«شباب المقهى»

19-05-2010

«شباب المقهى»

في كتاب «Millennials Rising»، يُطلق باحثان أمريكيان صفة «جيل الألفية» على الأشخاص الذين ولدوا بين منتصف السبعينات حتى نهاية التسعينات. وهي الفترة التي ظهرت فيها المقاهي الشبابية كما الإنترنت..
المقهى مكاناً، ليس بالاختراع الجديد؛ فقد كان وما زال يعكس تغييرات في التشكيلات المجتمعية وفئاتها الاقتصادية والتاريخية. ومنذ بداية القرن الماضي، كان هناك مقاه أصيلة يؤمّها أجدادنا أصحاب العمائم، يشربون إما الشاي أو القهوة، من دون الدخول في مزاد التجاوزات، يتداولون أخبار الحكومة وجلسات البرلمان، وينتقدون، بلهجة العارف بخفايا الأمور، الوضع في المنطقة. أما أحفادهم فضرب رؤوسهم الهوس؛ أدمنوا مقاه، لا تاريخ وراءها ولا قصة، إنها المقاهي الشبابية وليدة عصرها، ووقتها..

¶ نسخة غربية
فكرةٌ جديدة راودت أحدهم، كما راودت آخرين لاحقاً، بافتتاح سلسلة مقاه شبابية في الأحياء الراقية في دمشق وحلب واللاذقية.. وإذ بجيل من الشباب السوري يحبّذها، ويسعى إليها لنسج علاقات ما؛ قد لا تستثنى منها تلك العلاقات الشاذّة «كما يسميها المجتمع».
وبعد أن أغلق عدد من تلك المقاهي أبوابه، لأسباب يجهلها حتى روادها، طالت ألسنة الاتهامات، علناً، تلك المقاهي، وشبيهاتها: الإدمان، والشذوذ، وهدر الوقت.. وأيضاً تضييع الهوية، واستسهال فقدان التواصل مع المجتمع، ينسلخون من جلدهم ويتركون موروثهم الاجتماعي وعاداتهم ويخالفون طبيعتهم، لا مانع لديهم من أن يدفعوا مبالغ كثيرة من أجل «البريستيج» ويمكثوا عدة ساعات يضيفونها إلى رصيدهم الهائل من إضاعة الوقت..
في حين يدافع القائمون عليها بأنَّ هدفهم منها الخروج بمظهر جديد بعيد كلياً عن «ثقافة القهوة» التي تفوح منها روائح المزاج الشرقي؛ في طريقة الجلوس بتكلف، ونوعية الأنشطة بلعب الورق أو الشطرنج أو النرد، ومدة البقاء القصيرة في المقهى وقلة إمكاناته ومحدودية الخدمات التي يقدّمها من مشروبات ونرجيلة، وخليط من حوارات السياسة والثقافة التي تختلط حروفها بدخان السجائر ورائحة القهوة العربية والشاي بالنعناع والقرفة...
إذاً لقد ظهر «الكوفي شوب» ليتماشى مع النزعة الاستهلاكية المتزايدة في المجتمع؛ فتقدّمت في النتيجة المقاهي الشبابية على حساب المطاعم الكبرى التي ازدهرت في الثمانينات والتسعينات. بعض هذه المطاعم مازال حريصاً على تشغيل موسيقا الثمانينات والتسعينات للزبائن. ولكن عدم إتاحة استخدام الإنترنت وتغلّب روح المطعم على روح المقهى، دفعا بشريحة من الشباب إلى تلك المقاهي الصاعدة، التي حاولت تقمّص روح المقاهي الغربية، بل ومنافسة المقاهي الشرقية!.. 
 ¶ متاهة
تشعر، للوهلة الأولى، بأنك في بلاد أوروبية؛ حيث ملأ المكان صوتُ موسيقا الجاز والبوب، وترى شباب «الفانكي»، والصبايا والشباب على شكل شلل، و»البوي فريندز والغيرل فريندز»، والمزح بالأيدي بين الجنسين، والضحك بصوت مرتفع..
الشباب، مع توافدهم على هذه المقاهي، دخلوا متاهة «التنميط» والتشبّه بالآخر المختلف.. ورغم ذلك، مازالوا يداومون عليها ولا يستصعبون الذهاب إليها، وإن كانت بعيدة عن منازلهم، من أجل الانفصال عن المجتمع..
هذه المقاهي الشبابية أصبحت تتزاحم في المجتمع السوري، وتقلّد نمطاً غربياً واحداً. ورغم ذلك، تسعى إلى التميّز، من أجل الحفاظ على زبائنها الشباب بتقديم أنواع الخدمات وأشهى المشروبات ذات الألوان المبهرة والأسماء الغريبة والنكهات العجيبة، من أصناف: موكاتشينو، كافيتشينو، موكا بكريمة التشينو، الكابتشينو، فوربتشينو، هوت شوكليت، ميلك شيك، اسبريسو، لاتيه، فراب، روز بيري، كوكو بلو.. بحيث لا تفرق بين البارد منها والساخن!.

