شهادة عن الحوار الإسلامي- المسيحي

10-03-2007

شهادة عن الحوار الإسلامي- المسيحي

وصل الأب اليسوعي الهولندي كريستيان فان نسبن، الى مصر في بداية عقد الستينات من القرن الماضي، ليتخصص في الفلسفة العربية الاسلامية، قبل ان يكون عضواً فاعلاً في الكثير من جلسات الحوار الاسلامي - المسيحي. وهو يخاطب القارئ الغربي من خلال كتاب صدرت ترجمته العربية بالقاهرة حديثاً بواسطة أنور مغيث، يهدف الى ازالة صورة مشوهة كرستها الرؤى الغربية القروسطية، فضلاً عن وسائل الاعلام الغربية الحديثة عن الاسلام والمسلمين.

تأثر الاب كريستيان بتوما الاكويني وموقفه المنفتح على الفلسفة والحضارة الاسلامية، ثم تعلم اللغة العربية لعامين بجبل لبنان تحت اشراف استاذه اندريه دالفرني، تلميذ ماسينيون. حدث هذا قبل ان يبتعث الى القاهرة لدراسة الفلسفة، حيث احتك للمرة الأولى، بالآخر المسلم، وكانت اقوى مظاهر الاحتكاك تلك الصلة الحميمة التي جمعته بزميله محمود رجب، ووالده الشيخ الازهري المتفتح، عميق التدين والانسانية، الذي اعتبره «ابناً له». وكان هذا مدخلاً رائعاً لاكتشاف عمق الدين الاسلامي. بعد ذلك أتم أطروحته للدكتوراه في دراسة وتفسير المنار للشيخين محمد عبده ورشيد رضا، مما دفعه الى ولوج آفاق الفكر الاسلامي الرحب، وبدأ يدرك ان الحوار الحقيقي يقتضي اولاً درجة معينة من المعرفة والصدق مع المسلمين، وان هذا هو اساس أي حوار بين المسيحية والاسلام.

شارك الأب كريستيان في احياء جماعة «اخوان الصفا»، وذلك بعد اعادة تسميتها بـ «جمعية الاخاء الديني»، والتي تحاول التعمق في تحليل ومعالجة المسائل الملتبسة بين المسيحية والاسلام في اطار عقلاني وأخوي من طريق مد جسور الحوار الايجابي الذي يتصف بالتسامح. ثم زاد من خبراته عبر عضويته في لجنة العدالة والسلام «التي أسستها البابوية عام 1967، والتي جعلت من مسلمين مختلفي الاتجاهات والتيارات مستشارين دائمين لها. وحققت اللجنة قفزات نوعية عبر الحوار مع الطرف الاسلامي. كما عقدت محاضرات لمفكرين مسلمين بارزين، وكذلك اهتمت بتفعيل عنصر المواطنة، والاشتراك مع المراكز البحثية المهمة في مصر، كمركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. واعتبر الأب كريستيان نفسه «مصرياً بالتبني» طوال تلك الفترة من الانخراط في الهم الديني العام في مصر، قبل ان يتناول رحلته الىاندونيسيا، حيث أشاد بالصبغة الدينية التعددية التي ارتضاها الاندونيسيون، ولمس عبر زيارته لها الاسلام غير العربي، وشعر بأنه يمكن ان يمثل مصدراً مهماً للتجديد في الفكر الاسلامي. ثم يدلف الأب كريستيان الى صلب قضيته، كيفية تحويل الرؤى الاسلامية والمسيحية السلبية الى رؤى ايجابية، فيشدد على انتقاده للنظرة الاوروبية للاسلام بعد 11 ايلول (سبتمبر)، وعلى التذكير على ضرورة الفصل ما بين الدين والسياسة في الرؤية تجاه الاسلام الحقيقي. لأنه في الاساس دين يقوم على الايمان بالله. ويدعو ايضاً الى عدم تزييف الغرب لنظرته للاسلام واختزاله في ابعاده غير الدينية. ومتسلحاً بخبراته كعضو أجنبي وحيد، في الفريق العربي للحوار الاسلامي – المسيحي يرى المؤلف ان المسلمين والمسيحيين في منطقتنا لهم الثقافة نفسها والانتماء القومي. ويجب ان يلتحما معاً في مواجهة مشكلاتهم المجتمعية، وأن يرفضوا في شكل قاطع تحويل هذه المشكلات الى ذريعة للتدخل الخارجي. وعلى ذلك فيجب تقوية المجتمع المدني، فضلاً عن ضرورة تصحيح الرؤى الموروثة والزائفة عن الآخر المسيحي والمسلم في الخيال الشعبي، ومقاومة محاولات تغيير الدين، والتركيز على خصوصية العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في منطقتنا.

