المسيحية ما لها وما عليها

03-12-2006

المسيحية ما لها وما عليها

أمامنا كتاب يشبهنا نحن مسيحيي الشرق الاوسط، أكان في طريقة اعداده وتقديمه او اسلوب تنقيحه وتحقيقه وتوضيبه. وتاليا كان علينا اثناء جمع مقالاته وكتابة بعضها ان نراعي مشاعر العائلات الكنسية المختلفة في المشرق، وهموم الكنائس المحلية والبطريركيات وهواجس المناطق الجغرافية المعينة وحساسيات كل منطقة وكنيسة تجاه الاخرى. وحاولنا ان نوفق بين هذه جميعها.
اللجنة العلمية للكتاب باللغة العربية ضمت بحاثة ومفكرين ممثلين للعائلات الكنسية الاربع التي تؤلف مجلس كنائس الشرق الاوسط، وهي الانجيلية والارثوذكسية والارثوذكسية الشرقية (اي الارمن والسريان والاقباط) والكاثوليكية (بتراثاتها الكنسية السبعة، اي الموارنة، ثم الروم – والارمن – والسريان – والاقباط الكاثوليك، وكذلك الكلدان واللاتين). والكتاب يغطي تاريخ هذه الكنائس والتقاليد والتراثات المشرقية كلها. وغلافه، يعبر عن هذا الغنى والتنوع في المسيحية الشرقية. فنرى جنبا الى جنب المخطوطات العربية والقبطية والسريانية واليونانية والارمنية.
ولا يسعني في هذا السياق الا ان اذكر الآنسة عفاف ديب قنديس، المسؤولة سابقا عن برنامج الدراسات والابحاث في مجلس كنائس الشرق الاوسط. وهي مديرة مشروع الكتاب ومقررة لجنته العلمية، والحق يقال انه لولاها لما رأى الكتاب النور – لا بالعربية ولا بالانكليزية – لها منا جميعا كل تقدير وشكر ومحبة.
كتاب "المسيحية عبر تاريخها في المشرق" صدر باللغة العربية عام 2001 بعد جهاد دام نحو ست سنوات. لكن مشروع ترجمة الكتاب للانكليزية كان عملاً شاقاً واكثر تعقيداً مما توقعنا. الصعوبة الاساسية لم تكن في الترجمة من العربية والفرنسية الى الانكليزية بحد ذاتها بقدر ما كانت اعادة ترجمة الاقتباسات والمراجع (اي الكتب والمقالات) التي كانت اصلا بالانكليزية او لغة اجنبية اخرى، وترجمت الى العربية بتصرف حسب رأي كاتب المقال. كان علينا التفتيش عن كل من هذه الاقتباسات للتأكد من النص الاساسي الذي استعمله الكاتب والعودة الى المؤلفين للسؤال والتأكيد حول صحة النص. ولكن البعض منهم لم يكن دقيقا بما فيه الكفاية في اقتباساته، وآخرين لم يتذكروا كل المراجع التي استعملوها ومن اين أتت، وغير ذلك من صعوبات مماثلة. لذلك اود الاعتراف بأن الطبعة الانكليزية من الكتاب قد لا ترضي الباحث العلمي الاكاديمي كما يجب، (او اقله لا ترضيني انا شخصيا مئة في المئة).
ومع هذا كله، فان ترجمة الكتاب الى الانكليزية كانت ضرورية جدا واحداث الحادي عشر من ايلول وتداعياتها التي ما زلنا نشهدها حتى اللحظة جعلتها ملحة للغاية. لقد اصبح الشرق الاوسط محط انظار الدنيا. وصورة الشرق الاوسط كمصدر ومصدّر للارهاب طغت على كل المظاهر والصور الاخرى. وضاع المراقب الغربي للأحداث في غمرة من التشابكات التاريخية والفكرية والسياسية والايديولوجية التي شوهت صورة الشرق. فكان لا بد من تقديم هذا الكتاب للقارىء باللغة الأكثر رواجا في الغرب الا وهي الانكليزية.
