زكريا تامر : إني أغرق

10-12-2006

زكريا تامر : إني أغرق

هاجر أحد الرجال وأسرته إلى بلد أجنبي,وعاش فيه زهاء ثلاثين سنة, وفي أحد الأيام كان الرجل المهاجر الذي صار عجوزاً يصغي وابنه الشاب إلى صوت المغني المنبعث من المذياع يردد :( إني أتنفس تحت الماء.. إني أغرق .. أغرق..).‏‏
فسأل الأب ابنه بصوت معلم يمتحن تلاميذه الكسالى :( من المغني? ).‏‏ فأجاب الابن فوراً بلغته العربية الركيكة:( عبد الهليم هدام ).‏‏
فابتسم الأب العجوز ساخراً من خطأ ابنه الذي لا يفرق بين الوحل والورد, وتابع إصغاءه إلى الأغنية, وتمتع بها أكثر مما كان يتمتع بها من قبل, وتخيل غريقاً ينتقل من الغرق في بحر إلى الغرق في مستنقع, ويتباهى بميتته.‏‏
شرطي يمتحن مواطناً‏‏

الشرطي :( من سمح لك بأن تمشي في الشوارع حزيناً؟).‏‏

المواطن :( كيف لا أحزن والشعوب الأخرى محرومة من المباهج اليومية التي أتمتع بها؟ ).‏‏

الشرطي :( ولماذا وجهك أصفر؟ أأنت مريض أم خائف أم جائع؟ ).‏‏

المواطن :( وجهي غريب الأطوار يسبب لي الحرج والخجل لأنه يصفر كلما نضج الليمون ).‏‏

الشرطي :( ولماذا تمشي محني الرأس والظهر مع أنك لست متقدماً في السن? ).‏‏

المواطن :( لأني أعتقد أنه من المكروه أن أمشي مختالاً كالطواويس وأقفز كالقرود.‏‏

الشرطي :( ولماذا تحرص دائماً على المشي على الرصيف الأيسر? ).‏‏

المواطن :( لأن بيوت المسؤولين على الرصيف الأيمن, ويستحسن ألا أقلق حراسها.‏‏

الشرطي :( وماذا تحمل بيدك اليمنى?).‏‏

المواطن :( جرائد .. كلها حكومية ).‏‏

الشرطي :( كأنك ممن يهملون صحتهم ويتناسون أن القراءة تنهك العيون? ).‏‏

المواطن :( ماذا أفعل?! كل شيء صعب يهون إذا كان سيوفر لي فرصة الاستفادة من تصريحات المسؤولين ).‏‏

الشرطي :( ولماذا تنظر إلى السماء بين الحين والآخر? ).‏‏

المواطن :( حتى لا يباغتني المطر ) .‏‏

الشرطي :( مطر وفي هذا الصيف الحارق? ).‏‏

المواطن :( وزارة الزراعة تفعل ما لا يفعل ).‏‏

الشرطي :( ووزارة الداخلية? لماذا تنساها? ).‏‏

المواطن :( لا أنساها وأتمنى أن تنساني ).‏‏

الشرطي :( إلى أين أنت ذاهب? ).‏‏

المواطن :( إلى بيتي ).‏‏

الشرطي :( ومن قال لك إنك ستذهب إلى بيتك? هناك أسئلة لا تسأل في الشارع, وستجيب عنها في مكان آخر. مجرد أسئلة بسيطة عن أبيك المتوفي وأمك العاجزة وأخوتك وجيرانك وأقاربك وأصدقائك وزملائك في العمل, ولكن أهم سؤال سيكون عن السبب الغريب السري الذي جعل أمك تنجب الصبيان ولا تنجب البنات ).‏‏

( بعد أيام يلتقي الشرطي بالمواطن نفسه وقد تبدلت أحواله )‏‏

الشرطي :( لماذا تبتسم فرحاً؟ ).‏‏

المواطن :( لأني سأمثل في فيلم سينمائي جديد من بطولة فيفي عبده وشريهان وعادل امام ودريد لحام ).‏‏

الشرطي :( أأنت ممثل? ).‏‏

المواطن :( كل عربي يولد ممثلاً, ولو لم يكن ممثلاً قديراً لما بقي في قيد الحياة).‏‏

الشرطي :( ولماذا يدك تلمس رأسك باستمرار? ).‏‏

المواطن :( حتى أتأكد من أن رأسي لا يزال موجوداً, فهناك رجال يفقدون رؤوسهم ويظنون أنهم لم يفقدوا شيئاً, ويتباهون برؤوسهم وبما فيها من أفكار صائبة ).‏‏

