ما الذي يجعل الشخصيات الروائية أهم من كاتبها؟

10-01-2007

ما الذي يجعل الشخصيات الروائية أهم من كاتبها؟

ما الذي يجعل الشخصيات الروائية أهمّ من كاتبها؟ كيف يخترعها صاحبها؟ الشخصيات كثيرة في هذا المجال، "مدام بوفاري" أصبحت اشهر من كاتبها غوستاف فلوبير. "دون كيشوت" بطل ثرفانتس، بات مصطلحا ثقافيا. شخصية جوزف ك لكافكا من روايته "المحاكمة"، غدت "أيقونة" غريبة بالنسبة الى الأدباء في العالم. جوزف ك في "المحاكمة" سيصبح ك في قصة "القلعة". هنا اللغز ليس في الشخصية فحسب بل في اسمها. هذا الحرف سيصبح مسار جدال وتأويلات بين النقاد.
شكلت شخصية جوزف ك محورا بالنسبة الى الرواية العالمية، وهي ايماء الى "فلسفة الاسم". في روايته "ثلج"، اختار أورهان باموق، ان يسمي بطل الرواية كا، وهو اختصار لاسم كريم الآقوشوغل، لهاجس لديه بأن اصوله الحقيقية تكمن في منطق شعري. فالكلمة التركية التي تعني الثلج هي كار، مما يوحي بامتزاج حميم بين الكاتب وموضوعه، بين كا وكار. هناك صدى او اثنان كذلك لشخصية ك عند كافكا، فقد قال باموق ان شخصيته الرئيسية ذات العقلية الطبيعية حرصت دائما على استخدام هذا الاسم المصنوع في الاوراق الرسمية، حتى لو كان ذلك يعني النزاع مع المدرسين والموظفين الحكوميين. اختيار باموق هذا الاسم ليس صدفة، فهو في اطار "سطوة" جوزف ك، بطل "المحاكمة"، وك بطل رواية "القصر"، على بعض الروائيين في العالم. هذه الرواية التي أصبحت رمزا ساطعا، قيل الكثير فيها واعتبرت من أهم الآثار الأدبية في القرن العشرين، باعتبار انها محيرة حتى بالنسبة الى كاتب مثل توماس مان، الذي قال إن عقله ليس معقدا بما يكفي لفهم رواية "المحاكمة".
الراجح ان كافكا يشير الى اسمه في "المحاكمة". في عهد القيصر النمسوي فرانز جوزف الاول، الذي حكم الإمبراطورية النمسوية طوال 68 عاما (بين عام 1884 وعام 1916)، كان اسم جوزف نظيرا طبيعيا لاسم فرانز. وفي يوميات كافكا ثمة جملة ذات دلالة بالغة: "على رغم أني كتبت للفندق اسمي على نحو واضح، وعلى رغم انهم ايضا كتبوا لي اسمي مرتين على نحو صحيح، فقد كتب على اللائحة في الاسفل جوزف ك. هل ينبغي لي ان أوضح لهم أو ان ادعهم يوضحون لي؟".
كتب كافكا "المحاكمة" خلال عامي 1914 و1915، أي في الفترة التي اندلعت فيها الحرب العالمية الأولى، حيث أخذت الثقافة الألمانية التي نشأ تحت ظلالها في التداعي البطيء من حوله. رافق ذلك على الصعيد الشخصي فشل ذريع في علاقاته العاطفية، إضافة إلى ظهور العلامات الأولى لإصابته بداء السل الذي سيضع حدا لحياته بعد ذلك بعشر سنين. عام 1920 أعطى كافكا مخطوطة الرواية، التي لم يتمكن من إكمال بعض فصولها، إلى صديقه ماكس برود ليراجعها ويطلع عليها. عدم اتمامها سيجعلها رواية أكثر إشكالية، ليس فقط على مستوى مضامينها ومعانيها والتأويلات العديدة لها، بل حتى على مستوى شكلها الكتابي الأولي والأصلي. فهي كتاب لانهائي ولا يمكن الوصول إلى نهايته أو معرفة عدد صفحاته.
