بمراجع كثيرة، سيرة الإدارة النازية القاتلة كما جنونها الحاذق، ليرسم مصير وقدر وحياة أحد سفاحيها، وذلك من أجل أن نفهم، أو على الأقل أن نستطيع، تأويل هذا المتعذر شرحه وقوله: إبادة البشر.
تدور أحداث الرواية في قلب الحرب العالمية الثانية، وعبر استعماله لضمير المتكلم، يتحدث ليتيل عن شخص فرنسي ألماني (ولد في منطقة الألزاس)، درس الحقوق، مثقف (يعشق كتب ليرمنتوف وستاندال وفلوبير)، مشوش من جراء علاقة حب محرم جمعته مع شقيقته (حيث استمرت الفانتسمات والتخيلات تؤرقه طيلة حياته)، مع انجرافه إلى علاقات جنسية مثلية، بين وقت وآخر. باختصار نحن أمام رجل، يملك أكاذيبه الصغيرة وخبثه وتحفظاته ويقيناً كبيراً. كان موظفاً نشيطاً ومقتنعاً بخدمة بلده بتفان كبير لا يمكن لأحد أن يستعيره أو يشتريه. هذا الرجل الذي كان يلقب بالعلامة، الذي كان يملك روحاً تحليلية قلّ نظيرها، وجد نفسه وقد فُوض من قبل إدارته ليقوم بمهمات في الخارج، الهدف منها: تحسين الغلال أو أيضا تحسين بنى خطوط السكك الحديد التحتية بين ألمانيا والبلدان التي تقع على حدودها. كان عليه أن يسافر بسرعة وإلى أبعد المناطق الممكنة. بدأب لا مثيل له، وضع كل طاقاته في العمل، ليقيم اجتماعات طويلة مع زملائه، ليعمل على الأرض، ولم يتردد في أن يبلل قميصه عرقاً. لقد عمل وكأنه خادم مثالي ومتحمس لهذه الإدارة. بيد أن ذلك كله لم يكف ليقبض على آلة هذه الشركة المزدهرة الذي انهمك في تشييدها: إذ وقع ضحية الغيرة والسباب والتحقير التي كانت تمزق، تدريجياً، مجتمع كبار الموظفين.
بعد نصف قرن من الزمن، نعود لنجد هير ماكسميليان أيو، وهذا هو اسمه، تحت اسم مستعار، ليصبح مدير شركة تنتج الدانتيلا. نعرف من خلال السياق أن بعض الأحداث أفشلت هذا الطموح الكبير الذي كانت تتمتع به إدارته. وعبر استعادته لذكرياته التي يرويها، تتضح أمامنا الحقيقة المخيفة التي كانت عليها حياته: إنها حياة ضابط في الأس. الأس. التي كان من مهاماتها تدمير أوروبا الشرقية، إبادة اليهود والغجر والبولنديين والبولشفيك عبر انتمائه إلى الاينزاتسغروبن أس. أس (الفرق المتحركة التي وبعد أن يدخل الجيش الألماني إلى منطقة ما، كانت تتحرك لقتل الشيوعيين واليهود في المناطق التي تُحتل). عندها نكتشف هذا الوحش غير الواعي، المسكون بالعقيدة، الذي لا يندم على شيء إلا حين كان يفشل في المهمة التي كانت توكل إليه...ما قمت به، فعلته بوعي كامل بالقضية، إذ كنت أعتقد أنه ينبع من واجبي وبأنه من الضروري أن أقوم به، على الرغم من أن عملي هذا كان كريهاً وبائساً، كما يقول في مقدمته لمذكراته.
يرسم لنا ليتيل عبر روايته الكبيرة هذه فريسكا ضخماً عن مصير إنسان ضمته آليات الرعب النازي الصناعية، يرسم لنا كيفية العمل المنظم للإبادة التي يصفها بدقة، من دون أن يغرق في الباتوس (الكلام المهيج والتفخيمي). نحن أمام ورشة أدبية طموحة، بالأحرى غير محدودة، تأتينا من داخل الشر ومن داخل تشعباته البشعة التي قتلت ملايين البشر. لذلك، نرى أن كتابة الرواية بصيغة المتكلم، ليس سوى صعوبة إضافية من صعوبات العمل، لأن ذلك لن يسامح أي هفوة قد يقع المؤلف فيها.
ساحرة هي الحوارات التي يكتبها ليتيل، وهي حوارات ترتكز على عملية توثيق كبيرة (محص خلال سنوات كل الأرشيف المكتوب، والسمعي والبصري، العائد للحرب وللإبادة، كما اطلع على بيانات المحاكمات والتنظيمات الإدارية والعسكرية، والدراسات التاريخية، كما قرأ أكثر من 200 كتاب عن ألمانيا النازية، وبخاصة عن الجبهة الشرقية، مثلما ذهب إلى خاركوف وكييف وبياتيغورسك وستالينغراد... متتبعاً آثار الاجتياح الدموي الذي قام به الفيرماخت حين اخترق الاتحاد السوفياتي، بدءا من حزيران 1941).
