«كتاب» أدونيس صورة للحاضر في ماض لا يزال مستمرا‏

29-03-2009

«كتاب» أدونيس صورة للحاضر في ماض لا يزال مستمرا‏

«الكتاب» أكمل ما أبدع أدونيسكيف لي أن أنوّر هذا الظلام
‏ وأخرج من ذلك الركام؟‏
أدونيس "الكتاب – صفحة 117"‏.

ثمة طموح يسكن أدونيس منذ البداية، وتحديدا منذ أن امتلك رؤية واضحة لمفهوم الشعر، وهو أن يكتب "كتابا" ‏جامعا مانعا، يقول فيه كل شيء. وفيه يصل بالكلمة الشعرية إلى أقصى معانيها، ومن خلاله يرسم صورة واضحة ‏ودقيقة عن الذات العربية في مختلف الأطوار والعصور، ويكشف عن المعاني الخفية للحضارة العربية الاسلامية في ‏زمن عزّها كما في زمن اندحارها، وعبره يستقرئ التاريخ في مده وجزره.

ولعل أول ما يستند إليه مشروع أدونيس ‏الطموح هذا هو المعنى الذي منحه العرب القدامى لـ"الكتاب" حيث عرّفوه بأنه ما "كتب مجموعا" وهو أيضا "ما ‏ثبت على بني آدم من أعمالهم" "لسان العرب صفحة 698-699- دار الفكر – بيروت – بدون تاريخ".‏

أما السند الثاني فهو تمرّس أدونيس بالتراث، واطلاعه الواسع على مختلف أحداث التاريخ العربي الاسلامي ماضيا ‏وحاضرا، وتبحّره في علوم اللغة والكلام. وربما لأنه كان مدركا منذ البداية أنه "لا تجديد أصلا وحقيقيا دون معرفة ‏بما سبق" فإنه وضع لنفسه برنامج عمل شاق، طويل الأمد، بهدف إعداد نفسه إعدادا جيدا لمشروعه الشعري ‏الهائل، المتعدد الأصوات والأشكال والأغراض.

ففي فترة الطفولة والمراهقة حفظ عن ظهر قلب القرآن الكريم ‏وأشعار القدماء. وعند بلوغه الثلاثين، أعدّ أشهر وأجمل انطولوجيا للشعر العربي منذ العصر الجاهلي وحتى عصر ‏الانحطاط. وفي سن الأربعين، أصدر أطروحته الذائعة الصيت: "الثابت والمتحوّل" التي طرح من خلالها رؤية جديدة ‏لقراءة التراث العربي الاسلامي.

وقبل سنوات قليلة، نشر كتابا تضمن دراسات معمقة عن النص القرآني. وها هو ‏يتوّج هذه المسيرة الشعرية والفكرية الطويلة والمثيرة بديوان بديع أسماه "الكتاب" صدر الجزء الأول منه في ‏نهايات العام الماضي عن دار "الساقي" بلندن.‏

من أول قراءة لنا لـ"الكتاب" في جزئه الأول، نتبين أن الهدف الأساسي لأدونيس هو أن يكون "المبدع الكامل" ‏الذي طمح أن يكون كبعض الشعراء العظام من ثقافات وعصور مختلفة: هوميروس، فيرجيل، المعري، دانتي، وأيضا ‏ستيفان مالارميه وعزراباوند.

وربما تكون المقاربة بينه وبين هذين الأخيرين – أي ستيفان مالارميه وعزراباوند – ‏هي في نظرنا الأكثر مشروعية، والأشد اقترابا من الحقيقة كما سوف يبين ذلك لاحقا.‏

حتى اللحظات الأخيرة من حياته، ظل مالارميه يصارع صراعا مريرا من أجل انجاز حلمه الكبير المتمثل في كتابة ‏‏"الكتاب" الذي من خلاله "يبلغ المستحيل" والذي لا "تكفي حياة واحدة لانجازه" وفي رسالة وجهها إلى سارة هيلين ‏ويتمن في مايو/ آيار 1877 حدّد مالارميه خصائص هذا "الكتاب" على النحو التالي: "أنا جد طموح.

