الدين والحداثة في العالم العربي

07-03-2007

الدين والحداثة في العالم العربي

لم تقم الحضارة الغربية، على نحو ما هو مشاع، على مجرد الفصل «الساكن» بين الدين والدولة، ولم يبدأ عصر الأنوار في أوروبا بفضل إنهاء ازدواجية السلطة بين الكنيسة والإمبراطور، وذلك على غرار ما يقع فيه كثير من المهتمين بدراسة التطور التاريخي للفكر الحداثي الأوروبي. بل على العكس من ذلك، فقد لعب الدين دوراً عظيماً في نشأة وتطور هذا الفكر، وأكسبه قدراً من الأخلاقية «المعيارية»، وارتقى بمنظومة القيم الثقافية في المجتمع الأوروبي.

وقد يبدو صحيحاً أن هذا الدور قد نما مع إلغاء الدور «السياسي» للكنيسة، كسلطة كهنوتية تفرض قواعدها جبراً على المجتمع، وتقليص دورها في مجرد الاضطلاع بمهمات الشأن الأخروي – الخلاصي، إلا أن ذلك لم يعن، بحال، «سحب» الدين خارج النطاق المجتمعي، وعزله بوصفه فولكلوراً شعبياً. ولم يكن غريباً أن يحتفي الفيلسوف الألماني ماكس فيبر (1864 – 1920) بدور الدين في تأسيس الفكر الرأسمالي الغربي، وذلك حين وضع كتابه الشهير «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» في طبعته الثانية 1920 بعد أن نقح وأضاف ردود الأفعال على الطبعة الأولى التي صدرت آخر عام 1904.  
 وكان مثيراً للكثيرين من معاصريه أن ينحاز فيلسوف مثل فيبر، من أشهر فلاسفة التنوير والعقلانية في أوروبا، لدور الدين في دعم مسيرة الحداثة والتنوير الأوروبية. وأن يبذل في سبيل ذلك جهداً مضنياً لإثبات درجة العقلانية التي يمنحها الدين للفكر الاقتصادي ومدى تأثيره على النشاط التجاري «الرأسمالي» في المجتمعات الغربية.

وتتأسس العلاقة بين الدين والحداثة، بحسب فيبر، من خلال قدرة الدين على عقلنة السلوك الفردي، وذلك على عكس المنطق السائد بتأكيد التعارض بين النشاط الاقتصادي والممارسة الدينية والأخلاقية، وذلك على اعتبار أن علم الاقتصاد الحديث هو عالم عقلاني وموضوعي، في حين أن الدين يقوم على استحواذ البعد الأخلاقي على ممارسات الفرد وليس هناك مجال للحسابات الموضوعية الرشيدة بحسب أنصار هذا الرأي.

قدرة فيبر علي إثبات العلاقة «السحرية» بين الدين والحداثة، تتأسس على منهجية علمية – موضوعية، استندت إلى تحليل العلاقة الإمبريقية بين المعرفة والأخلاق، حيث يرى أن «عملية سلب العقلانية من الدين هي نتيجة للعقلنة العلمية للعالم» (سوسيولوجيا الدين، ص 448).

من جهة أخرى يري فيبر أن في مواجهة هيمنة العقل، يصبح الدين بمثابة خط الدفاع الأول عن الحداثة والتنوير، «إن ما يقدمه العقل لن يكون أقصى معرفة فكرية تتعلق بالمجال القياسي المعياري، إنما هو عبارة عن اتخاذ موقف نهائي من العالم، حيث الإمساك الفوري بمغزى هذا العالم. في حين يكشف الدين عن المعنى الحقيقي للعالم عبر إضفاء الصفة الداخلية على وضعه الاجتماعي والمعرفي، ليس بوسائل الفهم والإدراك وإنما بإظهاره وإعلانه عن «كاريزمية التنوير» (سوسيولوجيا الدين، ص 450).

بيد أن الأمر ليس بهذه السهولة، ذلك أن قدرة الأفراد على الوصول إلى هذا المعنى البعيد للدين ليست متساوية، وهو ما جعل فيبر يميز بين شكلين من أشكال الدين، أو بالأحرى الفهم الفردي للدين، فهناك الدين الفولكلوري «التدين» وهو الذي يسود لدى معظم الفئات الأكثر شعبية أو البروليتاريا غير المستقرة اقتصادياً، والتي تواجه صعوبة في إدراك المعرفة «العقلانية»، في حين أن هناك الدين العقلاني أو الأخلاقي الذي يعطي العلم والمعرفة معانيهما «الوظيفية». وقد بات هذا النوع الأخير من الإدراك الديني بمثابة مقدمة «أولى» كبيرة ستفضي لاحقاً إلى نتائج تمد الحداثة بالعديد من الأفكار والمفاهيم الوظيفية.

وبذلك يكون فيبر قد وصل بالمفهوم الديني إلى درجة «العقلنة» التي لعبت دوراً مؤثراً في ظهور الحداثة، ونحت طريقها في العقل الغربي، وذلك عبر عقلنة سلوكه ونشاطه الفكري.

