كواليس تياترو

21-12-2008

كواليس تياترو

كان العام 1949 أحد أكثر الأعوام دراماتيكية في التاريخ السوري الحديث, ففيه شهدت البلاد ثلاثة انقلابات عسكرية متتالية أودت بالحياة الدستورية, بدأها اللواء حسني الزعيم بالانقلاب على حكومة شكري القوتلي في شهر آذار €مارس€, ثم جاء انقلاب سامي الحناوي في آب, ومن بعده انقلاب أديب الشيشكلي في كانون الأول, وكان ذلك العام الحافل بالقلاقل والشعارات والأحكام العرفية, العام الذي تبع عام النكسة واغتصاب فلسطين, كان الحاضنة المولّدة لأحداث الرواية الثانية للأديب السوري فواز حداد «تياترو 49» التي صدرت قبل حوالى عقد ونصف, والتي قام المخرج العراقي باسم قهار بمسرحتها وتقديمها مؤخرا على صالة الحمراء في دمشق تحت عنوان «كواليس تياترو» وفي سياق عروض المسرح القومي.طة من «كواليس تياترو».

قام بعملية إعداد النص الكاتب وائل سعد الدين, وأحدث افتراقات كثيرة ما بين الرواية والعرض, غير أن الجامع المشترك ما بين رؤى المؤلف والمعدّ والمخرج هو المسرح بحد ذاته الذي حضر بقوة في تفاصيل المتن الروائي كأحد الخطوط والتفريعات الأساسية, فمن الشخصيات المحورية كان الصحفي صبحي عباس €مروان أبو شاهين€ الذي رغب في الانتقال إلى الكتابة المسرحية بعد أن عانت مقالاته السياسية من المنع بسبب تركيزها على محاسبة المسؤولين عن الهزيمة وعن صفقات الأسلحة والأطعمة الفاسدة في حكومة شكري القوتلي €نعمان حاج بكري€ وخالد العظم €ماهر أحمد€, والرغبة في تغيير المهنة قادت الصحفي إلى الالتقاء بالمخرج حسن فكرت €زيناتي قدسية€ وبأبطال الفرقة عزوز €مازن عباس€ ونوال €رنا شمس€ من أجل البحث في تفاصيل عرضه الذي أسماه «شهداء الوطن», وأراده أن ينطق بلسان المواطن, ويفضح حقيقية ما يجري على أرض الواقع, لكن ما إن بدأ فريق العمل بتدريباته الأولى على المسرحية, حتى بدأت الانقلابات المفاجئة بالتوالي, لتتغير مع كل منها الظروف العامة والمشاهد التمثيلية, بحيث اعتلت الأحداث الجارية الخشبة, ودخل المسرح إلى كواليس السياسة في لعبة شيقة من التورية والكشف, اختلطت في رحابها الشخصيات الحقيقية بالشخصيات المتخيّلة.
وفي ظل لعبة التداخل والتماهي ما بين الوقائع والأحداث المسرحية كانت شخصية الملازم أسعد كسوب €شادي مقرش€ هي حلقة الوصل ما بين أبطال المنطقتين, فهو عسكري متخيّل تقدّم بوصفه احد المشاركين في حرب 1948 حيث فقد ذراعه, وكان أول المطالبين بفتح تحقيق الهزيمة, خدم الجيش بأمانة, وعرف الجميع, وشارك في كل الانقلابات, تلقى أوامره من حسني الزعيم €عماد نجار€ ثم اعتقله, أجرى التحقيقات, وسجن المعارضين وأفرج عنهم, إنه كان بمثابة السلطة التنفيذية الواسعة الصلاحيات التي حملت في تضاعيفها ثنائية الآمر والمأمور, وقد تجسدت على الخشبة بثنائية أدائية جمعت ما بين الحركة الطبيعية في الجزء السليم من الجسد, وحركة الدمى في الجزء المعطوب, أي جزء الذراع المبتورة.
إلى جانب ذلك فقد أمسك العرض بكافة شخصيات الرواية وهي في منعطفات تحوّلها, وفي لحظة اتخاذها للقرارات المصيرية دون مقدمات مسبقة, بل على شكل حلقات متصلة, استدرجت كل منها الأخرى, فحضور المخرج حسن فكرت مثلا بدأ من لحظة استعداده لتقمّص شخصية صديقه التاجر الثري حبيب رزق الله الذي كان قد هاجر إلى مصر وتوفي فيها, وتم التقمّص دون العودة إلى ذاكرة العلاقة التي ربطت ما بين الشخصين, وجمعتهما على حب المغنية ماري جبران €أميرة حذيفي€, فالظهور بشخصية ثرية كان وسيلة لدخول كواليس السياسة ومعرفة نبض الشارع عبر الجلوس في المقاهي والادعاء بطرح مشروع صناعي وطني, كان بدوره سبب إعجاب المحامي أكرم مطط €علي كريم€ بالتاجر رزق الله والدفاع عنه وهو في المعتقل بتهمة التخطيط لقتل الزعيم.
كذلك فقد انضم إلى الشخصيات الروائية عدد من الكومبارس, وبعض الممثلين الذين ظهروا بأقنعة وأدّوا أدوار الرقباء والتابوهات, وكان لهذا التنوع في المرجعيات الاجتماعية والفنية انعكاسه الحيوي داخل البنية العامة, غير أن التجريبية التي هجس بها المخرج باسم قهار, لم تجعل من الشخصيات محور العرض, بل كانت المؤشرات المنبثقة عن سلوكها ومقاصدها وأساليب أدائها هي بؤرة الاهتمام, تلك المؤشرات التي تواشجت مع بقية العلامات التي أطلقتها العناصر الأخرى من إضاءة وموسيقى وديكورات, لتكوّن بمجموعها شبكة متداخلة وغنية بالروامز, كانت غايتها عكس حالة من التوتر على أهبة الانفجار.

