ملتقيات النحت في سوريا و عقدة "الصنم"

15-12-2006

ملتقيات النحت في سوريا و عقدة "الصنم"

 تحقيق ـ  سعاد جروس : أثارت الأعمال النحتية التي أنجزها ملتقى النحت الصيف الماضي في مدينة حمص، وجهات نظر متضاربة حول الوظيفة الجمالية لأعمال تتراوح بين العادي والجيد، في تزيين المرافق العامة والشوارع والساحات، خاصة وأن احدها أثار استياء العامة وقلقها لتشابه شكله الفني مع رمز ارتبط بجماعات إلحادية. وفور تنبه الجهات المعنية في المدينة الى ذلك التشابه المستفز تمت إزالة التمثال. لكن لم يهدأ الجدل في المدينة حول الحاجة للتماثيل في أحياء تفتقر للخدمات الأساسية كتزفيت الشارع، أو تنظيفه.
 من هذه الوجهة، تساءل الكثيرون ومنهم الطالب الجامعي علاء قائلاً: ما حاجة حارتي الفقيرة الغارقة بالطين للتجميل بتمثال حجر؟ سؤال مشروع يفتح النقاش على موضوع العلاقة بين فن النحت والمجتمع، في وقت يعمل النحاتون السوريون ما بوسعهم لتطبيع الناس على تقبل الجماليات الحديثة. لكن ثمة مشكلة رئيسة يسميها النحات أكثم عبد الحميد بـ "عقدة الصنم" ، ولحلحلة هذه العقدة جاءت فكرة الملتقيات، وسعى إلى تنفيذها بداية الفنان التشكيلي ايمن الدقر، مستفيداً من موقعه كرئيس لفرع دمشق لنقابة الفنون الجميلة، وكعضو في مجلس المحافظة عام 1996 . وكانت الفكرة إقامة ملتقى للنحت بمشاركة عدد من النحاتين بعد تقديم مجسمات صغيرة لأعمالهم يتم اختيار ما يمكن تنفيذه، على أن يتوفر التمويل والمواد الأولية والأدوات ومصاريف الإقامة ومكافآت للفنانين، تتكفل بها المحافظة أو جهات أخرى رسمية أو أهلية، وبالمقابل تصبح المنحوتات المنجزة ملكاً عاماً توضع في الأماكن المناسبة.
يقول أيمن الدقر، بأن سفره عام 1996 حال دون متابعته للملتقيات الأولى، وعندما عاد عام 2001 وتسلم موقع نقيب الفنانين، وجد أن فكرة الملتقيات شاعت، ولاقت قبولاً حسناً، وانتشرت في عدة محافظات دمشق وحلب واللاذقية وطرطوس وحمص ...إلخ، مع العلم أن ملتقيات النحت قد تواجدت في مهرجان اللاذقية لعدة سنوات. ويؤكد الدقر، أن التجربة كانت جيدة من الناحية الفنية والفكرية والجمالية، الهدف منها تعميم ثقافة النحت، والتأكيد على أن التمثال ليس صنماً كي نحاربه ونرفض وجوده في الأماكن العامة، بل هو تجسيد لقيمة جمالية. لافتاً النظر إلى أن الإسلام حطم الأصنام التي كانت تعبد في الجاهلية، لكنه لم يحطم تمثالاً واحداً حين انتشر ووصل الى الصين، بينما جماعات طالبان حطموا تماثيل بوذا!! من هنا تأتي الحاجة لإعادة الاعتبار لاحترام القيم الفنية الجمالية والفكرية.
رغم صحة ما يقوله الفنانون حول أهمية نشر الثقافة الجمالية إلا أن المشكلة لا تتعلق فقط بالعقائد الموروثة، وإنما في الظرف الموضوعي الواجب توفره كي تؤتي تلك الأفكار ثمارها، فثمة مشكلات لها علاقة بالبيئة الاجتماعية الرافضة لتشخيص الجسد الإنساني، وأخرى لها علاقة بالواقع الخدمي السيئ الذي يجعل التفكير بالجمال محض ترف سقيم لا يطيقه شظف البؤس اليومي، وثالثة على تماس مع السياسة، ورابعة سببها مدارس تجعل من حصة التربية فنية وقتاً مهدوراً، وخامسة تتصل بغياب الفنانين عن مكاتب البلديات المعنية بتنظيم الشوارع والساحات والتي يجب أن تتولى عملية رسم الرؤية الجمالية للمرافق العامة، وما تحتاجه من أعمال فنية، ومشاكل تتصل بالمحسوبيات وقنواتها السرية التي تحول أفضل المبادرات إلى فرص للارتزاق لا تنتج إلا النوافل. هذا ناهيك عن التنوع الشديد في المجتمع الذي له الدور الأكبر في نجاح مشروع ما أو العكس، فما يلاقي ترحيباً واحتضاناً في قرية، قد يخفق في أخرى من البلد ذاته... إلخ من مشكلات لا تنفي عن ملتقيات النحت أهميتها في خلق حالة حوارية حضارية متقدمة، لكن دونها عقبات تحتاج إلى تذليل.
