أمجد ناصر في «حياة كسرد متقطع»

07-12-2006

أمجد ناصر في «حياة كسرد متقطع»

يبحث أمجد ناصر عن الشعر في نثر الحياة اليومية، هي التي احتقرها الموقف الفني النخبوي ورآها مبتذلة. مادة الشعر وشكله هما نفسهما مادة النثر وشكله في «حياة كسرد متقطع» الذي يبقى تجربة وحيدة منذ صدوره عن دار رياض الريس منذ عامين. يخالف الشاعر الاردني الذاكرة الجمعية العربية التي صدّرت الوزن والموسيقى البنيوية، وجعلت القارئ تابعاً لا مستكشفاً أو باحثاً. تبرز الاستعادة المبجلة لماضٍ بات غنائياً على رغم أوجاعه وخيباته وحضور العنف فيه، هذه الاستعادة التي تحيل النساء الى حيز ضبابي يقع بين الخرافة والقداسة. في «عد عكسي» يروي تخلي الوالدة المريضة عن مفتاح صندوق هو مجاز التحكم بالحياة، واتجاهها الى الرحيل «شاكة في اننا سنلتقي في مكان آخر». في «استعداد للطيران» تتفلت الجدة من ذاكرتها «بالتخفف من الوجوه والاصوات والتفاصيل (التي هي الجاذبية الارضية ولا شيء غيرها) استعداداً للاقلاع» (الصفحة 47). الشقيقات يرعين الارث ويرمزن الى الاستمرار والثبات والارض، والاشقاء يهربون من رصاصة الأب ويجعلون الترحال والوجود الهيولي علامة حياتهم.

يختلط الشعر بصورته التقليدية الموزعة اسطراً والنثر المتصل في «حياة كسرد متقطع» الذي اختبر فيه أمجد ناصر بناء جديداً لسأمه من البنية المتكررة منذ الستينات. تململ الفنان يمحي الحدود بين الشعر والنثر التي عبرها كثيرون في بحثهم عن صوت مختلف لكنهم لم يبلغوا الموقف النهائي الذي تبناه ناصر ودفعه الى كتابة قصة قصيرة أحياناً. «حديث عادي عن السرطان» و «منازل القمر في لندن» و «جيرة» و «مراقبو الطائرات في هاتون كروس» و «ماذا في القبلة» مثلاً تتفق مع القصة القصيرة شكلاً ومضموناً، لكن النثر المتصل يتحول شعراً اذا قطّع ووزع أحياناً: أهو تواطؤ نصف الرغبة، نصف السكر سرعان ما يتبدد اذ تنزلق اليد لتفتح «سحاب» البنطلون بعدما فكت عرى القميص ونفر نهدان فتيّان لا يعترفان بأنصاف الحلول؟ كم تتحمل القصيدة القصصية من التشابه مع القصة وتبقى شعراً؟ على الفنان ان يتساءل ويتململ ويسلك طرقاً جديدة في بحثه الدؤوب عن التجاوز والشباب، وهذا ما يفعله الشاعر في المقلب الآخر.