 ¶ «فردانية»
وكما أنَّ تلك المقاهي تقدّم نفسها بشكل شبابي غربي غير متكلّف، في محاولة منها للتشابه مع الغرب، فإن روّادها، بدورهم، يدعمون تلك المحاولة، عبر محاكاة الشباب الغربي؛ إما في مظهره الخارجي أو في سلوكاته أو مطالبه بـ»الفردانية» والخروج عن قيود الأسرة والمجتمع والإحساس بالراحة والحرية في تركيبة علاقاته مع أقرانه..
تصميم تلك المقاهي يساعد على تكوين تجمعات منفصلة، تحافظ على قدر من الخصوصية لا توفره المقاهي التقليدية. بعضهم استغلَّ هذه الأجواء في المذاكرة، وآخرون استغلوها في إدارة حديث عمل جاد، ومنهم من يتبادل مقاطع «البلوتوث» مع رفاقه، وآخرون يجلسون بجانبه يعلّقون على صورهم وصور معارفهم في المجلات الاجتماعية التي صدرت في العقد الأخير وخصّصت صفحاتها لالتقاط صور مرتادي المقاهي الشبابية.. وعلى الجانب الآخر شلة أصدقاء لا يهتمون بكلّ هذا..
تُخضع تلك المقاهي العاملين فيها إلى دورات تدريبية لفترات مطولة لا تقلّ عن ثلاثة أشهر؛ لاكتساب طرق التعامل مع الشباب، وإتقان مزيج اللغة العربية بالأجنبية لجذب الزبائن، بما هو غريب عن واقعهم ولغتهم. ويتخرّج هؤلاء من تلك الدورات المكثفة بشهادة «خدمة في المقاهي الشبابية»، ويصبح واحدهم (الويتر) مدركاً أنَّ الشباب بطبعه لا يحبّ التطفّل؛ فيترك له مساحة جيدة كي يندمج في عمله أو مع رفاق جلسته، محافظاً على مسافة كبيرة بينه وبين الزبائن.

