الحمام: قصة لفلاديمير سالاوخين

25-02-2007

الحمام: قصة لفلاديمير سالاوخين

خلف المنزل، كان ثمة برج مهمل للحمام تغطيه صفائح من التنك تثير الرغبة الشديدة في صبغها بلون واحد. على باب البرج قفلان معلقان كأنهما ملتصقان. سطحه عبارة عن شبكة معدنية تشبه سلة كبيرة مقلوبة على عقبها. البرج كان لروديك، وفي الاصح لشقيقه فيكتور الذي استدعي الى الخدمة الالزامية في الربيع. وكما يقال فان اخاه ورث البرج عنه. صحيح ان عدد الحمام غدا قليلا بعدما باع فيكتور بعضها، قبل ذهابه الى الجيش، لكنه ظل محتفظاً بسرب منها.
آنذاك قال فيكتور لروديك: اعتن بها. بعد عودتي سنكثّرها من جديد. اما الآن فكشّ هذه، لكن حذار ان تنقص.
راح يتملّى الطائر وهو ممسك به كأنه يراه للمرة الاولى. وكما تهيأ لروديك آنذاك، ترقرقت مآقي شقيقه مما دعاه الى ان يشيح وجهه. في ذلك المساء جلسا في المطبخ طويلا وحدّثه فيكتور عن الحمام الزاجل اثناء الحرب، ينقل البريد والانباء طائرا عشرات بل مئات الكيلومترات احيانا. ومع ان روديك كان يعلم ذلك الا انه اصغى الى شقيقه ولم يقاطعه بل قال ناصحا حين اتمّ الحديث.
- خذ "الذكي" معك. ستطلقه من مكان ما فيطير اليَّ برسالة منك.
بيد ان فيكتور ابتسم فحسب.
كأن الحمائم تلعب مع السحب فتندفع محلقةً لترتطم بجزر من أديم ازرق. تنقاد بعصا سحرية فتهوي الى الاسفل من جديد كما لو انها تبغي الانعتاق من طوق السحب، وتغدو هناك حيث لا تنوجد هذه الاشكال السابحة والغريبة. كان روديك رافعا رأسه يلاحقها بنظراته، وكانت الشلة المرحة والغيورة تحيط به، وفتيان اكبر منه كانوا يأتون الى الخلاء على الدوام عندما كان يكش الحمام. قال لهم ذات مرة انها استخدمت اثناء الحرب العالمية الثانية كحمام زاجل، ثم ردد كلمات شقيقه.
- والآن؟
نظر شزرا الى الفتى الاخصل وسأله:
- ماذا الآن؟
- هل الحمام ينقل الانباء الآن؟
ردّ احدٌ ما.
- يا سلام. يوجد الآن لاسلكي بدلا منها. موجات الجهاز الجوال تطير الآن بدلا منها.
قال ميشكا مخاطباً روديك:
- تعال معي ترَ بنفسك ان حمائمك لا تساوي شيئا حيال ما سأطلعك عليه.
- علامَ ستطلعني؟
- سترى. تعال.
في المنزل اقترب ميشكا من منضدة عليها كومة من الاشرطة والكاويات والملاقط والمفكات، ووسط هذا كله علبة معدنية كبيرة ملأى بالمفاتيح. كبس ميشكا المفتاح فاشتعلت لمبة صغيرة خضراء ورجفت سهام التأشير. بعد ذلك تناول ميشكا السمّاعات من على الطاولة وأصاخ، ثم ثبّتها على اذني روديك الذي سمع: تو، تو، تا، تا، تو. وفجأة، انقطعت الاشارات.
- لماذا سكتت؟
قال ميشكا:
- انا اطفأت الجهاز. ثم اردف بعد صمت:
- أتعرف من تحدّث معنا؟
- لا احد.
- هل سمعت الاشارات؟
- سمعتها.
انه عامل الاتصالات في احدى المحطات القطبية البعيدة، ومع ذلك انت تتحدث عن الحمام. مسح المشرف على البناء قدميه بالممسحة ثم دخل الشقة، وبعدما انعم النظر الى روديك اعلمه بأنهم سيكسرون برج الحمام يوم الاثنين.
قال الكسندروفيتش:
- سيباشرون البناء هناك، لذا انقل طيورك يا فتى، وإلاّ سوّاها البلدوزر بالتراب.
انتشر بسرعة خبر هدم البرج في الحقلة. بعضهم تأسف وابدى البعض الآخر الاسى، لكن ثمة من سرّ بذلك. اجل، مع الاسف، هناك اوقات ينتصر الحسد فيها.
في المساء جاءه زبون. فتى يقطن في بناء خشبي كان روديك يعلم ان لديه حمائم ايضا. كم كانت دهشة الفتى كبيرة حين لم يساومه روديك، انما وافق على الثمن المعروض عليه بعدما تركه يتفحصها.
قال الفتى:
- سآخذها يوم السبت صباحا. والشبكة، هل تبيعها؟
- نعم، قال روديك.
في صباح السبت وقف روديك عند النافذة طويلا ونظر الى الفناء حيث الفتى. بعد ذلك استلقى على الاريكة واغمض عينيه لكنه لم يستطع ان يغفو. كانت الحمائم تطرد السبات من عينيه.
مع ذلك لاقاه الفتى في الغد.
- لماذا لم تخرج البارحة؟
معي نقود، قال الفتى، ولتأكيد كلامه اخرج من جيبه روبلات ورقية مدعوكة.
- كلا، لا استطيع الآن، ربما غدا.ً
- حسناً، غدا. قال الفتى.
كان الطقس في الغد رائعا. لم يبق اثر للسحب التي تجمعت في الامس وراحت اشعة الشمس تنير جزر الاديم الازرق.
خرج روديك من المنزل قاصدا البرج. فتح بابه واندسّ في شقّه الضيّق حاملا الحمائم الى الخارج ليطلقها. في الفناء راحوا يروون انهم شاهدوا الحمائم تحوم الفناء بيد ان البرج المهمل، والمغطّى بالتنك كان اختفى.
لقد هشّمه البولدوز.

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...