ثم يبدأ الأب كريستيان في الجزء الثاني من كتابه بتناول السياق التاريخي والاجتماعي للحوار الاسلامي – المسيحي. فعاد الى صورة المسيحية والمسيحيين في القرآن الكريم، الذي بجل السيدة مريم العذراء في الوقت الذي رفض تصور المسيحيين عن عيسى بوصفه إلهاً. وفي محاولة تثير الكثير من الجدل، يعزو الأب كريستيان ذلك الى التأثر بالصور المحرفة الناتجة من لجوء بعض الفرق المسيحية المتأثرة بالغنوصية الى جزيرة العرب. ويشير بعد ذلك الى ترحيب المسيحيين العرب بالاسلام الذي لم ينتشر بحد السيف. ولم يجبر سكان البلاد المفتوحة على اعتناقه، وانهم عادوا للاشتراك فيه بالمعنى الثقافي في شكل فاعل. كما ينبه الى انه على رغم اتهام الاسلام للمسيحيين بتحريف صورة المسيح في الانجيل، فإن بعض فقهاء المسلمين كابي حامد الغزالي ومحمد عبده قد أكدا امكان خلاص المسيحيين ونجاتهم يوم القيامة. وعلى رغم اختلاف المدارس الاسلامية ايضاً في الموقف من المسيحيين، فإن الأب كريستيان يشير الى غلبة نزعة الحوار مع المسيحيين، مع ملاحظة ان الاوضاع الثقافية والاجتماعية لمختلف بلاد المسلمين قد أفرزت أطيافاً متعددة من الرؤى التي استطاع بعضها الاستجابة لتحدي اقامة حوار حقيقي وأصيل بين المسيحية والاسلام استطاع تجاوز الشكليات، ليس من أجل الوصول الى اتفاق عقائدي بطبيعة الحال، بل من أجل اكتشاف ورعاية المشترك من الجانبين.

ويشير المؤلف الى ان نظرة الغرب المسيحي الظلامية للاسلام والمسلمين، دفعت بالمسلمين الى اتخاذ ميكانيزم دفاعي جاء عبر التوحيد ما بين الغرب والمسيحية كدين. غير ان الأب فان نسبن يلحظ – بذكاء – ان مسار التحديث في المجتمعات الاسلامية سواء ما تم منه في شكل تدريجي، ام في شكل تعسفي وغير مقنع، قد أحدث أنماطاً مختلفة من الاستجابات تتراوح بين القبول والرفض لفكرة الحوار مع الآخر المسيحي، اضافة الى محددات أخرى كالاستعمار والاستقلال وغيرها قد أحدثت تحولات عميقة في البنى المجتمعية، وساهمت في رسم صورة المشهد الحالي.

