لبنان في الأحضان

03-08-2006

لبنان في الأحضان

الجمل ـ حسان عمر القالش: كما يقول نقاد التلفزيون، اذا فتحت صنبور الماء في الشام سيخرج منه كل ما هو لبناني. هدهدة السيارات اللبنانية بين سياراتنا في الشوارع والطرقات المزدحمة. في أحياء دمشق الراقية والنظيفة، وفي الشوارع الرئيسية المحاذية للأسواق، تتمشى سيارات حديثة وفارهة كالتي يمتطيها مسؤولينا وأولادهم وأصدقاؤهم، تبان على راكبيها قشرة وجوههم المخملية، وتشي نظراتهم التي تحاول التظاهر بعدم الاكتراث وأن كل شي "cool" بحسب مفرداتهم, بأنهم مازالوا كمن يمشي في نومه, سيّرتهم قدرة لا ارادة لهم على ردّها.
 ولكن لاأحد يعلم ماتخفيه مكابرتهم تلك على أزمتهم الشخصية والوطنية، فربما يصح ادراج بعضهم في خانة "عزيز قوم ذل" ونسعى لرحمته من احساسه هذا, وان كان كثير من أهلنا من منطقهم العاطفي لايبرر احساسهم, فهم في بلدهم ودارهم، وأن صدر الدار لهم والعتبة لنا كما يقول أهالي غوطة الشام وريفها الجنوبي.
وفي مركز المدينة المعجوق والمزدحم بسيارات تتجاذب أطرافها فسحات الهواء, تتخبط بينها الى جانب تلك السيارات اللبنانية الفارهة، بنات "ضرّتها" من سيارات "خردة" قديمة الطراز، شاحبة الألوان , زجاجها "زفر"، التحمت أجساد ركابها من الأطفال بمقاعدها, والتصقت أقمشة ملابسهم بها من كثرة بقائهم داخلها وطول أوقات أسفارهم بها من بيتهم الى هنا, ومن هنا الى هناك داخل سوريا.
تذكرنا هذه السيارات برحلات أيام الجمع الى جبال لبنان، الى "منيارة"و "اهدن" و"رشحين" و"الأرز" في الشمال, و"بيت الدين" و"قلعة موسى" في الجبل, والتفاف السيارات ما بين الجبال والوديان التي تنبع منها قرى الجنوب، " مرجعيون" و"النبطية"وصولاالى "الوزاني"، مرورا بـ"الخيام" و"بوابة فاطمة" وصولا الى "جبشيت" ثم الاقفال عودة عبر ساحل صور وصيدا.
كيف اذا يريدون زرع جيش على الحدود بيننا؟!! وما حاجة اسرائيل الى 17 أيار جديد يعزل لبنان عن عمق أمته وقضاياها ابتداء من سوريا؟
لا تكاد تدخل مقهى راق من مقاهي دمشق، إلا وتجد نفسك تتلفت من حولك تطالع جيرانك من الجالسين والمتحلقين حول طاولاتهم والأصوات مرتفعة نوعا ما, وآذان أمثالنا مرهفة السمع، تلقط هسيس الكلام مباحه متاحه أو مخفيّه.
مع هذه الأصوات، واللهجة اللبنانية الآسرة – خاصة النسائية منها – ومع الاستدارة الى واجهة المقهى المطل على الرصيف والشارع المحاذيين لها، تظن أنك عندهم وبينهم..في بيروت! وربما في الـdawn town الذي نسمع عنه كثيرا ولا نزوره لفضائية أسعاره.
(وينو هوّي؟ بفرانسا؟..آ..معو جنسية)، (رح نشوف بيت بـأبو رمانة نستأجروا)، (خلّي يحولّي مصاري على بونك"...")...هذا الكلام والأحاديث وكثير منها تصل أذنيك دون استئذان, تصدر عن أناس في ثيابهم المتخايلة، ولهجات مطعّمة بالفرونساوي ومفرداتهم الأميركية المرشوشة كالبهار بين جنبات دردشاتهم.
واذا حملت المرء أرجله  "يكزدر" سيصدمه مشهد الطابور الطويل خلف "الصراف الآلي" لأحد البنوك الخاصة أو العامة, ومشهد يشبهه من تجمع البشر أمام أحد المحلات التي تتعامل فيما تتعامل فيه بـ"تحويل الأموال", وفي كلا المشهدين يكثر أولئك الناس من رواد المقاهي اللبنانيين.
في المقابل, غالبية ضيوفنا اللبنانيين هم أولئك الذين شدّوا رحالهم من بيوتهم وبلادهم بما كانوا يلبسونه من ثياب, ومايحملونه من مال, حتى النساء اللواتي أخرجتهم غارات العدو بملابس نومهم. كثيرات عندما وصلن الحدود استغثن: (دخيلكن أستروا علينا)..
من الغريب كيف أن الأزمات والحروب تتعامل مع الناس بطبقية أيضا، وكأن هؤلاء الناس الذين يعيشون في أبو رمانة، ويأخذون قهوة صباحهم في مقاهي أوتيل الشام أو غيرها، هم في عالم آخر ودنيا غريبة عن أولئك المفترشين صفوف المدارس أو غرفة في دار "مضيف" سوري, ويقضون بعض أوقاتهم في المراوحة بين الأزقة الضيقة أو في احدى الخيم التي تقدم المشاريب والأطعمة بالمجان، كتلك التي في كفرسوسة على طريق المتحلق الجنوبي.
كل هذا ولم نرى أي جهة رسمية أوغير رسمية لبنانية تسجل وتوثّق حال أبنائهم المنكوبين اللاجئين لسوريا، وكذلك لم نقرأ أو نسمع عن هذا النزوح الى سوريا في اعلام لبنان، خاصة أعداد هؤلاء النازحين.
صحيح أن الحروب والسياسة تذل الشعوب وتهينها، لكن في حالة الحرب الصهيونية على لبنان اليوم فالحالة ليست كذلك، حيث إلى الآن يحاول السوريون ما أمكنهم أن يكونوا مسند ظهر لشعب لبنان, ولا يستطيع سوري أن يتنكّر أنه بشكل أو بآخر علاقته المعيشية بلبنان. ولا يستطيع مثقف أو متعلم, متدين أو علماني, يساري أم يميني, أن ينفي وينكر علاقة الوجدان السوري ووعيه الجمعي السياسي والاجتماعي بلبنان.

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...