الشرطي :( أأنت متزوج? ).‏‏

المواطن :( الزواج ترف لا نحتاج إليه حالياً ).‏‏

الشرطي :( ما رأيك في هذه الجريدة الخضراء الصفراء التي تتأبطها? ).‏‏

المواطن :( كثيرة الفوائد, وأهم فائدة هو أني أستخدمها لطرد الذباب عن وجهي.‏‏

الشرطي :( من هو الكاتب الذي تعجب بكتاباته? ).‏‏

المواطن :( الكاتب الذي يكتب الإعلانات ).‏‏

الشرطي :( ما رأيك في الوجود الأميركي في العراق? ).‏‏

المواطن :( أعطى الكتاب قدرة جديدة على التعبير عن آرائهم, فإذا أرادوا وصف شخص متعجرف يهان قالوا عنه إنه كأميركي في العراق ).‏‏

الشرطي :( وما رأيك في الأحوال اللبنانية? ).‏‏

المواطن :( لا أستطيع الإجابة لأني لم أسمع السؤال, فأذناي مريضتان, وثمة أسئلة لا تبلغ سمعي مهما كان الصوت عالياً ).‏‏

الشرطي :( ماذا تفعل في هذا الشارع? ).‏‏

المواطن :( أمشي برأس مرفوع حتى تصورني الأقمار الصناعية في أوضاع تغيظ كل عدو ).‏‏

الشرطي :( وأين كنت قبل أن تأتي إلى هذا الشارع? ).‏‏

المواطن :( في اجتماع مؤيد للحكومة).‏‏

الشرطي :( وإلى أين أنت ذاهب الآن?).‏‏

المواطن :( إلى اجتماع معارض لمعارضي الحكومة ).‏‏

الشرطي :( هل لديك مشكلة في حياتك تسبب لك الإزعاج? ).‏‏

المواطن :( لا يزعجني سوى الموت الذي يختطف رجال الأدب والفن وينسى رجال السياسة.‏‏

جرائم غير معلنة‏‏

كتب أحد الكتاب كلمة قصيرة مفعمة بالأسى الباكي يعتذر فيها لقرائه الأفاضل بسبب عدم استطاعته الكتابة لهم كل أسبوع كما هي عادته.‏‏
ولم يعلم ذلك الكاتب ما جرى في العالم رداً على توقفه عن الكتابة:‏‏
انقض البرد القارس على الناس الذين لم يجدوا كلمات قادرة على منحهم الدفء والحرارة بعد إحراقها بدلاً من الحطب.‏‏ أضرب التلامذة عن تعلم القراءة, فما جدواها إذا كان لا وجود لما يغري بالقراءة?!‏‏
حدثت زلازل في عدة مناطق من العالم احتجاجاً على حرمانها من إبداع كاتبها المفضل الذي كان ما يكتبه يجعل الأرض متماسكة صلبة لا تتأثر بأي زلزال.‏‏ امتنع الدجاج عن إنتاج البيض مللاً من حياة تخلو من البهجة, فصار البيض أغلى سعراً من النفط.‏‏
أشرقت الشمس بوهن وتكاسل إذ لم يعد لديها ما يحضها على الشروق كل صباح, وباتت تشرق كأنها تغرب, وانتشرت حول سلوكها شائعات مفادها أنها وافقت على توقيع معاهدة صلح مع عدوها الثلج.‏‏

صالت القوات الأميركية وجالت في أرجاء الأرض من دون أن تخشى أحداً, فالفأر يحق له أن يلعب ويلهو ويعبث إذا غاب القط.‏‏ كفت العصافير عن التغريد,وأنفقت كل ما تملك لشراء مناديل ورقية تكفي لمسح دموعها.‏‏ منحت الجوائز التكريمية لمن هب ودب من الكتاب, وكل مال لا يحرس جيداً يغري الشرفاء بالتحول إلى لصوص.‏‏
ازدحمت المحاكم الشرعية بالراغبين في الطلاق العاجل, فالأزواج غاضبون دائماً والزوجات ثائرات حانقات مستاءات, ولكن ما حلّ بالحياة الزوجية ليس بالأمر غير الطبيعي, فالعشب لا ينمو بغير ماء غزير.‏‏

حزنت الغربان حزناً جعلها تهجر لونها الأبيض, وترتدي ثياب الحداد إلى الأبد, فإذا كانت البلابل لها كتابها, فالغربان أيضاً لها كتاب تأبى الإعجاب بغيرهم.‏‏
أقدم الليل على نقض الاتفاق الذي سبق أن أبرمه مع النهار, فإذا الليل طويل والنهار قصير.‏‏
وليس من الخطأ الزعم أن ذلك الكاتب هو وحده المسؤول عما جرى في العالم من اضطراب, فلو لم يتوقف عن الكتابة لما حدث ما حدث,وكثيرة هي الجرائم النكراء التي ترتكب بنية حسنة وبغير تخطيط مسبق.‏‏

 

المصدر: الثورة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...