ثم يأخذنا الأب كريستيان الى المبادئ العامة التي يجب ان يراعيها أي حوار اسلامي – مسيحي حقيقي، فيذكر ان اللقاء بغرض الحوار معناه ان يفسح الملتقيان مكاناً في حياتهما وعقلهما لاكتشاف الطرف الجديد بعمق، وان الحوار يحتاج الى مبادرين شجعان، غير انه ينبهنا الى ان الحوار لا يتم بالكلمات فقط، بل يجب الانتباه بعمق الى الايماءات والتعبيرات غير اللفظية العفوية، لدلالتها على مجرى الحوار. وكذلك ان يحظى الملتقيان بتكافؤ ثقافي، وألا يقوما باخفاء المشكلات الطائفية الكامنة في مجتمعهما، أو تضخيمها، مع ملاحظة التفريق بينها وبين المشكلات الاجتماعية العادية. ولا يفوته ان يروي خبرته في التحاور مع المسلمين، بأن يذكر اخوانه بضرورة التسلح بمعرفة الاسلام الحقيقي، مؤسساته، تاريخه، وأفكاره، فضلاً عن العلاقات الشخصية مع المسلمين، ومحاولة الفكاك من أسر منظومتهم الدينية والايديولوجية، وعدم السقوط في فخ التعميمات السريعة. كما يدعو الجميع الى فهم السياق الثقافي والاجتماعي للآخر، والتمييز بين المبادئ الدينية والتأثيرات الثقافية المجتمعية الضاغطة أحياناً. كما يدعو المتحاورين المسلمين والمسيحيين الى قبول الآخر كما هو، من دون محاولة دمجه في الغطاء الديني الخاص بهم، والاحتفاظ له بخصوصيته الدينية عبر ما يسميه «الاعتراف بالغيرية».

ويعود الأب كريستيان الى تكريس فكرته الاساسية في كتابه، وهي تذكير القراء الغربيين بأن المسلمين قوم مؤمنون بالله، ويمكنهم العيش بسلام مع المسيحيين بوصفهم مؤمنين ايضاً، وذلك عبر استغراق كل منهم في حياته الروحية ببعدها الايماني الكبير، بحيث «يلتقي الجميع في الله». ثم يحاول في الوقت نفسه تجنب بعض المعارضات الاسلامية والمسيحية حول مسألة التوحد في الحياة الروحية اذ انهما دينان مختلفان حول طبيعة النظر الى الإله، وبالتالي فمن المستحيل ان يلتقي أتباعهما في وحدة روحية، ذاكراً ان الاعتراف بهذا الاختلاف لا يمكن ان يستبعد اطلاقاً امكانية اللقاء وأهميتة، اعتماداً على الاصول الواحدة للمسيحية والاسلام، فضلاً عن الاشتراك في انسانية واحدة.

ويدلل على ذلك بما اعترف به المجمع الفاتيكاني الثاني الذي قدر ان المسلمين يعترفون بنفس بالإله الخالق، ويتمسكون بإيمان ابراهيم، كما ان البابا يوحنا بولس الثاني يذكر دائماً بأن المجمع البابوي الرابع عام 1215 قد أقر بأن الجوهر الالهي «لم يلد ولم يولد». وهو نفس ما ورد لدى المسلمين في صورة الاخلاص.

وهكذا فإنه يرى ان وحدة الايمان يمكنها ان توجد أرضية روحية مشتركة للمسلمين والمسيحيين، على رغم الاختلاف بين الديانتين. كما يؤكد على الصلاة لديهما بوصفها موقعاً للالتقاء الروحي في الله، ويرى انه على الطرفين استثمار الصلوات المخصصة بما يتخللها من دعاء من اجل الصلاة من اجل الطرف الآخر. ويذكر ان العديد من المسلمين يقولون له أحياناً «ادع لنا يا أبونا». كما انه طلب ذات مرة من احد المسلمين ان يدعو له في صلاته. ويخلص الى ان مجرد الاعتراف بأن المسيحيين والمسلمين «معاً أمام الله» يدفع بالجميع الى العيش المشترك والانفتاح على الآخر.

ويشير الأب فان نسبن في النهاية الى ان التحدي الأكبر انما يكمن عبر تعاون حقيقي ومخلص بين الطرفين من اجل خدمة المجتمع الانساني دون النظر البتة الى الاختلافات في الايمان، مع اعادة التذكير بضرورة تجاوز الرؤى الشعبية المسبقة، حتى لا تحدث حالة إقصاء متبادل تسهم في افراغ فكرة التوحد الانساني للمسلمين والمسيحيين من مضمونها الانساني.

حاتم الطحاوي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...