المسيح في النصوص الإسلامية

16-08-2006

المسيح في النصوص الإسلامية

أعكف منذ مدة وجيزة على انجاز كتاب حول السيد المسيح، يتناول بشكل خاص الأقوال والمواعظ التي جاءت على لسانه ونقلها لنا التراث الاسلامي. إذ من المفيد جداً أن يطّلع القارئ المسيحي، وحتى المسلم، على شخصية السيد المسيح (ع) والاحاطة بالنصوص المأثورة عنه في المتون والأصول الإسلامية.
وفي ظني ان هذه المحاولة لها اكثر من بعد معرفي وإطار أخلاقي ومنحى تاريخي... وهي في وسعها أن تخرق الكثير من الحواجز النفسية في امكان الاطلال على ثقافة الآخر وعقائده، والقدرة على التواصل معه تفكرا ودراسة، وصولا الى الانفتاح على الذات الدينية والفكرية لهذا الآخر بكل تفاصيلها ومستوياتها.
فأن تعرف السيد المسيح (ع) من خلال الفكر الديني المسيحي هو أمر طبيعي ومنطقي، ولكن ان تكتشفه عبر دين آخر هو الاسلام لهو موقف معرفي ايجابي، وسمة ثقافية حضارية تجعل علاقة الانسان بالآخر أكثر غنى مضموناً ووجوداً.
والسؤال هنا هو في كيفية ان نجعل الفرد يتمدد خارج إطار عقائده التي تربى ونشأ عليها. وهذا لا يعني ان يتنكر لها، بل ان يزداد غنى، وهو في سعيه لدخول بيئات دينية جديدة، وفضاءات ثقافية جديدة.
ويتفرع عن هذا السؤال طرح يتعلق بايمان المرء بـ"القدوة" اعتقادا وعملا حتى وإن لم يكن ضمن لائحة الأسماء المتداولة في دينه. فمحمد(ص) ليس للمحمديين فقط، والمسيح ليس للمسيحيين فقط. وإنما هما قدوة للبشرية جمعاء، ولا يجوز ان نضع كل واحد منهما في دوائر مغلقة لا يرتادها الا من اندرج تحت خانة الايمان بهذا الشخص ودينه حصرا، ونمنع عن الآخرين أن يتاح لهم فرصة الخروج عن مجموعة من القوالب والالتزامات الموروثة. فالايمان الحي بالله يحرر الارادة من الانزواء في إطار عقائدي أو فكري او ثقافي بل يفتح الطريق أمام الانسان ليبحث عن مواقع الخير والجمال في اي حيز او مكان، ويضيء له المنهج الذي من خلاله يستطيع ان يهتدي بالقدوة من الصالحين والربّانيين الذين أفنوا أرواحهم في حب الله وخدمة الناس.
وفي العودة الى اقوال المسيح (ع) الواردة في المتون الاسلامية، فإننا نرى انها تشتمل على مطالب اخلاقية نفيسة ترشد الانسان على طرق طي المسافات في عالم الطبيعة والدخول الى منازل الآخرة. وكيف ان الشهوات والأهواء موانع في تخطي الانسان المراحل المعنوية وبلوغ أعلى المراتب الكمالية. ووصاياه (ع) هي عبارة عن مبادئ وقواعد أساسية تحث الانسان على اتباعها حتى تنكشف له حقيقة نفسه فينطلق بعدها الى المقصد الاعلى وهو لقاء الله.
ومن جملة المأثورات عنه (ع) يقول:
"طوبى للمصلحين بين الناس اولئك هم المقربون يوم القيامة"، "طوبى للمترحمين اولئك هم المرحومون يوم القيامة"، "طوبى للمطهرة قلوبهم أولئك يزورون الله يوم القيامة"، طوبى للمتواضعين في الدنيا اولئك يرثون منابر الملك يوم القيامة".
فكأن السيد المسيح (ع) في هذه الكلمات يحدد معايير السلوك في الدنيا (الاصلاح، التراحم، التواضع، تظهير القلب) ويشير تالياً الى المنازل في الآخرة.
ونرى أيضاً ان السيد المسيح (ع) يعمد بشكل مباشر الى ربط الدنيا بالآخرة، وعمل الانسان بالنتائج المنتظرة يوم القيامة. وان كلماته (ع) تثير في الانسان حالة من التحدي والتحفز في الدنيا لبلوغ مراتب الآخرة السعيدة، مع ما تتضمنه من روح نقية، واسلوب رقيق في ايصال الفكرة الى الناس.
