مخيلة دموية للرواية العراقية

06-11-2006

مخيلة دموية للرواية العراقية

الكاتب العراقي المقيم في السويد جنان جاسم حلاوي، يتوغل كل مرّة في وقائع الحياة المرة لبلده العراق بكيفيات فنية تجعل الرواية صورة أخرى لذلك العالم الواقعي بكل ما ينضح منه من قسوة تكاد تكون استثنائية في زماننا الراهن. انه يراهن على لون خاص به من الرواية الواقعية، تذهب فيه الكتابة إلى محاورة الوقائع السياسية بل واليومية من أتون الألم الذي يعصف بالناس العاديين والبسطاء والذين يصعد بهم الكاتب ليمنحهم دور البطولة في رواياته، هم الذين أطاحت الديكتاتورية بأدوارهم في الواقع، وحوّلتهم مجموعات متلاحقة من أدوات الحروب وضحاياها، أو قذفتهم بقسوة نادرة إلى المقابر الجماعية تحت سمع العالم المتمدن وبصره.

جنان جاسم حلاوي في هذا المعنى لا يكتب رواية سياسية بقدر ما يكتب رواية حياة. وليست خطيئته أنها حياة تتحكم في يومياتها السياسة وتحوّل شخوصها بشراً يطحنهم العذاب ويحيلهم أشباه أشباح .

روايته السابقة «دروب وغبار» التي صدرت العام 2003 كانت رصداً إنسانياً بالغ الشفافية لرحلة رجل يهيم في البراري هرباً من وطن حوّلته الديكتاتورية جحيماً لا يطاق. «دروب وغبار»، نشيد فيه الكثير من الوقائع الجارحة بقدر ما فيه أيضاً من الأمل حيث يثابر الإنسان على البقاء حياً، حين يكون البقاء على قيد الحياة بطولة في ذاته.

«أماكن حارة» رواية حلاوي الجديدة (دار الآداب، بيروت، 2006)، تذهب وقائعها في اتجاه آخر. إنها قراءة درامية لأحداث قرن من التاريخ العراقي الحديث، وتحديداً من مطلع القرن الفائت، حيث ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني وحتى أيامنا الراهنة.

في «أماكن حرة»، يختار الكاتب مدينة «البصرة» العراقية الجنوبية مسرحاً لأحداث ووقائع روايته. انه اختيار له دلالة وصدقية واقعية كبرى. فهذه المدينة صاحبة التاريخ الحضاري الكبير والغني، هي أيضاً مسرح المقاومة الشعبية العراقية ضد الاحتلال البريطاني. وهي أيضاً موطن المجموعات الشعبية العراقية الأشد فقراً والأكثر تعرضاً للاضطهاد على أيدي الحكومات العراقية المتعاقبة قبل الاستقلال وبعده، بل هي مسرح الجرائم الكبرى لنظام الدكتاتورية الأشد قسوة التي جسّدها النظام السابق. إنها رواية تستعيد الوقائع السياسية الحقيقية، ولكن من خلال السير الشخصية لمجموعة من الأبطال الذين يمثّلون شرائح اجتماعية متعدّدة ويحملون وعياً متبايناً.

تقوم بنائية «أماكن حارّة» على تتبّع سير حياة أجيال متعاقبة من العراقيين الذين يأتي بعضهم من مدينة السليمانية الكردية الواقعة في أقصى شمال العراق، كما هي حال مصطفى، الكردي الذي يتحمس للقتال ضد الانكليز، لكنه ينهزم بسرعة هو وحلفاؤه الأتراك ويقع فريسة الأسر والنفي على يد المحتلين الجدد ليدفع من حياته وحريته سنوات عجافاً يمضيها في الهند، قبل أن يعود من جديد إلى عاصمة الجنوب العراقي ويبدأ حياته من الصفر. الشخصيات في تنوعها الاثني، تشير بمعنى ما إلى التنوع في بنية المجتمع العراقي ذاته. هنا يدمج جنان جاسم حلاوي بين تاريخين، الأول درامي يجسد دور الرواية والثاني حقيقي يتتبّع من خلاله تاريخ نشوء أو تطور الحركات الفكرية والسياسية الأساسية التي كان لها الدور الأبرز في كل الوقائع التي جرت بعد ذلك التي شكّلت محطات سياسية بالغة الأهمية في حياة البلاد وناسها، وطبعت تاريخ العراق بما هو معروف من صراعات دموية راح ضحيتها الملايين من الناس. مثلما هي حال نشوء أو سيرورة الحزب الشيوعي وحزب البعث وما نشأ بين الحزبين النقيضين من صراعات تجسدت في المذابح المتبادلة على مدار السنين، وبالذات منذ انقلاب الرابع عشر من تموز (يوليو) عام 1958 الذي أسقط الملكية وشهدت ساعاته الأولى ذبح العائلة المالكة كلها، ثم الحادثة الأشد ترويعاً ودموية، حادثة سحل رئيس الوزراء نوري السعيد والوصي على العرش الأمير عبدالإله، وهي الأحداث التي افتتحت باب الدم والتذابح الذي بلغ الذروة مع نظام صدام حسين.