ولعل تجربة ملتقى "مشتى الحلو" الذي أقيم الصيف الماضي في أجمل البقاع السورية، يؤكد ليس على أهمية المبادرات الثقافية الأهلية فقط، بل على ضرورة دراستها ضمن رؤية متكاملة ومتابعة تنفيذها حتى النهاية. فقد كان لاختيار زمان الملتقى ومكانه دوراً  كبيراً في نجاحه، من ناحية ما حظي به من طبيعة خلابة، بالإضافة إلى أن المنطقة سياحية يؤمها السياح من شتى أنحاء العالم، والمصطافين من الداخل السوري، ويتردد عليها صيفاً المغتربون من أبناء البلدة. وقد شكل وجود عشرة نحاتين بالإضافة الى ورشة لتعليم الأطفال عند مدخل بلدة "مشتى الحلو" الجبلية، ظاهرة استرعت انتباه الأهالي وعنايتهم، وخلقت حالة اجتماعية تواصلية مع النحاتين، فتابعوا تشكل أعمالهم النحتية، وانتظروا نتيجة عملهم الشاق تحت شمس تموز الحارقة، وتناقشوا معهم ودعوهم إلى منازلهم أو جاؤوا إليهم بالطعام.
 الفنان الممثل فارس الحلو الذي اشرف على هذا الملتقى متكبداً جهد مؤسسة كاملة يقول: "عندما قمت ببناء دراسة تفصيلية للمشروع بما يحويه من أفكار وأهداف ومستلزمات، انتابني قلق غامض بخسران بعضها بسبب التكاليف العالية لإقامة هذا المشروع". ويتابع الحلو: "لم تصبني الدهشة في حياتي كما أصابتني طيلة أيام الملتقى، فقد كانت تتحقق تباعاً كما خططت لها. كان أهل البلدة ومنشآتها السياحية بمثابة الساموك، وكأني بعنوان الملتقى (جمال الحب) كإطار عمل وهدف يسير عليه الفنانون قد أشاع ببريقه ليشمل الناس كل الناس". ساهمت هذه المناخات في تمكين الملتقى من تسجيل خطوة جريئة إلى الأمام على مسيرة ملتقيات النحت التي كانت تتوخى تجنب التشخيص المباشر للجسد البشري، لاجئة لإشكال التعبير التجريدية، وهو ما أشار إليه فارس الحلو بالقول: "إنه أول ملتقى يعنى عناية كاملة بالتشخيص في النحت، وكان جريئاً بما فيه الكفاية كتجربة أولى".
      مما لا شك فيه أن المناخ الثقافي والاجتماعي الذي تتمتع به هذه المنطقة من سورية، ساهم بنجاح الملتقى. فكما هو معروف، امتلكت منطقة الوادي حيث تقع بلدة مشتى الحلو،أعلى نسبة تعليم ، وتكاد تنعدم فيها الأمية تماماً، بالإضافة الى وجود عدد كبير من أبنائها من المغتربين المقتدرين الباحثين عن فرص طيبة لخدمة بلدهم، بحسب تعبير فارس الحلو . كما ساهم في نجاحه اختيار فنانين مقتدرين شاركوا على الأقل في أكثر من خمسة ملتقيات، بينهم أساتذة نحت مثل أكثم عبد الحميد  مدير معهد الفنون التطبيقية، وآخرون أثبتوا حضورهم محلياً وعربياً مثل محمد بعجانو ونزار بلال وشباب متميزون مثل علاء محمد وهمام السيد ونور الزيلع وهادي عبيد وكنانة الكود.  يضاف إلى تلك العوامل، دعم مالي قدمته عدة جهات رسمية وأهلية، فتم توفير حجر كرارا وهو من أغلى أنواع الرخام الايطالي مع كافة المستلزمات الأخرى، إلى جانب حفاوة الإعلام بالملتقى، وكتب عنه كأنه أول ملتقى في سوريا، علماً أن تجارب أخرى ناجحة سبقته أهمها الملتقى الدولي للنحت(سينبوزيوم) في جبال اللاذقية عام 2003 الذي أشرف عليه النحات مصطفى علي، وهدف منه الى إقامة متحف في الهواء الطلق، وضم 17 نحاتاً محترفاً من سوريا، ونحاتين من 14 دولة أجنبية وعربية، وبلغت تكاليفه 14 مليون ليرة سورية بما يعادل 280000 $ ، قامت بتغطيتها عدة فعاليات اقتصادية. ويعتبر الفنان مصطفى علي، أن تجربته نجحت في خلق حوار بين الفن والطبيعة وبين الفن والمجتمع، وما تزال تلك المنحوتات موجودة في جبال اللاذقية، يزورها أهالي المنطقة والسياح، ويعتبر أن ظاهرة ملتقيات النحت صحية 100% ، وضرورية لترسيخ حوار يوسع الآفاق الثقافية.