وفي نص آخر له، يقول السيد المسيح (ع): يا بني اسرائيل الا تستحيون من الله؟ ان أحدكم لا يسوغ له شرابه حتى يصفيه من القذى، ولا يبالي ان يبلغ أمثال الغيلة. ألم تسمعوا أنه قيل لكم في التوراة صلوا أرحامكم، وكافوا أرحامكم؟ وأنا أقول لكم: صلوا من قطعكم واعطوا من منحكم، واحسنوا الى من أساء اليكم وسلموا على من سبكم، وانصفوا من خاصمكم واعفوا عمن ظلمكم، كما أنكم تحبون أن يعفى عن اساءتكم فاعتبروا بعفو الله عنكم، الا ترون أن شمسه أشرقت على الأبرار والفجار منكم، وأن مطره ينزل على الصالحين والخاطئين منكم فان كنتم لا تحبون إلا من أحبكم ولا تحسنون إلا الى من أحسن إليكم ولا تكافئون إلّا من اعطاكم فما فضلكم اذا على غيركم؟ قد يصنع هذا السفهاء الذين ليست عندهم فضول ولا لهم احلام، ولكن ان اردتم ان تكونوا أحباء الله وأصفياء الله فأحسنوا الى من أساء اليكم واعفوا عمن ظلمكم وسلموا على من اعرض عنكم...
أقول: ان هذه الوصية هي من أروع وصايا السيد المسيح (ع) لأنها تشتمل على منظومة أخلاقية – اجتماعية تحول السلوك، وتؤثر في المشاعر، وتنفض الركام عن الفطرة، وتزيل التلبد في النفوس، وتستنبت البذرة الطيبة في أعماق الانسان. فالخطوط الاخلاقية التي رسمها السيد المسيح (ع) تهدف الى التسامي والتضحية والإيثار والتفضل والعطاء والترفع عن الصغائر والتسامح والمحبة والعفو والعدل والاحسان وهي كلها ادوية لأمراض الانسان اذا ما أراد ان يعيش السلام والأمن والسعادة. وهي دعوة مفتوحة منه الى ممارسة اخلاقية شاملة، والى التخلي عن الانانية وحب الذات وحب الدنيا التي هي رأس كل خطيئة يقع فيها الانسان لأن دوافعه الذاتية تدفعه بعيداً في منهجه لارتكاب الكبائر الموبقات، وحينها يدخل في ظلمات المعصية، والغفلة المظملة، والحيرة والقلق النفسي والاضطراب الفكري حتى تنسد عليه الأنوار الإلهية، فيمشي في هذه الحياة مكباً على وجهه، هائماً كالدواب قد حجب عنه كل نور وعلم وخير جزاء له على سوء اختياره وقبح فعاله.
ان مثل هذه الكلمات التي أوردنا بعضها، تجيء لتكون مصادر في مسلكية الانسان، مجسدة أرقى صور للانطلاق والتحرر من الآثام والرذائل. فالمنهج الذي يدعو له السيد المسيح (ع) هو المنهج الذي يلائم الفطرة ويعينها على التفلت من قيود الشهوات، والارتداد الى أسفل سافلين. وفي جهة اخرى ان قراءة هذه النصوص ونشرها بين الناس، مسيحيين كانوا او مسلمين، ادراك لطبيعة الدين ومنهجه لقيادة البشرية الى بر الأمان والايمان لله.
ففي حين ينغلق البعض على نفسه فلا يرى طريقاً لله الا عبر اطار واحد، نجد في المأثور الاسلامي أن الطرق الى الله بعدد أنفاس الخلائق. وان أصالة الاخلاق واحدة في التعاليم والرسالات النبوية وان من يفرق بينها انما يقع في وهم ناشىء من عدم ادراكه وفهمه لطبيعة الاديان. وأن على المخلصين أن يعيدوا تقديم وصايا الأنبياء والأولياء والصالحين والحكماء في اطار اصالة الاخلاق والقيام التي تمثل قوة بناء، وحركة دفع وانطلاق نحو معرفة الذات ومعرفة الله سبحانه وتعالى.
من اجل هذا كله احاول ان استعيد كلمات السيد المسيح (ع)، وأعمل على تخريج النصوص من المصادر والمتون الاسلامية لتكون في متناول الجميع حتى نقرأ بروح منفتحة، ونعمل بايمان صادق، ويقين عميق ما يتطلع اليه الله من الانسان في وجوده على هذه الأرض.

عفيف النابلسي

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...