أعمال قديمة بعيون جديدة

04-03-2007

أعمال قديمة بعيون جديدة

تعيد بعض دور النشر العربية، ومن ضمنها تلك التابعة لوزارات الثقافة وهيئات الكتّاب، إضافة إلى جهات أخرى يتصل عملها بالنشر والتوثيق للحياة الثقافية العربية، طبع مؤلفات الكتاب الكبار، الأحياء منهم والراحلين. يتم ذلك بناء على طلب القراء، في العادة، أو إسهاماً في إحياء ذكر المؤلفين وتوفير كتبهم التي نفدت من السوق، ولم تعد متوافرة في المكتبات، للأجيال التي لم تعاصرهم ولم تتعرف على إنجازهم وقت تحققه.

يحدث ذلك إذاً بداعي تعميم المعرفة على الناس، وتوفير التواصل بين الأجيال في ميادين الثقافة والمعرفة والإبداع، وتسليط الضوء على كتّاب، عادة ما يكون ذكرهم ملأ الدنيا وشغل الناس. وقد قامت تلك المؤسسات، وهي في غالبيتها تابعة للدولة لا تبغي من وراء عملها الربح، بتوفير طبعات، شعبية وغير شعبية، من مؤلفات الكتّاب الراحلين، والمميزين من الأحياء، للقراء الجدد. وهو الأمر الذي تفعله مكتبة الأسرة، التابعة للهيئة المصرية العامة للكتاب، مثالاً لا حصراً. كما أن من ضمن تلك المؤلفات التي نشرت خلال السنوات الأخيرة الأعمال الكاملة للقاص الأردني - الفلسطيني الراحل محمود سيف الدين الإيراني، التي نشرتها مؤسسة عبدالحميد شومان، وكذلك الأعمال الكاملة للروائي الصديق الراحل مؤنس الرزاز، التي نشرتها المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ومؤلفات الروائي والكاتب والناقد الأردني الراحل غالب هلسا، التي نشرتها دار أزمنة في عمان.

ثمة أيضاً الأعمال الكاملة للشعراء العرب المعاصرين التي نشرتها خلال الستينات والسبعينات والثمانينات دار العودة في بيروت؛ ثم قامت المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان بمواصلة المشروع فطبعت عدداً كبيراً من المجلدات الأنيقة لشعراء جيل السبعينات في مشارق الأرض العربية ومغاربها، في خطوة توثق الشعر العربي، وتضعه جاهزا بين أيدي القراء. وتلك مهمة كبيرة بالفعل تدل على أن النشر في الوطن العربي يتمتع ببعض الحيوية والعافية، إذ أن دور النشر في العوالم المتقدمة تحرص على طباعة الأعمال الكاملة للكتّاب والروائيين وكتاب القصة والمسرح، وغيرهم من المؤلفين، لكي يطلع عليها المختصون والأكاديميون، والنقاد، والقراء عامة. لكنها تحرص في الوقت نفسه على توفير مختارات من تلك المؤلفات، وهو الأمر الذي نفتقر إليه في فضاء النشر العربي.

إن إعادة طبع تلك الأعمال يوفر للقراء، الذين لم يكونوا قد ولدوا بعد، أو أنهم كانوا صغاراً زمن طباعة تلك المؤلفات، زاداً معرفياً ضرورياً، كما أنه يجعلنا نرى أعمال الكاتب كلها مجموعة معاً، ويطلعنا على تطوره الإبداعي والثقافي بصورة أكثر وضوحاً. إن الكاتب، في تلك الطبعات الجديدة، يبدو مكتملا، أو شبه مكتمل، أمام أنظار قرائه، تجيب أعماله، الملمومة في مجلد واحد أو أكثر، على أسئلتنا التي كنا نبحث لها عن إجابات في ما يتعلق بصعود موهبة كاتب أو شاعر معين، أو نضوب تلك الموهبة في أواخر العمر، وربما في منتصفه، إذ أن بعض الكتاب، العرب خصوصاً، يصر على الكتابة حتى ولو نضب وأصبح فارغاً من الإبداع والمعرفة، هزيل الأفكار مهلهل الأسلوب.

لكن المشكلة الأساسية التي تعاني منها الأعمال الكاملة، أو المختارات، أو الكتب المعاد طبعها، لدى دور النشر الأهلية، أو تلك التابعة للدولة، في العالم العربي، تتمثل في غياب أي تقديم، وخلو تلك الكتب من تعريف بمسيرة الكاتب أو إضاءة أعماله المنشورة، ووضعها في دائرة الضوء مجدداً، نظراً لانقضاء فترة زمنية طويلة على نشرها للمرة الأولى، وتغير الأحوال والسياقات الثقافية والاجتماعية التي أنتجت فيها تلك الأعمال. ذلك ضروري لأن القراءة سياق، وليست فعاليّة مجردة من شروطها الزمنية، وسياقاتها السياسية والاجتماعية والثقافية؛ فقراءة نجيب محفوظ في خمسينات القرن الماضي تختلف، ربما بصورة جوهرية، عن قراءته في بدايات الألفية الثالثة. الأمر نفسه يصدق على قراءة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وطه حسين وعباس العقاد، وتوفيق يوسف عواد وسهيل إدريس، وأدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط، وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف، وغسان كنفاني ومحمود درويش وإميل حبيبي، في أزمنة، وربما أمكنة مختلفة.

تلك القراءة السياقية تستلزم استراتيجية نشر مختلفة، وهو الأمر الذي تلجأ إليه دور النشر الكبرى في العالم، فهي تعيد نشر «قلب الظلام» لجوزيف كونراد بمقدمة إضافية جديدة يكتبها الناقد والمنظر الراحل إدوارد سعيد، يضع فيها الروائي البريطاني البولندي الأصل في السياق الراهن لتجربة الاستعمار وما بعده؛ أو أنها تنشر رواية «كيم» لروديارد كيبلنغ بمقدمة تعيد النظر في إرث الاستعمار يكتبها إدوارد نفسه. الأمر نفسه يحدث مع المسرح الشكسبيري، وروايات تشارلز ديكنز، وجورج إليوت، وأشعار تي. إس إليوت، وإزرا باوند، ووالت ويتمان، وآرتور رامبو، وفيسوافا شيمبورسكا، حيث يكتب مقدمات لتلك الأعمال من هم خبيرون بها عارفون بتحولاتها وتغير طرائق قراءتها في الزمان. وهي بهذه الاستراتيجية النشرية تجعل من كل طبعة جديدة للعمل مناسبة للقراءة بعيون أخرى ترى في العتيق جديداً كل مرة. وهذا ما نتمنى أن نراه في عالم صناعة الكتاب في عالمنا العربي الذي يهمل، في معظم الأحوال، المعايير وشروط الإنجاز المتميزة.

فخري صالح

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...