فواز حداد: لا يصح أن نمضي من هذا العالم دون أن نقول كلمتنا فيه

09-06-2007

فواز حداد: لا يصح أن نمضي من هذا العالم دون أن نقول كلمتنا فيه

ما بين الفن المدجّن والأنوثة المستباحة والفساد المستشري يوزع الأديب السوري فواز حداد تفاصيل روايته الجديدة «مشهد عابر» التي صدرت اخيرا عن دار الريس ببيروت, يبدأ من المسرح ومن صحفي مهمّش, هو الضحية والشاهد على حياة تعبر بنا من خيبة إلى أخرى, وتنتهي في المسرح أيضا حين يتماهى الراوي بالضحية, ويقول: «لا لن أغفر... لقد انسحبت من الحياة مبكرا لم أرد المشاركة فيما يجري, أردت أن أكون واحدا من هؤلاء الذين لا يسترعون الأنظار, مجرد رجل عادي تماما, لكنني لم أفلح, كان بإمكانهم اقتحام حياتي ساعة يشاؤون»... إنها رواية تلتزم بالأسلوب الواقعي, لكنها في الوقت ذاته متعددة الطبقات غنية بشخوصها وأحداثها, مشبعة بالدلالات والرموز, مدهشة بجرأتها العالية, وحول خصوصياتها الفنية كان لنا هذا الحوار:
€ «مشهد عابر» عنوان يضم بين دفتيه اثنين وثلاثين فصلا تبدأ بدعوة للمسرح وتنتهي بموسم الختام, وبين شطري البداية والنهاية التي تفترضها تداعيات العرض المسرحي, تتفرع الأحداث وتتقدم الشخصيات لترسم واقعاً مظلماً يحاصرنا ويقهرنا حيثما توجهنا, فلماذا اخترت مفردات المسرح حاضنة لذلك الواقع, ولماذا جاء العنوان مفارقا للمضمون؟
­ ثمة استعراض متنوع ساخر وقاتم, لا يمكن أن يحتويه سوى مسرح عبثي لا يخلو من لهو لاهث وراء الأحداث وعلى سويتها. لم يكن اختياري للمسرح اعتباطياً, هناك فصول ومشاهد, وستارة تنزل سرعان ما ترتفع وتنزل من جديد, ومناظر متتالية وديكورات تتبدل, وتمثيل. الكثير من التمثيل, ولا سيما أن البطلة ممثلة طمحت يوماً أن تكون ممثلة درامية حقيقية, فإذ بها تكتفي بممثلة إعلانات. وكأنها استعاضت عن الفن بالترويج لبضائع, وفي الواقع بحياة تافهة ومنحطة.
هذا الارتداد هو حال معظم شخصيات الرواية. كل منهم في مرحلة ما من حياته, نشد حقيقة ما, لكنه اختار بعدما توافرت له الظروف المواتية أن يعمل على تسويق الأكاذيب, لأن العائد كان كبيراً. هنا على هذا المسرح, يجري تسليط الأضواء عليهم من عدة جوانب, ثمة تعرية ولحظات كاشفة, لا لم أوفر شيئاً. كان المسرح عوناً لي.
بالنسبة إلى العنوان, كان مضللاً ويتعمد القسوة, ولم يكن مفارقاً بالضرورة. اليوم ونحن ننظر إلى الخلف, تمر أمام عيوننا العقود الماضية مثل مشهد عابر, هذا إذا لم نتعلم منها شيئاً, وليس من المستبعد أن تكون الآلية نفسها في سبيلها إلى التكرار. أي من مشهد عابر إلى مشهد عابر, الأول أخذ حياتنا بكاملها, والثاني حياة القادمين بعدنا.