حلول إخراجية
وإذا كانت الرواية بدأت من الصحافة والتضييق على حرية الرأي, وبسطت تفاصيلها بشكل أفقي مبني على مبدأ الإسهاب في السرد وتغليب صوت الراوي الخارجي, ثم انتهت بهزيمة المبدع وكوابيسه الحالكة التي لا يُعلم لها قرار, فإن العرض بدأ من الخشبة وتعدد أصوات اللاعبين في فضائها, وانتهى بانتصار روح الإبداع على سلطة العسكر, وفي هذا السياق اتبع المخرج تقنية المسرح داخل المسرح, واعتمد أسلوب التجريب والتقطيع المشهدي, لنقل البنية السردية إلى معادلات بصرية وسمعية متعددة المستويات مع الإبقاء على الحوارات الأساسية, وهي حوارات قليلة ومقتضبة بطبيعة الحال.
بدأ تعدد البنية المشهدية من تصميم الفضاء المسرحي الذي تولاه الفنان نعمان جود, ووزعه في عدة مناطق منفصلة عكست الوضعية والفعالية الاجتماعية للشخصيات, فخلفية الفضاء كانت مقسومة إلى منطقة تحتية اجتمعت فيها شخصيات الهامش €جمهور المتلقين والكومبارس€ ومنطقة علوية تصلها بالأرضية سلالم جانبية, خُصّصت للنقاش في الأمور الهامة وإصدار التعليمات من قبل الشخصيات المؤثرة في مجرى الحدث, أما الزاويتان الأماميتان من الخشبة فقد رمزت إلى المعتقلات, في حين شكلت الفسحة الأمامية مسرح الأحداث الرئيسة, سواء تلك التي جرت في شارع الحياة أم في عرض «شهداء الوطن», وحسب بؤر الضوء كانت تظهر منطقة ويتم التعتيم على البقية, وفي إشارة إلى البعد التصادمي التناحري ما بين مكونات الحالة المقترحة, فقد اكتست كل المفردات من أزياء وأقنعة واكسوارات وما شابه باللونين الأسود والأبيض فقط, ماعدا شرائط حمراء كان يخرجها الممثلون من جيوبهم في دلالة مسرحية إلى سفك الدماء حين تطلب الأمر.
هكذا وعلى خلاف الرواية ذات المبنى السردي البسيط والواضح الذي يسهل على القارئ فهمه وسبر أبعاده, لم يكن من السهل تلقي هذا العرض وفض مغاليقه على الإطلاق, بل كانت بنيته الحلزونية المركبة والمعقدة تتطلب من المتلقي الدخول في كل التفاصيل والتفكير مليا بمدلولاتها لقراءة المعنى الكامن خلف تراكب المستويات والأساليب والإشارات, وهي عملية متعبة, غير أنها حملت معها متعة من نوع خاص, متعة تتبع الأداء الجميل والتحليل والكشف التي تُوجت بمتعة انتصار الحياة الدستورية المدنية في الختام.

تهامة الجندي

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...