(حكاية بلاد ما فيها موت) المسرح بضمير المتكلم

09-05-2012

(حكاية بلاد ما فيها موت) المسرح بضمير المتكلم

تجربة لافتة سجلها مؤخراً الفنان كفاح الخوص في عرضه «حكاية بلاد ما فيها موت-مسرح القباني-إنتاج المسرح القومي» متجاوزاً عقدة النص الأجنبي التي وقع فيها معظم أبناء جيله, نحو كتابة حققها الفنان الشاب بنفسه,
 
مقدماً توليفة حكائية لا تخبئ إفادتها من نصوص الشرق القديم، فـ «بحر» شخصية العرض الرئيسة «قام الخوص بأدائها» تبحث عن الخلود بعد موت الأم -«رنا كرم» تحت أقدام فيل الملك الذي خرّب الزرع، ونكّل بالبلاد والعباد؛ مقاربة لا تخفي استعارة نص سعد الله ونوس الشهير «فيل يا ملك الزمان» جنباً إلى جنب مع «جلجامش» ملحمة سومر الكبرى، ليتابع الخوص سرد حكايته وفق أسلوب «ألف ليلة وليلة»: موالياً الحكايات الفرعية الصغيرة أو ما يسمى بالحكاية الشارحة «العجائز الثلاثة، جنية الحكاية، حصان الملاك الذي لا يمسس راكبه الموت».
 هكذا لا يحيد العرض عن نمطية الصراع مع الوجود، هذه النمطية التي عززتها الدراما العربية والشرقية بعامة، وهي دراما تنتصر للبطولة الفردية المطلقة، في حين نجحت الدراما الغربية في كتابة روائعها الخالدة بعيداً عن ترسيخ ما أصّلته أساطير الشرق وملاحمه الكونية: على نحو «الشعائر التموزية، جلجامش، عوليس الأوديسة، عندما في الأعالي» فهاملت مثل فاوست في صراع كل منهما مع شياطينه وردود أفعالهما، كلاهما يستقي ديناميكيته الدرامية من أهم أثر تركه عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ في كتابه الرائع «علم النفس والسيمياء» حيث وضّح هذا الكتاب الدور الذي لعبته «موضوعية النفس» البشرية في صياغة الدراما، فلا حكايات شارحة أو تفسيرية في كل من هاملت شكسبير وفاوست غوته وأوديب سوفوكليس، بل نزاع فتّاك ومحموم منشؤه الرئيس ينبع من صراع الشخصية الرئيسة مع نفسها، صراع ديناميكي مع الذات، يتفرع عنه صراع أفقي مع الشخصيات الأخرى، وهذا لا تمكن مقاربته مع الصراع العمودي مع قوى الغيب الذي جسّده «الخوص» في مواجهة «بحر» لوجوده ومعنى فنائه المحتوم، فبحث هذا الأخير عن «بلاد ليس فيها موت»  تقترح تداعي الحكاية وراء الحكاية كسمة توليدية تركها لنا كتاب «الليالي العربية» الذي تبلورت قصصه العجيبة مع وصول المأمون إلى عرش الخلافة الإسلامية، لنكون أمام خلاصة عناصر فارسية وهندية وإغريقية وحامية وسامية وسورية قديمة تركت «يقينية الشك» جانباً لمصلحة نجاة رأس شهرزاد الجميلة من نطع السياف المسرور.
أجمل ما في عرض «الخوص» هو عدم خروجه عن منطق السرد الشرقي، فالحكاية الشفهية هنا أتت بلسان ضمير المتكلم، شارحةً حاله وأحواله في سفره وترحاله الدائم بحثاً عن «عين الحياة» النبع الذي يمكن لشارب مياهه السرمدية ألا يناله مصير أسلافه وحصتهم من العدم والاندثار.. من هنا يبدو اتفاق العرض مع صيغته متوازناً مع فكرة المخرج والكاتب عن طبيعة الصراع الذي أراد تقديمه لجمهوره، متناغماً مع موسقة مونولوج «بحر» الطويل كشخصية تدور من حولها «شخصيات» العرض الأخرى، وهي جميعها مع «بحرها التائه» لا تعاني الكثير في انتفاء «الشك» وحضور «يقينها» بطريقة أو بأخرى عن موت مؤكد ينتظرها في نهاية المآل رغم كل ما تبديه من غرابة ظاهرية، فالعجوز الأول-«شادي الصفدي» الذي يهيل الرمل بمغرفة من مكان إلى مكان آخر وبالعكس هو ذاته العجوز الثاني-«الفرزدق ديوب» الذي تسبح أوزته في بحيرة من دموعه وتشرب منها، وهو أيضاً العجوز الثالث-«أسامة التيناوي» الذي يعرض على «بحر» الجائع طعام الحق وطعام الباطل، كل هذه الشخصيات رغم جاذبيتها لا تنطوي إلا على تأكيد مقولة حكاية المسرحية، حتى «حصان الملاك» الذي يركبه «بحر» هو نوع من الحكاية التفسيرية التي قدمها لنا كتاب «ألف ليلة وليلة» في قصص «المدينة المتحجرة» حيث عفريت الحكاية يدل الصياد على بركة فيها سمك بأربعة ألوان: الأبيض والأحمر والأزرق والأصفر- «ألوان النفس التي رمز لها يونغ والتي يردفها باللون الأسود، لون ظلمة النفس وسوادها الداخلي» حيث يمثلها هنا شهريار عبر نزعته التدميرية ورغبته في إفناء جنس النساء عن وجه الأرض، لتقابل هذه النزعة التدميرية في الرواية الشهرزادية دافعةً هذا الاختلال النفسي إلى التوازن من خلال السرد، فتأتي القصة بسلسلة من الحبكات المأزومة لمواجهة أزمة الملك المجروح في نرجسيته الذكورية من خيانة زوجته له مع خادم القصر, حكاية شهرزاد تهدئ هنا روع هذه السوداوية الفتاكة في نفس الملك مبدد العذارى، معيدةً إياه إلى الواقع من جديد عبر ما يقارب التطهير الأرسطي «كثارسيس». فإذا كانت كلمة دراما تُطلق في اليونان القديمة على بعض الشعائر الدينية، فإن الدراما في «الليالي الشهرزادية» تأخذ أكثر من مستوى: أولها مستوى السرد التفسيري في الحكاية الشعبية، والذي لا يقوم على أساس المنطق التجريبي اليقيني، بل يقوم على منطق «الاستنتاج من معارف العامة» فالتفسير هنا يعد ضرورة من ضرورات التحليل، وسؤال لماذا في «ألف ليلة» يجيب عنه «الذهن الشعبي» كما في حكاية «جبل المغناطيس» على سبيل المثال، فالنوادر الفرعية الاستطرادية في «حكاية بلاد ما فيها موت» لم تكن عفو الخاطر, بل كانت لها وظائف فنية ساعدت على تركيب الحكاية الأصلية، حيث قامت هذه النوادر الفرعية بأخذ مقام ما يسمى «الحكاية الشارحة المُفسرة» وهذا ما يحدث  في حكاية «التاجر والعفريت» في «ألف ليلة وليلة» تماماً كما فعلته جنية الحكاية- «رغدا الشعراني» في مسرحية الخوص، ففي حكاية شهرزاد نعرف أن التاجر في مأزق خطر لأن العفريت ينوي قتله، ولأنه قد أعد نفسه بالفعل لمواجهة هذا المصير, في هذه اللحظة تستطرد الحكاية ومنذ ليلتها الأولى إلى نادرة إثر نادرة، فيظهر شيخ ومعه غزالة، ثم شيخ آخر ومعه كلبتان، ثم ثالث ومعه بغلة، ويقرر الثلاثة البقاء مع التاجر ومواجهة العفريت، ثم وبعد ظهور العفريت وتهديد التاجر بالقتل واستجداء الشيوخ الوحش الإبقاء على حياته يروي الشيوخ الثلاثة نوادرهم بعيداً عن الموقف الأصلي، ليظفر كل شيخ بثلث من دم التاجر..إلخ..