بل إن بزوغ العديد من الظواهر الثقافية في الغرب كالقانون والاقتصاد والفن والعلوم والتصميم المعماري، والدولة، يؤكد فيبر، ارتبط بهذه العقلنة، ونشأ على ما أنتجته من قيم وأنماط للتفكير شكلت الحاضنة الرئيسية لمفاهيم الحداثة.

ولا تعني العقلنة، بحسب فيبر، أننا نعرف بشكل أفضل ظروف حياتنا، بل على العكس «فالإنسان البدائي يعرف أكثر عن ظروف حياته أفضل مما يعرف الإنسان الحديث عن ظروف حياته» وذلك على حد تعبير فيبر، وإنما أن توكل جميع الأمور للفنيين والخبراء في مختلف المجالات، بما يؤول في النهاية إلى تحسين قدرة المجتمع على اتخاذ قراراته بشكل رشيد يدفع نحو التقدم والتحديث.

أي أن الدين في هذه الحال أقرب إلى منظومة القيم التي تشتق من الوعي العميق بقدرة الدين على القيام بدور الضابط لمختلف الأنشطة المجتمعية، وأن يضفي عليها قدراً من الأخلاقية «العقلانية».

اعتراف فيبر بالدور الذي لعبه الدين في دعم الحداثة الأوروبية، يمثل تحدياً كبيراً لقدرة العقل النهضوي العربي على إعادة طرح العلاقة بين الدين والدولة من منظور عقلاني «محض»، ومدى استعداده لصوغ مقدمات نظرية تعيد تحديد دور الدين بوصفه رافعة «منهجية» في إنجاز المشروع الحداثي العربي.

بكلمات أخرى، من شأن المنظور «الفيبري» لتحليل لعلاقة بين الدين والحداثة، أن يدفع باتجاه إيجاد منهجية علمية إسلامية تعيد صوغ المعنى «العقلاني» للدين الإسلامي، الذي هو بطبيعته دين عقلي لا مجال فيه لإجبار أو إكراه أو كهنوت.

ولعل أبرز ما في منهج «فيبر» أنه يسقط الكثير من المقولات والأفكار التي استغرقت بعضاً من تيارات الفكر التنويري العربي، ودفعتها لاعتناق مبدأ الفصل «الساكن» بين الدين والدولة، باعتباره شرطاً «لازماً» للخروج من حال التخلف الحضاري التي يعيشها العالم العربي منذ أكثر من خمسة قرون. وقد راهن كثيرون من أنصار الفكر الحداثي العربي على حتمية الخروج من هذه الثنائية من أجل إنجاز مشروع النهضة العربية، فكان أن شغلوا عنه بالتفكير في جدليات العلاقة بين الدين والدولة.

بيد أن السؤال المهم هو: هل العقلنة سابقة على الفهم الديني، أم العكس؟ بصيغة أخرى، هل الدين هو الطريق نحو العقلنة، بحسب ما يرى ماكس فيبر، أم أن هذه الأخيرة هي السبب في ارتقاء الفهم المجتمعي للدين؟

هنا تختلف طريقة المعالجة بين الفكرين الغربي والإسلامي. فالأول، وبحسب ما تجسده رؤية فيبر، يرى أن درجة الاستعداد المجتمعي لفهم الدين تعد عنصراً حاسماً في إنجاز الحداثة، ما يعني ضرورة التعويل على الدور المؤثر الذي يلعبه مستوى الثقافة والنضج العلمي كمحدد للارتقاء بفهم الدين كسياج عقلاني يحض على إعطاء العالم المادي مغزى وجوده. أما في الحال الثانية، فإن الدين يعد المصدر الأصيل للتفكير العقلاني، أي أنه معطى جاهز يمكن بناء مقدماته النظرية بسهولة ويسر على عكس الجهد المضني الذي قامت به تيارات الفكر الحداثي الغربي لإثبات أحجية الدين في أطروحة التحديث.

فالخبرة الإسلامية لم تعرف أياً من أشكال الصراع الضاري بين الكنيسة والدولة التي أنهكت أوروبا قرابة ثلاثة قرون، ولم يقع فلاسفة الإسلام الأوائل كالرازي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون في مشاريعهم التنويرية – العقلانية، في فخ الفصل (أو التوفيق) بين الدين والدولة، ولم يكن لهذه المعادلة وجود من الأصل، وإنما انطلقوا في مشاريعهم الفكرية من عقلانية القرآن، وأحجيته الفكرية العالية التي تمثل تحدياً كبيراً يدفع العقل بحتمية التفكير العلمي والمنهجي.

وبناء على ما سبق، فإن قدرة الدين الإسلامي على لعب دور مؤثر في مسألة الحداثة العربية، تظل رهناً بالقدرة على تطوير الأساس العلمي والثقافي الذي يحكم أنساق التفكير في العالم العربي. كما أنه ليس فرضاً أن يتم اقتفاء أثر الحداثة الأوروبية كنموذج «استنساخي» يتم زرعه في التربة العربية، بقدر ما يتحتم علينا إنتاج نموذج حداثي «عربي» خالص لا يربطه بنظيره الغربي سوى منهاجية التفكير، دون محتواه القيمي.

خليل العناني

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...