ليس هدفي أن ‏أطرق نوعا محددا، بل كل الأنواع التي يحتويها المسرح: الدراما السحرية، الشعبية، الغنائية". ويضيف مالارميه ‏قائلا أنه حين ينتهي من انجاز عمل كهذا بأهدافه الثلاثة دفعة واحدة فإنه يكون قد "أشعل النار في أركان باريس ‏الثلاثة تماما مثل نيرون".‏

وفي "الكتاب" يكشف أدونيس في مواضع مختلفة عن اغراض وأهداف شبيهة إلى حد كبير بما كان قد حدّده وعبّر ‏عنه مالارميه. ‏

فهو يعلن أن الكتابة هي أن يهيء الشاعر صبره لـ"أمواج الترحّل" وأن "يهمس لشطآنه أن تظل بلا مرفأ" "صفحة ‏‏108" وفي مكان آخر يقول: "صار جسرا إلى المستحيل قلم الشاعر المسافر في ليله الطويل" "صفحة 120". وفي ‏موضع آخر يعرّف الشاعر قائلا أنه "لا يرسي إلا لكي يحسن خوض اللجة في أمواج لا يعرفها" "صفحة 194".

أما ‏الشعر فهو بالنسبة إليه مغامرة محفوفة بالمخاطر في المجهول الذي لا حدود له: "فطرة الشعر في بحره أن يكون ‏مريدا لا لشطآنه بل لأمواجه" "صفحة 200".‏

وإذا ما كان مالارميه قد طمح أن يكون "الكتاب" الذي يحلم بانجازه عبارة عن مسرح يجمع بين الدراما السحرية ‏بالدراما الشعبية والشعرية، فإن أدونيس تمكن من أن يقدم لنا "كتابه" على صورة لم نألفها من قبل أبدا.

فهنا – أي ‏هي "الكتاب" نحن نشعر أحيانا بأننا نستمع إلى سمفونية هائلة فيها تختلط الأصوات اختلاطا عجيبا وصوت المتنبي ‏مع صوت الراوية مع صوت الشاعر ذاته مع أصوات شعراء آخرين". وأحيانا أخرى يبدو لنا أننا نشاهد مسرحية ‏مرعبة عن مختلف الأحداث الدموية والمأساوية التي عرفها العرب المسلمون عبر تاريخهم الطويل.

بل ويمكننا أيضا ‏ان نعتبر الكتاب رواية شعرية بالمعنى الحقيقي للكلمة. نعم هنا كل شيء جائز فلا موانع، لا حدود لا شطآن لا مرافئ ‏نحن وسط محيط هائج والشاعر يمضي دوما قدما إلى الأمام غير عابئ بشيء:‏
فسحة في مدائن حلمي – أتقدم فيها أتشرّد
فيها،
لا رفيق ولا عابر
غير ما يتموّج في ناظري
لأقل أنني أتمرأى
ومراياي عني منيّ إليّ

في "الأناشيد" التي شرع في كتابتها عام 1915 وأنهاها عام 1972، حاول عزراباوند أن يكون أيضا "الشاعر ‏الكامل". وقد سعى من خلال هذه "الأناشيد" أن يغوص في التاريخ لفك رموزه، ورموز اللغة والأزمنة.

ولأنه كان ‏يرى أن كل أزمة لغوية فإن "الأناشيد" بدت كما لو أنها تهدف بالأساس إلى بعث اللغة من ركام الحاضر وفوضاه ‏المستفحلة يوما بعد يوم لكي يولد الانسان من جديد وقد تملك لغة سليمة تتيح له اكتساب رؤية واضحة للعالم ‏وللأشياء والزمن.