جائزة رونودو
من جهة أخرى، كان الجمهور، نهار أمس، على موعد أيضا مع إعلان جائزة رونودو، وهي التي تمنح بعد ثوان من صدور غونكور، وهي جائزة، اعتبرت نفسها، منذ إنشائها بالغونكور المضادة، أي تحاول أن تكافئ من لم تختره غونكور. على أي حال، كانت الجائزة من نصيب الكاتب الفرنسي الكونغولي ألان مابانكو عن روايته مذكرات شيهم (جنس حيوانات لبونة قاضمة) الصادرة عن منشورات لو سوي، وذلك خلال دورة الاقتراع العاشرة، بستة أصوات مقابل خمسة لميشال شنايدر عن روايته مارلين، الجلسات الأخيرة منشورات غراسيه، الذي يعتبر الخاسر الأبرز نهار أمس، بعدم حصوله على أي جائزة على الرغم من وصوله إلى دورة الاقتراع الأخيرة، وقد استفاد مابانكو، من صوت رئيس اللجنة، (إذ يعتبر صوته بصوتين).
وإذا كانت رواية ليتيل تعود إلى تاريخ الحرب العالمية الثانية، فإن مابانكو يعود إلى الحكاية الفلسفية، التي تجمع أفريقيا والثقافات الأخرى، أي بمعنى آخر تأتي الكتابة هنا وكأنها ترسم فعلاً ما تطمح إليه الفرنكوفونية الجديدة، بحيث كونها حوار حضارات، وهذا ما نجده حاضراً في أدب ألان مابانكو منذ البداية.
ولد مابانكو في بوانت نوار (الكونغو)، حيث كان يعمل والده موظف استقبال في أحد الفنادق. اكتشف الأدب وهو على مقاعد الثانوية حين بدأ بقراءة الشعراء الرومنسيين، ومن ثم روايات جويس وسيلين اللذين كانا يميلان إلى البحث على اللغة. بعد دراسته الحقوق في فرنسا، عمل في مصلحة المياه في ليون، وبدأ بنشر دواوينه الشعرية. أصدر روايته الأولى أزرق، أبيض، أحمر عام 1998 التي تروي سيرة شخص اجتماعي كونغولي، وفي عام ,2001 أصدر أفرقان بسيكو، التي عرفت نجاحاً كبيراً، وهي تروي سيرة قاتل مأجور من أفريقيا. عام ,2002 أصبح مابانكو أستاذ الأدب الفرنكوفوني في جامعة ميتشيغان الأميركية حيث يُدرس باللغتين الفرنسية والانكليزية، وقد انتقل منها بعد 3 سنوات ليدرس في جامعة كاليفورنيا لوس أنجلس الشهيرة (UCLA). عام ,2005 وصلت روايته قدح مكسور إلى التصفيات النهائية لجائزة رونودو، لكنه لم يفز بها، وكأن فوزه اليوم جاء بمثابة تعويض عما فاته.
تشكل رواية مذكرات شيهم، الجزء الثاني من المناخ الروائي الذي وجدناه مع روايته الماضية  قدح مكسور. وهو يعود مجدداً فيها ليزور بعمق عدداً من الأمكنة المؤسسة للأدب والثقافة الافريقييْن، بحب وفرح وسخرية.
يحاكي مابانكو في كتابه أسطورة شعبية تقول إن كل كائن بشري يملك قريناً حيوانياً، ليبدأ من هناك يقص علينا قصة جميلة عن حيوان الشيهم الذي يكلفه شخص من الكيباندي بأن ينفذ سلسلة من جرائم القتل. وقد كان الحيوان هذا مستعداً للدفاع عن سيده الكيباندي كي يرضي رغبته الدموية. نقف مع هذه الرواية أمام حكاية فلسفية يستدعي عبرها المؤلف الكثير من الحكم الأفريقية، المنفتحة على الثقافات الأخرى، وهذا ما يميز كتابات مابانكو منذ البداية. تقترب بنية الرواية من بنية روايته السابقة، عبر سرد متقطع يعتمد على السخرية والمحاكاة.
كثر هم النقاد الفرنسيون الذين اعتبروا أن رواية مابانكو هي واحدة من أفضل روايات هذه السنة، من هنا، منحها الجائزة، ليس سوى تكريس لنوع من الكتابة تجد امتدادات لها في العالم بأسره.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...