 ¶أجندة يومية في حياة الشباب
شخصيات مختلفة من مختلف الأعمار ومن جميع المستويات الاجتماعية والثقافية.. يلتقون معاً في مجتمع المقهى على مدار اليوم والليلة. تلك المجتمعات تضاعفت أعدادها بصورة ملحوظة خلال الفترة الماضية، وتزايد إقبال الشباب عليها؛ كلّ منهم له دوافعه وأسبابه الخاصة.
صحيح أنَّ نظريات علم الاجتماع ربطت بين انتشار المقاهي الشبابية والبطالة؛ فكلما ازداد عدد المقاهي في مدينة ما كان ذلك مؤشراً على ارتفاع نسبة البطالة في تلك المدينة.. ولكن، بعيداً عن البطالة والأسباب الاقتصادية، المقهى الشبابي لم يعد جزءاً من المجتمع؛ لقد بات مجتمعاً بحد ذاته، ومنفذاً وحيداً يستطيع الشباب أن يعبّروا من خلاله عن أنفسهم وآرائهم بحرية، إلا أنه لا يخلو، في الكثير من الأحيان، من ممارسات خاطئة، وإهدار لقيمة الوقت.
 هوس أم حاجة؟ 
لا يختلف اثنان من الباحثين الاجتماعيين على أنَّ المقاهي الشبابية هي نوع من الهوس الذي ضرب رؤوس الشباب الذي لا يشبه حتى نفسه، وفي ذات الوقت هي حاجة فرضها التنوع الاجتماعي والتداخل الثقافي..
ولكن، طبيعة العلاقة التي نشأت بين الشباب والمقاهي الغربية، تستوقف الكثير من الباحثين الاجتماعيين، ومنهم عز الدين الصواف الذي وصل إلى قناعة بأنَّ «انفتاح هذا الجيل على العالم جعله أكثر قابلية للوجود في أماكن مختلفة تماماً عن المقاهي والمطاعم التقليدية، وبعيدة عن المزاج الشرقي. وهي سمة من سمات جيل الإنترنت، المتمثلة بالارتباط العقلي والسلوكي بكلّ ما تطرحه الثقافة العالمية، وعلى عكس الأجيال السابقة مشكلته أنه غير منتم إلى حدّ كبير إلى تراثه وسياقه الاجتماعي..
في حين تطرح الاختصاصية الاجتماعية رلى العبد تساؤلاً على القائمين على تلك المقاهي يتعلّق بالنخبة التي ستطرحها هذه المقاهي في المجتمع، من منطلق أنَّ الوجود داخل المجتمع الافتراضي والاكتفاء به هو عنصر الخطورة، وقضاء معظم الوقت في هذه المقاهي والانطواء على عالمها فقط عنصر أشد خطورة على المجتمع؛ حين يكتفي الفرد بنموذج وحيد للتعارف وقضاء الوقت..
وتضيف العبد: إنهم لا يوجدون في هذا المكان لتقييم أوضاع المجتمع والاشتباك مع قضاياه الساخنة، لكن المهم أن يجتمعوا؛ فالاجتماع هدف في حدّ ذاته، وليس ما سيسفر عنه هذا الاجتماع...
 هذه حياتي.. هذا عالمي..
«الذهاب لقضاء بعض الوقت في المقاهي لا غبار عليه، ولكن قضاء كلّ النهار ومعظم الليل هناك، بما يتجاوز 14 ساعة يومياً، فهذا أمر يدعو للبحث عما تقدّمه تلك المقاهي للشباب ليدمن عادة وجوده فيها»- يقول الباحث الاجتماعي عز الدين الصواف. وتضيف الاختصاصية الاجتماعية رلى العبد: «عندما ندرس ظاهرة انتشار المقاهي، يجب أن نضع في أذهاننا أنَّ سن الشباب تمتدّ من 18 إلى 45 عاماً. وهذه هي الفئة العمرية التي نجدها على المقاهي».بالفعل بعض «الكوادر» الثابتة في تلك المقاهي، تظهر بوضوح أن روادها لم يعودوا زبائن وإنما مريدون..
تلك المقاهي تحوَّلت إلى أسلوب حياة، وبرنامج يومي يدمنه الشاب، وانقضى الأمر.. لذلك بات من المنطقي الالتفات إلى ترشيد علاقة الشباب بالمقاهي، واستغلال تفضيل الشباب لها وتهافتهم بالساعات عليها بأن نتّخذ منها وسيلة لتعزيز الوعي العام وتفعيل المشاركة وخلق موجة ثقافية شبابية؛ عبر شغل وقت فراغهم في الاطلاع على الكتب وحضور الندوات والتحصيل العلمي..

دارين سليطين

المصدر: بلدنا
 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...