إن الشعر عند عزراباوند هو في نفس الوقت علاج وبحث عن القيم المتعلقة بالأخلاق والدين وعلم ‏الجمال: "كما في الطلب، هناك فن لتشخيص الأمراض، وللمعالجة، فإن هناك أيضا في مجال الفنون، فنون الشعر ‏والآداب بصفة عامة، فنا لتشخيص الأمراض وللمعالجة، ونحن نسمي الأول عبادة البشاعة. أما الثاني فنسميه عبادة ‏الجمال".‏

إن هدف باوند الأساسي من خلال "الأناشيد" هو اذن البحث عن السبل الكفيلة لانقاذ اللغة من التلوث والذبول ذلك أن ‏موت اللغة هو في آخر المطاف موت الانسان ذاته.

وإذا ما كان هناك جنون للشاعر فانه يكمن في الجهد الهائل الذي ‏عليه أن يبذله قصد أن يستخرج من الشعر، كما تستخرج النار من حجر الصوان، القدرة على تغيير مسار التاريخ ‏المتجه إلى الكارثة الوشيكة الوقوع. لذا بامكاننا أن نقول أن العمل الفني هو وحدة القادر على انقاذ الانسان من عالم ‏‏"مغلق ومتحجر".‏

لا تبدو رؤية باوند هذه للشعر وللغة مختلفة مع رؤية أدونيس" بل نحن نقدر أن نؤكد أنهما منسجمتان انسجاما ‏رائعا. ومنذ مطلع "الكتاب" لا يفوتنا أن نتبين أن أدونيس يطمح أن يقوم بعملية تشخيص الأمراض التي أصابت ‏الحضارة واللغة العربية تماما مثلما فعل باوند في "الأناشيد" بالنسبة للحضارة الغربية واللغة الانجليزية.‏

لذا هو يكشف لنا أنه "يعرف كيف يوغل في فجر تاريخنا ويضيء تقاويمه" "صفحة 21". ثم يعلن أنه سوف يخرج ‏من "هذه الذاكرة من مداراتها – ودواليبها الدائرة" ليتفيأ أسلافه الآخرين "الذين يضيئون أعلى وابعد من ظلمة القتل ‏‏– من حماة القاتلين" "صفحة 37".

وبعد أن يقوم بالتشخيص ويدرك أن "التاريخ سيف على عنق وربّ ساهر يرحم" ‏وأن ثالوث المكان هو "السجن والقتل والصلب" وأن "أرضنا لغة في الأثر لا يترجم أسرارها غير البشر"، وأن ‏‏"الزفير استطال، تحوّل، صار الطريق" يدرك ان الخلاص الحقيقي لن يتم إلا عبر "الهجوم على الغيب" وعلى "ما لا ‏يراه الكلام، ومالا يطيق".

لذا يتحتم على الشاعر أن يهب نفسه لـ"الجموح لكل رفض" وأن يخرق "هذه اللغة ‏الأمينة للأصول، ويرجّ قاعدة الأصول". لكأن أدونيس يرغب أن يجرنا خارج "الفضاء" الذي اعتدناه ليقول لنا أن ‏‏"الشفاء" الذي تتمناه ونصبوا إليه ليس في ما نسمع من مناقشات بيزنطية حول الدين والدولة، أو حول قصيدة ‏التفعيلة وقصيدة النثر، أو الشرق والغرب، أو المثقف والسلطة، أو التراث والهوية، وإنما في اعادة النظر جملة ‏وتفصيلا في ذواتنا وأدواتنا ورؤانا.

إننا أمام تاريخ معطل منذ عهود طويلة، ولغة متآكلة، عبث بها الطغاة والعساكر ‏والأحزاب والارهابيون من كل حدب وصوب حتى أضحت عاجزة عن قول شيء مفيد، مقنع وواضح. وفي وضع بات ‏على هذه الصورة البشعة، لا خلاص لنا إلا عبر بعث لغة جديدة من وسط ركام هذا الحاضر المقيت وفوضاه، تكسبنا ‏القدرة على ربط علاقة سليمة بأنفسنا وبالعالم، وتتيح لنا القيام بعملية "التطهير" الحقيقية لتاريخنا وأصولنا ‏ومناهجنا ورؤانا.