€ عمارة الرواية تشبه إلى حد كبير عمارة «ألف ليلة ولية» فهناك حدث أولي تتفرع عنه حكايا وقصص مستقلة ومترابطة في آن, كل منها يروي سيرة شخصية ما, تقود بدورها إلى سيرة أخرى, إلى أن تعود في الختام لاستكمال خطوط الحدث الذي بدأت منه, مشكلة بذلك دورانا حلزونيا حول مركز مغلق, فلماذا اخترت هذه العمارة وهذا الأسلوب؟
­ في هذه الرواية بالذات, أنا لم أختر, القصص هي التي اختارت أسلوبها, ولا أدري إذا كان يشبه أسلوب ألف ليلة وليلة, أو على منواله, فلننتظر ريثما يأتي النقاد بآرائهم العجيبة ويقولوا شيئاً ما. أما أنا فأقول بأن القصص تبحث عن الطريقة الأكثر تعبيراً عنها. المهم أن نترك لها الحبل على الغارب, ونفسح لها المجال, لتتراكب كما تشاء, وكأنما هناك هدف تسعى إليه من خلال تشكيل صورة يقف أشخاصها أمام كاميرا تجهد أن تمنح لكل واحد حجمه ومكان وقوفه والوضعية التي يجب أن يتخذها. ولقد اضطررت إلى حشر بعض الشخصيات, وإلى شخصنة الأشياء كما في فصل «الكولبة». الكاميرا لم تسع إلى تجميلهم, كما أن الصورة التقطت في غفلة عنهم, في أوضاع كانت معبرة وإن كانت غير ملائمة لهم. بالنسبة الى الكاتب عليه أن يعرف كيف يحافظ على طزاجتها سواء باللغة أو الإيقاع, أو الكثافة المشهدية.
€ على خلاف رواياتك السابقة التي كانت أحيانا تستلهم الأحداث التاريخية المعاصرة, وأحيانا تشطح بجوانب تخييلية عالية, نجدك في «مشهد عابر» ملتصق تماما بالواقع وشخوصه من دون كنايات أو مجاز, فلماذا اتبعت هذه المرة الأسلوب الواقعي المباشر؟
­ الواقع أحياناً ثمين إلى الحد الذي لا ينبغي العبث به, أو اللعب بعناصره, أو تعريضه لمعالجة أسلوبية معقدة أو توريات ومجازات, ومن الخطأ ألا نراه كما هو تماماً مكتفياً بذاته, غنياً بما يحمله, ويمتلك من الخيال ما يجعله يتفوق على الخيال نفسه. إن ما يجري في الواقع يتجاوز ما نحاول نحن اختلاقه. لذلك نقول أليس من الإجحاف ألا يكون الروائي قادراً على استلال تلك اللمحات القوية المبذولة بسخاء؟ وبالتالي لن يكون تدخل الكاتب بالوقوف عند السطح, وإنما في استنطاق ما يجري تحته. عموماً لا خيال من دون سند من الواقع, الحياة هي التي تمد الروائي بموضوعاته وشخصياته.
وبما أن هذا الرواية على صلة قوية بالواقع, فسوف يتلمح البعض فيها شبهة التزام تمت إلى الواقعية الاشتراكية, أنا لا أخشى هذه الاتهام. هذا صحيح. أنا لا أعيش خارج العصر, وهذا العصر بالذات يملي عليَّ أن أكتب عنه. أحس بمسؤوليتي نحو الوطن والبشر... ونحو المستقبل, وما حدث وما سيحدث... نحو التاريخ وما سيصبح تاريخاً.
€ مع أن تفاصيل الرواية ومقولتها تنطلق من الراهن واليومي وتصب فيه, فلماذا اتبعت تقنية الراوي الخارجي العليم الذي قصّ علينا حكاياه بكثير من السرد وقليل من الحوارات والمنولوجات؟
­ لنا الحق في اختيار الزاوية التي ننظر منها, كي نرى أكثر, وبوضوح أكبر, وبأقل عدد ممكن من التكرارات, خصوصا أن الوقائع متشابهة ولا تقع تحت حصر, وظاهرة للعيان. هنا الكاتب لا يختبئ ولا يتوارى, وإنما يقدم شهادته كروائي, أي ما رآه وسمعه وما يتصوره أو يتخيله, وما يضطر إلى اختلاقه وتأويله؛ قد يكون صادقاً حيناً وكاذباً حيناً آخر, لكنها رؤيته التي هو واثق منها ويدافع عنها, خصوصا إذا أدركنا ماذا يعني الاختلاق والصدق والكذب في الرواية. ولا أستبعد أن يأتي غيري من الكتاب ويقدمون بدورهم شهاداتهم.