بتصورنا ان هذا الكتاب، بطبعته الاصلية باللغة العربية، وترجمته الحديثة للانكليزية (سنة 2005)، يسد حاجات ثلاثاً - أكان في مجتمعنا العربي خصوصا او في المجتمع الغربي عامة، الاكاديمي الجامعي منه، والمسيحي الكنسي كذلك.
اولا، قبل كل شيء هو كتاب تاريخ بامتياز. فعدا عن انه يغطي تاريخ الكنائس الشرقية كلها، وجميع المراحل والحركات والاحداث التي عاشها المسيحيون في الشرق عبر الفي سنة، يجد القارىء مع كل مقال مراجع علمية بكل اللغات يمكنه العودة اليها لمزيد من التعمق والدراسة لا يوجد في المكتبة المسيحية العربية او الانكليزية كتاب بهذه الشمولية. ونحن كمسيحيين مشرقيين في حاجة ماسة الى كتاب كهذا اذ ان الفي سنة من الوجود المسيحي في الشرق لم تعد تهمّ غالبية الناس في الغرب اليوم، بل صارت شبه منسية. وقد اتت الشهادات الموجودة على غلاف النسخة العربية من الكتاب من الدكتور بطرس بطرس غالي (الامين العام السابق للأمم المتحدة) والاستاذ غسان تويني والسفير فؤاد الترك، وعلى غلاف النسخة الانكليزية من الكاثوليكوس ارام الاول (بصفته الارثوذكسية المشرقية وكونه كان رئيس اللجنة المركزية لمجلس الكنائس العالمي) ومن رئيس اساقفة كانتربري الحالي راون وليمز، ومن الكاردينال والتر كاسبر، رئيس المجمع الرسولي للوحدة المسيحية في الفاتيكان، لتثبت هذا الامر.
بل اقول اكثر من ذلك، فبحسب معرفتي، لا يوجد كتاب بهذا الحجم والمستوى في المكتبة المسيحية عامة، وسنسعى لترجمته الى الفرنسية والالمانية انشاء الله، وذلك بتشجيع من العالم الاكاديمي الدولي، اذ لبعض من اهم بحاثته مساهمة فريدة وجديدة تنشر للمرة الاولى، وقد كتبت خصيصا لهذا الكتاب وترجمت الى العربية.
لكن الاهم في الموضوع هو المساهمة الكبرى التي قدمها مؤلفون شرقيون وعلى رأسهم البابا شنوده الثالث، والبطريرك اغناطيوس الرابع هزيم، والكاثوليكوس آرام الاول الذين لهم مقالات علمية في مواضيع اختصاصهم، بالاضافة الى نخبة من البحاثة المشرقيين المتواجدين في المنطقة وفي الجامعات الكبرى في الغرب.
ثانيا: يشكل الكتاب ايضاً مرجعا ثمينا للمؤمنين المسيحيين، الإكليريكيين منهم والعلمانيين، في العالم العربي ككل وفي الغرب لقراء الانكليزية. فنحن كثيرا ما نسأل من القريب والبعيد عن تاريخنا وثقافتنا وأصلنا وفصلنا. ويأتي هذا الكتاب ليفي بالجواب على جميع هذه الاسئلة، وليكون مرجعا يركن اليه للتعرف على المسيحية المشرقية بكل جوانبها، السلبية منها والايجابية، المشرقة منها والمظلمة، وخصوصا تلك المتعلقة بالخلافات والانقسامات المسيحية – اللاهوتية منها والثقافية وحتى السياسية والاقتصادية.
كل ما لنا وما علينا مشروح في هذا الكتاب. وسيجد فيه القارىء العادي الكثير من الدروس والعبر استخلصت من قراءة واعية علمية وصريحة لماضينا وحاضرنا، وخاصة في ما يتعلق منه بموضوع الوحدة المسيحية في الشرق. فهذا الموضوع حساس جدا بين المسيحيين الشرقيين انفسهم، وهم الذين يتوقون الى وحدة الكنائس ووحدة المؤمنين، وكثيرا ما يتحمسون للوحدة المرجوة دون الاخذ بعين الاعتبار ما أدى الى الانقسام والتشرذم. في الكتاب شرح مسهب لكل القضايا اللاهوتية والتاريخية والسياسية التي قسمت الكنائس في القرون الماضية، كما فيه تطلعات واقعية لما يمكن تحقيقه من وحدة مستقبلية.