صحيح أن الشاعر يكابد مشاقا مضنية لكي "يتحمل أعباء" أرضه و"أحلامها والهموم" وصحيح ‏أنه لا "يتقدم" بل يمشي كأنه في "القيد يمشي" غير أن مهمته الأساسية هي أن "يغسل الأبجدية من لغة مظلمة ‏تترسّب فيها، وتطفو عليها هذه الكرة المتخمة".‏

في هذا الجزء الأول من "الكتاب" يروي أدونيس إلى جانب حقبة هامة من حياة أبي الطيب المتنبي، فترة طويلة من ‏التاريخ العربي الاسلامي تمسح المرحلة التأسيسية الأولى للدولة الاسلامية، وأيضا الخلافة الأموية والعباسية.

غير ‏أن المتنبي ليس الصوت الوحيد الحاضر، بل هناك عدة أصوات أخرى تتجاوب معه وتتفاعل. هناك صوت الراوية، ‏وهناك أصوات شعراء عديدين بينهم امرؤ القيس وطرفة بن العبد وعروة بن الورد والشنفرى والنابغة الذبياني.‏

ومع ذلك يجوز لنا القول أن أدونيس استعمل المتنبي والراوية وكل الشعراء الآخرين مجتمعين "أقنعة" تماما مثلما ‏فعل من قبل مع عبد الرحمان الداخل ومهيار الدمشقي، لكي يعبّر شعريا عن جملة من الرؤى والأفكار بخصوص ‏العديد من القضايا والمسائل المتصلة بمجالات متنوعة "الدين، التاريخ، الشعر، اللغة، الذات والحضارة العربية.." ثم ‏لا تلبث هذه الفرضية أن تتحول إلى حقيقة واضحة ملموسة حين يقول أدونيس: "يقول كل شيء عن الهو بلسان ‏الأنا عن الأنا بلسان الهو".

لكن لم اختار أدونيس المتنبي شخصية أساسية في "الكتاب"؟
سؤال مشروع خصوصا بالنسبة للمهتمين بعالم أدونيس الشعري الذين يعرفون جيدا أن صاحب "أغاني مهيار ‏الدمشقي" كان ولا يزال يبدي ميلا خاصا لابي العلاء المعري وأبي تمام. الأول لأنه حاول أن يوفّق بين الفلسفة ‏والشعر. وهذا مطمح عزيز على نفس أدونيس. والثاني لأنه مثله مغامر كبير في مجال الشعر وكلاهما "تسيّر شعره ‏ارادة حادة أو يحكمه تصميم آسر".‏

الشيء المؤكد هو أن أدونيس، وهو يعدّ في ذهنه فكرة "الكتاب" توصل إلى قناعة لا تقبل الرفض ولا الاقصاء وهي ‏أن أبا الطيب المتنبي هو الشاعر التراجيدي بامتياز الذي يتجسد من خلاله مصير الشاعر العربي الذي يعيش ‏الملاحقات والتهميش والغربة والسجن والاهانات قبل أن ينتهي مقتولا في الصحراء، وحيدا ودونما سند.‏

ورغم هذا علينا أن نعترف أن قيمة أبي الطيب المتنبي الحقيقية هذه لم تكن غائبة عن ذهن أدونيس لما أصدر ‏‏"ديوان الشعر العربي" قبل نحو أربعين عاما. ففي مقدمة الجزء الثاني من هذا الديوان، كتب أدونيس يقول: "إن ‏شعره – أي المتنبي – كتاب في عظمة الشخص الانسانية، يسيّره جدل اللانهاية والمحدودية: الطموح الذي لا يعرف ‏غاية ينتهي عندها، والعالم الهرم الذي لا يقدر أن يتحرك ويساير هذا الطموح.