أما بالنسبة الى استخدامي تقنية الراوي الخارجي العليم, فأزيد وأقول, الراوي هنا, هو الروائي نفسه, أي أنا بالذات, لا يصح أن نمضي من هذا العالم, دون أن نقول كلمتنا فيه.
€ باستثناء أحمد ربيع الرجل المثقف النظيف الذي ينتمي إلى شريحة المحرومين الصامتين, والذي ساقه قدره الظالم للغوص في عوالم طالما عارضها في أعماقه, فإن بقية شخصيات الرواية هي نماذج بشرية تنتمي إلى تلك الشريحة الاجتماعية الطفيلية التي اغتنت بواسطة الكسب اللامشروع واستغلال مناصبها ونفوذها, شريحة المدعين والفاسدين والمارقين على القانون, فلماذا وقع اختيارك على هذه الشريحة, وكيف بنيت شخوصها؟
­ تمنيت طبعاً الكتابة عن أناس أحسن أخلاقاً وأفضل تربية وأكثر تهذيباً ولا تنقصهم المثل العليا, ولو كانوا أقل هنداماً, ربما بوسعنا التعلم منهم الكثير من الفضائل الحسنة, وهم على الرغم من ندرتهم موجودون من حولنا ويتميزون بقدرتهم على الصبر على مفاسد تتعدى طاقتنا نحن. لكن الأدب عادة لا يعتني بهذه النماذج كثيراً, أولاً لقلتها, وثانياً لأنها لا تثير الاهتمام. الخطاة والمجرمون واللصوص أكثر جاذبية منهم, ومهما كنا طيبين فلا ريب بأننا نتعرض لإغراءات أن نكون مثلهم, طالما المردود جيد, المال والمكانة. لذلك الكتابة عنهم واجبة, كي نزيل السحر عنهم, ونظهرهم كما هم. هذا جانب, ومن جانب آخر, يتحكمون بحياتنا ومصائرنا, كيف نأمن شرهم؟ وأخيراً نقول من دون مبالغة, بأن المستقبل قد يعيد سيرة الماضي على نحو أسوأ. هل هذا إشعار؟ لا إنه نذير.
€ في محاولة منك لرسم صورة واقعية لسلوكات تلك الشريحة الاجتماعية ومنطوقها اللغوي, لجأت في كثير من الأحيان إلى لغة الشارع والألفاظ البذيئة والتعبيرات السوقية, فهل تعتقد أن هذا الخيار أضعف من أدبية الرواية أم أغناها؟
­ لقد أغناها, ومنحها نكهة واقعية ومناخاً متحرراً من المواصفات الرسمية مع حيوية حارة. أحسست بالرضا وأنا أكتبها على هذه الشاكلة. هذا من دون الجدال في أن اغلب التعابير العامية التي استعملتها, هي فصيحة, وفي حال عاميتها لديها أكثر من مبرر لإدراجها في الفصحى.
اللغة شيء رائع, بشرط أن تكون ملائمة وعلى مستوى الشخصية والحدث, إنها جوهرة لا ينبغي التفريط بها, من خلالها وبواسطتها نتمكن من مقاربة الحدث بقوة وفي الصميم, وليس ملامسته برانياً.
€ طبيعة الأحداث والشخوص حملت الكثير من المفارقات والمواقف الساخرة, ووضعت الرواية في إطار الكوميديا السوداء, فهل تعمدت هذا الخيار, أم أن صيرورة الكتابة دفعت في هذا الاتجاه؟
­ في الروايات ثمة الكثير من الخيارات المفصلية والثانوية, لكن أي رواية تتعمد أمراً أو تعمل بموجب تعليمات مسبقة هي رواية زائفة بالضرورة. لا ينبغي التعجب من بعض القصص التي تأخذ مؤلفيها في سياقاتها, ولا عجب أن تتلاعب الروايات بأصحابها أنفسهم, وتطلعهم على أشياء تكمن في داخلهم, ولا ينتبهون إليها. الرواية فرصة لا تعوض لنتعرف على ما نعرفه ونتجاهله.