 لكن للشارع كلام آخر يأتي بعكس أحلام الفنانين، فالأعمال التي أنتجها ملتقى النحت الأول في ريف دمشق ورعته الحكومة، وتوزعت على الرصيف المحاذي لنهر بردى أمام مدينة معرض دمشق الدولي القديمة أواخر التسعينيات، لم تلق القبول، وكثيراً ما استوقفت المارة وأثارت استنكارهم عندما حاولوا تفسير معنى تلك الكتل ذات الخطوط التجريدية، ولم يوفرها المراهقون والعشاق من كتابات عابثة وعملوا على تشويهها دون شعور بالمسؤولية، بدافع الانتقام من حجارة صماء مبهمة. بينما كان مصير الأعمال التي زينت حديقة تشرين في دمشق أحسن حالاً، ربما لأنها حظيت بحراسة أفضل، أو أن وجودها في حديقة وسط الأشجار، زاد من جمال المكان ووفر لها الحماية اللازمة. أي أن اختيار المكان الملائم، بما لا يشكل نفوراً للعين أو استفزازا لا شعورياً للمارة، لا بد وأن يحول دون اتخاذ الناس موقفاً عدائياً من التمثال، عدا أن التأكيد على السوية الفنية شرط أساسي لقبول العمل الفني واكتشاف جماليته. أسامة عيد مهندس مدني تعجبه فكرة وضع التماثيل في الأماكن العامة، كما تعجبه فكرة إقامة حوار بينها وبين الناس، لكنه يتساءل كيف نقيم حواراً مع كتل حجرية لا تحمل معاني مفهومة، كثير من الأعمال كانت عبارة عن طلاسم، إن قلت أني لا أفهمها أخشى من اتهامي بالجهل، وإذا قلت أني افهمها سأتعب في إيجاد تفسير لها، وفي النهاية اضطر لتجاهل وجودها إلا أنها لا تتجاهل وجودي فهي تعترض طريقي كشيء نافر ومنفر. ويرى أسامة أن هذا هو سبب العدائية لبعض الأعمال، وليس عقدة الصنم التي يتحدث عنها الفنانون. كما ويشير إلى تمثال لطفلة في حديقة تشرين بسيط جداً إلا أنه يستمتع بالنظر إليه وتأمله لأن شيئاً ما فيه يشبه طفلته، كما أن مكانه بين الزهور يجعله يرتاح إلى الجلوس بجانبه. 
اختيار المكان ليس مسؤولية الفنان كما يقول مصطفى علي، وإنما مسؤولية الجهات المعنية. ويلفت النظر الى أنه لا يتم استمزاج رأي الفنانين بتوزيعها على الأماكن العامة، فنراهم يصممون الساحات والشوارع من وجهة نظر المهندس المعماري دون استشارة الفنانين، كما يتم وضع التماثيل والنصب التذكارية وفق أهواء الموظفين، ولهذا نرى الساحات تفتقر للذوق الرفيع، بل وأقرب إلى الفوضى. ويضرب مثالاً ساحة الأمويين التي جاء تصميها منفراً، وحتى لو أبدى الفنانون اعتراضهم، فإن أحداً لن يستمع رأيهم، لأنهم (الموظفون) مقتنعين أن ما يقومون به هو الصحيح، حتى لو عبر أغلب الناس عن إحساسهم ببشاعتها. يرد علي ذلك الى الجهل، فالحس الجمالي مرتبط بالتربية الفنية والتي لا تعني اكتشاف الموهوبين، بقدر ما تعني تربية الحس الفني، وللأسف مادة التربية الفنية محتقرة في مدارسنا. فنحصد نتائج إهمالنا لها، بشاعة تطالعنا في فوضى هندسة الأبنية والحدائق والساحات والشوارع. ولا يمكن استدراك أخطائنا إلا بحصيلة عمل مؤسسات لا أفراد. ومع ذلك يعول مصطفى علي، على أهمية تأثير الفرد في إحداث التغيير من خلال الإصرار على ترسيخ الثقافة الجمالية.
أما عن السوية الجمالية المفترض مراعاتها في الأعمال التي ستجد طريقها إلى الأماكن العامة. يقول أيمن الدقر، ذلك يتعلق بالقائمين على الملتقى، والذين يختارون الإعمال الفنية الملائمة للتنفيذ، لكن حين يدخل عامل الصداقة والواسطات وتنفيع فلان من الفنانين، فالنتيجة حتماً لن تكون مرضية، بل ستكون مؤذية للفن والفنان .
النيات الطيبة وحدها لا تكفي، لا بد من الإخلاص عند التنفيذ لتأتي الحصيلة وفق ما تشتهي التمنيات، وتجربة ملتقى مشتى الحلو الذي أسهم بأعماله أهالي البلدة، حرصوا على نجاح الفكرة، كما يحرصون على ممتلكاتهم. تجربة تؤكد أن الأهم من نحت الحجر هو إطلاق الحريات للعمل الأهلي ليمارس دوره الحقيقي في بناء الثقافة والدفاع عن الفن.

 

الجمل + الشرق الأوسط

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...