بل إن المتنبي يريد من الزمن مالا ‏يستطيع الزمن أن يبلغه. شعره وهو يتجهان صعدا، في آفاق العظمة دون أن يبلغا عظمة أخيره يرتاحان إليها ويقفان ‏عندها. هكذا تبقى الحياة، بالنسبة إليه، مشروعا دائما". ثم يضيف أدونيس قائلا: "انسان المتنبي موجة لا شاطئ ‏لها – دائما على حركة. إنه أول شاعر عربي يكسر طوق الاكتفاء والقناعة، ويحوّل المحدودية إلى أفق لا يحد شعر ‏للحركة للحرارة للطموح للتجاوز.

إنه جمرة الثورة في شعرنا جمرة تتوهج بلا انطفاء إنه طوفان بشري من هدير ‏الأعماق والموت هو أول شيء يموت في هذا الطوفان".‏

وقد يكون أدونيس قد اكتشف أيضا بعد أن ذاق مرارة الغربة والمنافي، واكتوى بلهب الخيانات أكثر من مرة، وواجه ‏أعداء متمرسين بالحسد والحقد حد أنهم لا يتحملون رؤية زهرة تتفتح، أو سماع عصفور يغني، إن الشاعر الأقرب ‏إلى نفسه في الطموح وفي المصير هو أبو الطيب المتنبي.

لذا هو لا يتردد في "الكتاب" في اعتبار نفسه "الوريث ‏الشرعي" له: "للمتنبي ذاكرة – لهب يتغلغل في التاريخ، وجرح يتدفق في جرح، وأنا قبس منه" "صفحة 26". بل ‏ويشعرنا أدونيس في مقطع جميل أنه عاش طفولة شبيهة بطفولة أبي الطيب. فهو مثله كان يجمّع الدفاتر كي يتخبأ ‏فيها" ومثله كان يحفظ عن ظهر قلب "كل ما قاله الأولون"، و"يكتب الشعر، قبل الأوان، صغيرا وهو في سن ‏العاشرة" "صفحة 27".

وفي موضع آخر، يلمّح أدونيس إلى أنه عاش مصيرا شبيها بمصير أبي الطيبّ. فقد "خرج" ‏مثله من أرضه "كان أدونيس سوريا ثم أصبح لبنانيا"، و"من نفسه" "كان يدعى علي أحمد سعيد ثم أصبح أدونيس".‏

كما يلمّح أيضا إلى أنه، شاعرا، يتميّز بخصائص ومواصفات تكاد تكون هي نفسها تلك التي اختصّ بها المتنبي:‏
الكلام الذي يتفجر مني – أنا شكّه،‏
وأنا نفيه،
كل ما قلته لم أقله
والذي سأقول اختلاف
ويشبه لي أن نفسي تجتاحني كل يوم – فلماذا‏
يقال: أضلّ سواي وأهدي سواي،
وأنا ساكن هواي، ولا بيت إلا خطاي؟
‏"صفحة 145"‏

وبقطع النظر عن المتنبي، وعن بقية الشعراء الحاضرين في "الكتاب" يمكن القول إن اللجوء إلى التراث ركن ‏أساسي وجوهري في عالم أدونيس الشعري. حتى في أشد حالات التجديد الشعري تطرفا وخروجا عن المألوف، ظل ‏أدونيس مرتبطا ارتباطا وثيقا بالتراث، مستلهما منه أو ناقدا له متحاورا أو متخاصما معه.