نحن منقادون أحياناً, ولا يحق لنا القول بأننا نتحكم في ما نكتبه, علينا الاعتراف بأننا نعيد للواقع ما يقدمه لنا.
€ في الرواية جرأة لم يعرفها الأدب السوري من قبل, فقد سميت الأشياء بمسمياتها, وتحدثت عن حكومة الظل, وفتحت ملفات الفساد والمفسدين, فكيف تعاملت مع رقيبك الداخلي وتغلبت عليه أثناء الكتابة؟
­ لن أجادل في موضوع الجرأة التي كتبت بها هذه الرواية, ما أعرفه أنني لم أتعرض إلى هذا الامتحان, فلم أفكر في الرقيب الخارجي ولم أواجه رقيبي الداخلي. لقد استبعدت كل ما يمكن أن يقف عقبة أمامي أثناء الكتابة. وعلى هذا الأساس لم أكن جريئاً, كان همي أن أكتب رواية فحسب, وان أفيها حقوقها, ليس من حيث التقنية واللغة والتعبير فقط.
تتطلب الرواية الدراية, لكن قبل ذلك الإخلاص للعمل نفسه. بالإضافة إلى أنها مسؤولية يجب ألا نتنصل منها, بدعوى أن الشأن العام لا يهمنا, أو أن السياسة أيديولوجيا مذمومة, وموضوع الروايات هو الأحاسيس والروح والعواطف والجنس, وكأن القص اختصاص وتخصصات, فيما الرواية وبكل وضوح تعنى بكل شيء ولا تأنف من شيء.
في السنوات الأخيرة, كان الحديث عن مسؤولية الكاتب, يحط من قيمة الرواية, وهكذا أصبحت السياسة رهاباً لا يليق بالروايات اللطيفة الخفيفة ذات الأجواء الجسدية أو الروحانية الاقتراب منها, وإلا قضي على سمعة الكاتب. هذا حال النقد في بلداننا, يختارون للروائي ما يكتبه ولا يوفرون نصيحة حداثية إلا ويلوحون بها مهددين, أصبح الجنس مطلوباً, وليس ممنوعاً. أما السياسة فأصبحت مرفوضة وممنوعة. أي على الروائي غض النظر عن عالم عربي كبير يتفاقم فساده, أي التكلم عن الفساد كأمر مفروغ له, من دون التعرض له بالفعل.
€ لماذا تجعل من الفن والأنوثة في أغلب رواياتك مفاتيح للكشف عن فضائح وجرائم أخلاقية مريعة؟
­ ليس ثمة كاشف أكثر تعبيراً من الفن, نذهب إليه لأننا بحاجة إلى أن نكون صادقين, ولأننا نتوق إلى التخفف من الرياء والنفاق والمجاملة والدجل الاجتماعي. هذا هو الفن, لقاء مطلق مع الذات ومع كل ما هو رائع وعظيم. لذلك نلجأ إلى الشعر والرواية والمسرح والسينما والموسيقا والغناء. أما الأنوثة, فهي الإنسانية المغلوب على أمرها, التي تتعرض للامتهان والاستغلال والمتاجرة. الأنوثة, ولنكن واقعيين, لا تستغل من قبل الرجال فقط, بل ومن قبل النساء أيضاً.
هل هناك أنوثة بريئة؟ نعم, على الرغم مما أصابها ويصيبها من تشويه. عندما تحاول الأنثى التشبه بالذكر لكي تحقق نجاحات وانجازات, عليها أن تتذكر أن نجاحات الرجال مشوبة بالاحتيال, وأن الانجازات الحقيقية للانوثة تتحدد بكل ما يفتقده الرجل, لا بتكرار ما يفعله وما يرتكبه من جرائم.
 


حاورته: تهامة الجندي
المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...