وهكذا قد نستشرف معا – من خلال قراءة معمقة للكتاب – مستقبلا أزهى يتعلم من اخطاء الماضي ويحاول تفاديها ويعزز كل ما في تاريخنا المسيحي من انجازات ومآثر ساهمت في صنع تاريخ مشرق لهذه البقعة من العالم وتركت رائحة عطرة يمكننا التحدث عنها براحة وفرح ورجاء.
ثالثا واخيرا (وليس آخرا)، يأتي هذا الكتاب، وخصوصا بعد ترجمته الى الانكليزية، في زمن دقيق يشتد فيه الحديث عن الصراع بين الحضارات، ليس أقله الصرع الحالي بين الغرب والشرق، والذي يأخذ أبعادا دينية – مسيحية / اسلامية – شئنا ام أبينا.
لا شك ان المسيحيين في هذا الشرق ليسوا جزءاً من المسيحية الغربية، وفي الوقت ذاته لا يمكن ان نختزلهم تحت غطاء حضاري واحد. فهم – منذ نشوئهم في المشرق – عاشوا في كنف حضارات متعددة (آشورية وسريانية وقبطية ويونانية وارمنية ولاتينية وعربية وعثمانية واوروبية) تفاعلوا معها فاغتنوا منها وأغنوها، والكتاب يتناولها كلها.
غير ان الحضارة العربية والديانة الاسلامية، دون أدنى شك، هما الابرز والاهم من بين الحضارات والاديان التي تفاعل معهما مسيحيو الشرق وما زالوا. ولا يمكنم التحدث عن مسيحي الشرق دون الاشارة الى السياق الاسلامي والعربي الذي يعيشون فيه ويتعاملون معه، أقله من القرن السابع وحتى يومنا هذا، وهذه حقيقة تاريخية بغاية الاهمية في الزمن الراهن حيث التاريخ الاسلامي الغني والحضارة العربية العريقة اختُزلتا بشحطة قلم وصار الاسلام مرتبطا بالعنف والدمار والشر في عيني القارىء العادي في الغرب. واهم من ذلك كله، فالتفاعل المسيحي الاسلامي الخلاق والعلاقات الايجابية المميزة بين الديانتين والحضارتين طُمِستا بفعل احداث الارهاب والتفجيرات والعنف التي طغت على الاخبار في السنين الست الاخيرة. نحو ستة عشر مقالا من الكتاب (من اصل سبعة واربعين) خصصت لمعالجة هذه الناحية من تاريخ المسيحية المشرقية.
كما ذكرت سابقا، كل ما لنا وما علينا معروض في هذا الكتاب فقد عاش المسيحيون والمسلمون في الشرق فترات صعبة ومؤلمة، كما اختبروا أزمنة خير وازدهار وسلام وتعاون وإلفة.
هناك الكثير من المقولات الفولكلورية المتداولة حول التعايش الاسلامي المسيحي يمكنكمم ان تتحرّوا اصلها وتاريخها من خلال الكتاب. وهناك الكثير من المخاوف والهواجس على الجبهتين، تناولها الكتاب بعمق وموضوعية علمية، ومنها مسألة اهل الذمة، والحروب الصليبية، ونظام الملل، والتأثيرات الغربية الثقافية والاقتصادية والسياسية والهجروية على مسيحيي الشرق ومسلميه.
في جو من الحرية والاحترام المتبادل والمحبة والايمان بالله وبالمبادىء الاخلاقية المشتركة، يمكن لنا – مسيحيين ومسلمين – ان نستفيد من كتاب كهذا لزيادة المعرفة ولإزالة سوء التفاهم والغموض في تاريخنا المشترك. وفي عالم ما بعد الحادي عشر من ايلول، يمكننا ان نساهم – بتواضع – ببناء مجتمع شرق اوسطي نموذجي في عالم يتخبط في صراعات حضارية ودينية عنيفة لن يستفيد منها لا المسيحيون ولا المسلمون الاصيلون المؤمنون الصادقون.

القس الدكتور حبيب بدر

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...