والذين لم يفهموا أن ‏التجديد عند أدونيس يقوم على ركنين أساسيين لا مفاضلة بينهما التراث والتجارب الريادية في الشعر العالمي ‏المعاصر، ظلوا طريقهم وجاءت قصائدهم "الحديثة" خاوية، سطحية، مبتذلة، ركيكة اللغة والبناء، بل مضحكة غالب ‏الأحيان.‏

كيف تجسّدت هذه العودة إلى التراث في "الكتاب"؟ الاجابة على هذا السؤال كافية في ثنايا "الكتاب" الذي يمكن أن ‏نستخلص منه ما يلي:‏
‏1- ان الخاصية الأساسية للأعمال الكلاسيكية هي أنها تظل مؤثرة وفاعلة وحاضرة في الذاكرة الجماعية، أو ‏الفردية. لذا كل قراءة لعمل من هذه الأعمال تبدو كما لو أنها الأولى من نوعها.‏

وخلال قراءتنا لـ"الكتاب" نحن نشعر كما أننا نكتشف المتنبي وبقية الشعراء لأول مرة. نعم، نحن نعرفهم جيدا، ‏والبعض منا يحفظ اشعارهم عن ظهر قلب، غير أنهم يتبدّون لنا من خلال "الكتاب" في صورة لم نألفها من قبل أبدا.‏

‏2- إن المبدعين الكلاسيكيين الكبار يلوحون لنا وكما لو أنهم لن ينتهوا البتة من قول ما يريدون قوله. ونحن ‏باستطاعتنا أن نقف على هذه الحقيقة في "الكتاب" ذلك أن المتنبي وبقية الشعراء الحاضرين فيه، يبرزون أمامنا ‏وكما لو أنهم يواصلون حديثا لن يقطع أبدا.‏

‏3- لكي نقرأ المبدعين الكلاسيكيين الكبار علينا أن نعرف كيف ومتى نقرؤهم، والا فإن قراءتنا لهم تفقد جدواها. ‏واذن وجب علينا أن نربط قراءتنا لهم بالواقع الذي نعيشه حتى ولو كان هذا الواقع، حاويا، مسطحا، ثقيلا. وهذا ‏بالضبط ما فعله أدونيس في "الكتاب" إذ أنه جعلنا ننظر إلى حاضرنا من خلال ماض لا يزال حاضرا فينا، وجاثما ‏علينا بكل ثقله واستطاع أن يستخرج من أعمال المتنبي والشعراء الآخرين ما يمكن أن يضيء لنا الطريق، ويساعدنا ‏على فهم واقعنا الراهن: "تحت فيء تباريحه يتعهّد ميراثه – غاضبا، حانيا ويتابع ترحاله".‏
‏‏
لأن أدونيس شاعر "عصر الشدة" كما هو حال المتنبي والمعري ودانتي وهولدرلين وعزرا باوند، فإنه لا يخفي علينا ‏أن شعره "دعوة للهبوط إلى الجحيم" ذلك أن تشخيص الداء الذي ينخرنا منذ تدمير بغداد من قبل المغول، ويفرض ‏علينا أن نكون مجرد نفايات على قارعة التاريخ لن يتم إلا إذا مالامست أقدامنا الهاوية وتجرعنا ما تبقى من كأس ‏المرارة.

ولقد أراد أدونيس من خلال "الكتاب" أن يصل واقعنا الآسن المريض بالمستحيل "كي ينقذه من التعفن ‏وينفخ فيه الروح اللينة، المرنة المطاولة، المطاوعة التي تجعل منه مهد المستقبل". لذا نحن لا نتردد في القول بأن ‏‏"الكتاب" هو اكمل ما أبدع أدونيس حتى هذه الساعة وأروع ما أنتجته العبقرية الشعرية العربية خلال هذا العصر.‏

___________

المصادر:‏
‏1- أدونيس: ديوان الشعر العربي – الجزء الثاني – منشورات المكتبة العصرية – بيروت – صيدا – خريف 1964‏
‏2- هايدجر: متاهات – ‏GALLIMARD – PARIS 1980‎
‏3- مالارميه: ‏CORRESPONDANCE – FOLI‎خ‎ – PARIS 1995‎
‏4- ‏DICTIONNAIRE DES LITTERATURES. LA ROUSSE – PARIS – 1990‎
‏5- ‏ITALO CALVINO – POURQUOI LIRE LES CLASSIQUES?‎
SEUIL – PARIS -1993‎

حسونة المصباحي

المصدر: العرب أون لاين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...