هذا التاريخ المغمّس بالدم ومشاهد القتل تستعيده «أماكن حارة» من خلال ربطه درامياً بمصائر أبطال، برع الكاتب في رسم ملامحهم واستقصاء أفكارهم وما يجول في نفوسهم من هواجس هي في النهاية رؤيتهم الى العالم والحياة وصور أحلامهم للعراق الذي يريدون. إنها في معنى آخر رواية تدمج التاريخ بالمخيلة، وأيضاً بالفكر الذي نراه جزءاً أساساً في تكوين ملامح الشخصيات التي تميزها وتعطيها خصوصياتها. هنا نقف أمام لوحات شديدة التعبير تتشكل من فسيفساء اللوحة الكبرى لعراق الأهوال والذبح، وأيضاً للكيفيات القمعية الدامية التي مارستها سلطة البعث لإعادة تشكيل المجتمع العراقي من جديد، بالحديد والنار، كي يتكيف مع طموحات أو أحلام حفنة من الطغاة. وتطلّبت هذه العملية مذابح راحت تكبر مثل كرة الثلج لتصل بالجميع وطناً ومواطنين إلى الهاوية التاريخية التي نعرفها ونعيشها هذه الأيام. في الرواية عمل فني، بارع وأنيق على تصوير العلاقات الإنسانية وتقديمها في أشكال وإطارات حيوية، كان لها إسهامها المهم في منح السردية الروائية حقيقية جعلت الأحداث والشخصيات قريبة من القارئ. فهو لا يحس إزاءها بغربة من أي نوع، بل يندمج في حياتها و «يصدقها»، بذلك المعنى الذي يشتمل على صدقية الدراما وصدقية الفكر معاً. إنها شخصيات عراقية فكرياً، وإن تكن عراقية فنياً أيضاً، أي أنها نجحت في إقناعنا بقوة حضورها وبجدارتها في تمثيل تلك الحقب الزمنية، خصوصاً حين قدّمت الرواية المحطات الدامية الكبرى كحادثة سحل نوري السعيد... ونجح الكاتب في دمج الحادثة بما هو متخيل من بنائية درامية، ثم بعد ذلك في استقصاء ملامح صورة البعث من دون الغرق في الايديولوجيا أو السقوط في الدعائية الفجة كما فعل كثيرون، جرّبوا ملامسة هذا الحيز الشديد الواقعية من تاريخ وطنهم. لعل هذه المسألة تحديداً تشكل جوهر جهد جنان جاسم حلاوي الفني والفكري على السواء، بحيث نراه يقبض على «سلطة» الفن باعتبارها المرجعية الأهم لإدارة ذلك التاريخ. وهو يدرك بوعي وبصيرة الكاتب الموهوب الفوارق المهمة بين حيز الفن وحيز التاريخ والواقع، فينجح في دمجهما معاً من دون أن تطغى ملامح واحدهما على الآخر.

رواية جنان جاسم حلاوي «أماكن حارة»، هي أيضاً رواية مكان بامتياز، حيث يجسّد المكان بملامحه كما بتاريخه وصوره المتعددة عبر المراحل الزمنية المختلفة، ركناً مهماً من بنائية الرواية، يدلّّ القارئ الى المناخ الاجتماعي وربما النفسي للرجال والنساء الذين تزدحم بهم الرواية والذين يعبرون ببساطة بالغة عن وعيهم وعن تكوينهم الاجتماعي والإنساني. وهذه نقطة لافتة في الرواية العراقية بعد جيل غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي. ولا نبالغ حين نقول إن جنان جاسم حلاوي وشاكر الأنباري هما خير من يمثّلها في هذه الأيام. ويلفت الانتباه هنا جماليات الإحاطة بأجواء العلاقات الإنسانية الخاصة وبالذات عوالم النساء وأيضاً علاقات الثأر وكل ما يجسّد ذهنية القطاعات الأكثر فقراً في المجتمع.

يضيف جنان جاسم حلاوي من خلال روايته «أماكن حرّة» جهداً فنياً جميلاً فيه الكثير من الحيوية، يفتح الباب لرواية عربية تعيد النظر من جديد في مفهوم الأدب الواقعي خصوصاً في الرواية، الجنس الأكثر رواجاً هذه الأيام.

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...