يلتمس أمجد ناصر الشعر في الحياة اليومية الرتيبة، ويلتقط لمعاته السريعة نابذاً من ينفعلون باللغة ولا يفتشون عن روحها. هل نتبع الموسيقى الشكلية دليلاً وحيداً الى الشاعرية، أو نبحث بأنفسنا عن شعر يجد صداه في ايقاع داخلي يحركه رصيدنا من الخبرة الحياتية واليومية؟ نعيت الرواية التي تصور وتستبطن الحياة «العادية» منذ اكثر من نصف قرن، لكنها تزدهر بإطراد وتتقدم على «الشعر النبيل السامي الجميل» الذي يأخذ مركزه لدى النخبويين من انفصاله. هاجس ناصر هو الاختبار الذي يجب ان يقلق الفنان سواء تمسك بالشكل الجديد أم لا. «حياة كسرد متقطع» عن الحياة وما خلفها وقلبها الخفي، ولئن تخلى عن كثافة الصورة غالباً، فلكي يشحن الصورة الوجودية المشوشة، الرهيفة، العالقة بين حضور وغياب. تبرز ثنائية الأنا/ أنا زماناً ومكاناً في ضبابية حلمية سوريالية تجعل الشاعر «يسبح في هيولى خضراء ويعيش هنا والآن و «في زمن آخر في حياة أخرى». ثمة مطاردة لغوية جميلة في «نجوم لندن» التي يتدحرج فيها النص ويتصاعد في نفس محموم (الصفحة 21). «نفساً وراء نفس تدفعني الايام قدماً، لكن عيني ظلتا ورائي تبحثان عن علامة...». يتأرجح بين الشك واليقين بين انكلترا والاردن والمغرب، يعيش «بقناع شخص وهمي» ويعد «نجوماً» هجرت مواقعها «ولا يعرف اذا كان ما حدث حدث له أو سمعه من عابر. نجد التشوش الوجودي والسوريالي ومراوحة النص والمشهد في «فتاة في مقهى كوستا» التي شابهت الصبية فيها «فتاة القصيدة (...) القصيدة التي فكرت بقصيدة أخرى وكتبتها».

في «الشخص الآخر» و «طريقة اردنية» تملص فرويدي وتلصص مخزٍ على النساء يتداخلان ويجردهن معهما الناظر من ملابسهن سواء كان فتى أو في وسط العمر، في الاردن أو المغرب أو انكلترا.

يحق للشاعر امتلاك المرأة بعينيه، فهي في خياله اجمل منها في الواقع، لكن عينيه لا تنظران لتعشقا بل لتتدرجا «من الفضول الى الاخذ». لا حب في «حياة كسرد متقطع» الا للأم التي يرغب الشاعر في دفنه قربها، أما النساء فموضوع الرغبة وحسب في ثنائية قاطعة تخالف اعمال شعراء آخرين يسكبون معظم قصائدهم على الحبيبة. حتى الفضاء الصوفي بندائه الحلمي الغامض في القصائد عن ابن عربي لا تموه الدعوة الصريحة للفتاة الفارسية التي ظهرت في ضريحه مع امرأة تكبرها سناً «كصبا وكبر شخص واحد جنباً الى جنب». يواكب السحر الدين ويورث اثره في «الخاتم القيرواني» ثم يتبدد السحر فجأة مع اصلاح شرخ الخاتم. تكتسب نيويورك، مجاز القوة العدائية الكبرى، شخصانية يعجز معها الشاعر عن هجائها بعد الهجمات على مركز التجارة العالمي فيها. والمشهد البريطاني بديموغرافيته المتعددة حاضر في أكثر من قصيدة على أن الغرباء القاتمي البشرة يختزلونه الى نحن وهم لدى «مسز مورس» التي ترفض هوية الشاعر الاسمر العربية وتجمعه بالهنود.

يهجس «حياة كسرد متقطع» بماض لم يمض والتباس الواقع والحلم والترحل والخسارة. يرثي العمر وخسارة الاحباء والاصدقاء ويبحث وسط الانتظار عن وحدة ما. يتذكر في «السبعة جسور» كيف «كنا نرمي فلساً فيصدأ قبل أن يصل الى الارض» والغروب الذي «يزحف كنسيان على برندة بيتنا». يقصد المطار لا ليسافر بل لكي يرتمي في مجال الاحتمالات بين البقاء والرحيل في انتظار حدوث شيء، وقد يحلم بأن تصبح «الارض واحدة بأناس يتأرجحون جهة الليل وجهة النهار».

ناصر بدأ شاعر تفعيلة، وبرهن عن القدرة اللغوية التقليدية المطلوبة لنجاته من تهمة التجديد بفعل العجز عنها. لغته الغنية بالمفردات المميزة التي باتت تخصه تتسع في الوقت نفسه لكلمات عصرية يومية مثل «سحاب» و «بنطلون».

مودي بيطار

المصدر: الحياة

التعليقات

مدهش وجميل الشعر الحر والتجديد في الشكل والمضمون والبناء.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...