ما أريد قوله هو أن استعارة «الخوص» هذا الأسلوب تبدو أصيلة ومعافاة من «عجمته» لكنها لا تبدو كافية لإنجاز مسرح حقيقي، فالمسرح لا يقوم على مداورة سردية أو على نوادر شعرية، ولا حتى على أمثولات غنائية ومواويل قتّالة في وجدها، بل يقوم على إنجاز الصراع، وهذا ما لم يتحقق من مونولوج فردي طويل تتم تلاوته بضمير المتكلم وصولاً إلى أم كانت تنشر غسيلها طوال فترة رحلة البحث عنها، على العكس، بل يقوم على وجود حقيقي وفاعل لشخصيات أخرى، لا مجرد أدوار تساهم في تقديس هذيانات البطل، ودعم سؤاله عن معنى الوجود وفداحة الفقد بعد موت محسوم بيولوجياً ووجودياً، فالمطلوب هو الحوار الدرامي وليس المناجاة الداخلية للبطل الأوحد الهائم على وجهه، مستعيناً بهياكل وملامح شخصيات على الخشبة. إن تجديد القالب الفني للمسرح لا يتأتى فقط من الشكل الباهظ له، ولا من رفع كراسي أربعة موسيقيين في عمق الخشبة إلى أعلى ليقوموا بتكوين جوقة موسيقية مرافقة للحدث، ولا حتى من مفارقة وجود مغني مواويل السبعاوي المدغمة بالزجل-«قام بأدائها حسان النعماني» مع مغنية تراتيل بيزنطية- «نور عرقسوسي» فهذا كله لا يؤتي أُكلُه من دون خلق صراع بين شخصيات فاعلة وذات حضور حقيقي على المسرح، وهذا للأسف لم توفره مغامرة «الخوص» بل آثرت إبقاء مفهوم مواجهة الكائن وحدة وجوده، مستغنيةً عن فصامية النفس وقلقها الداخلي الأصيل الذي يوفر للفرجة مساحات هائلة من الأفعال، وعلاقة جدية مع الجمهور، علاقة لا تستند فقط على عناصرها التزيينية الخارجية، إنما تحاول دائماً التأثير في المتلقي عبر تصنيع الشروخ التي تصيب النفس البشرية وانقسامها المضطرم والمستمر على كل ما هو حاسم ونهائي ويقيني، معيدةً ذلك إلى الشك كمحرك رئيس في كل ما كتبه سوفوكليس وشكسبير وديستويفسكي وغوته... إنها الكتابة المتمركزة دوماً حول جدلية النفس الإنسانية وتلونها الغريب وبيدائها الشاسعة غير المنتهية بخلاصات الحكمة والأقوال المأثورة. إن السرد على غرار «الليالي العربية» في العرض تحاشى مغامرة تعكير صفو السلم والأمان الداخليين للشخصية؛ وذلك عبر التركيز على إعادة التوازن والسكينة إلى العقل الشهرياري- طموح بحر إلى بلاد ما فيها موت وتجنب أي انحراف في الطبيعة البشرية، وتملصها من أي انهدامات نفسية تسوقها إلى مجاهل لا تحمد عقباها، فمع هذا الصون المستمر للسلم والأمان و توخي الصحة النفسية في القص غابت التراجيديا عن مسرحية كفاح الخوص، وغاب معها كنه الفن المسرحي المتمثل في الصراع، اختفت الديناميكية الحركية لتحل محلها الكارما- العاقبة الأخلاقية والردع من خلال الأمثولة الشعبية والعبرة الشعرية, وذلك عبر تراتبية درامية لا تعترف إلا بالتناسق المستمر مع الطبيعة وخالقها، مثلها مثل كل أنواع الدراما العربية التي تأثرت بواحدية الديانات الشرقية، وميلها المستمر نحو تمجيد السكونية والتفكير على مر العصور بتقديس البطولة وعبادة الفرد، مسوغةً لجمهورها الرضا عن النفس وتزكيتها من كل وسواس رجيم..

سامر محمد اسماعيل

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...