K سيصبح موضوعا لأعمال ثقافية كثيرة. الناقد الايطالي روبرتو كلاسو اصدر كتابا بعنوان k واجداً ان هذا الحرف لن يكون الا رقما غامضا لا يستعصي حله، او إشارة جبرية تشير الى ما يتحول ويتبدل ولا ينتهي. لهذا يغيب جوزف ك في "المحاكمة" ويعود ك من جديد في "القصر"، كما لو كانت المحاكمة قد اعدمت جزءاً من الرجل، من دون ان تستطيع ان تعدمه كاملاً. يتكشف في هذا الإعدام الجزئي عنصران: عنصر يذيع التفاؤل، مبيناً ان الإنسان المتهم تفادى ضربة المحكمة اللئيمة، وعنصر أخلاقي يقضي على المتهم الناجي بأن يقاضي المحكمة الظالمة وبأن يعيد ترتيب العالم. كان على ك الناجي، كما يرى الناقد الايطالي، ان يواجه عالماً واسعاً في غموضه وغامضاً في اتساعه، ينطوي على وجود مدثر بالأسرار وعلى حياة اجتماعية مملوءة بالقهر والاغتراب. يتوحد الاجتماعي والكوني، منتهيين الى كتلة صماء لا سبيل الى السيطرة عليها.
ك سيكون حاضرا في رواية "كل الأسماء" لجوزيه ساراماغو الذي يرسم متاهة، من منظار ما فعل في "المحاكمة" و"القصر". يجد ك، بطل كافكا في "القصر"، نفسه في خضم الشبكة العنكبوتية لبيروقراطية صارمة تحاكي سلطة أب قاس. طوال الوقت يحاول ان يصل الى فك لغز ذلك العالم لكن من دون جدوى. فهو يستفسر لكنه لا يقع على إجابات مقنعة، فيستسلم لمساره القدري كأنه مقود بقوة عاتية، لا قبل له بها. واذا كنا لا نعرف شيئا عن ماضي ك كافكا، ومن أين جاء، فإن دون جوزيه، بطل "كل الاسماء" لساراماغو، هو الآخر لا نعرف عن ماضيه شيئا، إذ يظهر منذ مفتتح الرواية داخل المبنى البيروقراطي كموظف صغير يؤدي عملا روتينيا رتيبا.
روح ك نجدها في مسرحية "حفلة عيد الميلاد" للمسرحي البريطاني حامل جائزة نوبل هارولد بينتر، اذ يقرأ المخرج ليندسي بوسنر النص البينتري بمزاج كافكوي، ويسعى العرض إلى نوع من المقاربة بين ستانلي بينتر وبطل "محاكمة" كافكا، جوزف ك، بحسب مقالة نشرت في موقع "ايلاف". فستانلي يحمل الكثير من صفات جوزف ك، بل أن مصيرهما يكاد يكون واحداً، أما وظيفة سجّاني جوزف ك، فشبيهة تماماً بوظيفة الرجلين اللذين اقتحما عالم ستانلي، وهي جعل ضحيتهما تشك في براءتها وأمنها.
يبدو ستانلي مستعدا لخوض تجربة الشعور بالاضطهاد، وهي حال تكاد تشبه نزاع الإنسان مع خطيئته وطرده من الجنة، وهذا ما يمكن العثور على مرآة له في شخصية جوزف ك نفسه. جوزف ك وستانلي كلاهما يحاول تأسيس براءته من طريق هجوم جنسي، وغرضهما أثبات رجولتهما، التي هي شكل من أشكال براءتهما! بينتر وكافكا، كلاهما أراد القول، أن لا وجود لعالم البراءة أو لإنسان بريء. البراءة تبيح لصاحبها أن يواصل العيش في ظل تهديد دائم باعتقاله وملاحقته من جديد، فالاثم هو السيد منذ هبوط آدم من الجنة.
في "حياة مايكل ك. وزمنه" (حرف كاف إشارة هنا إلى كافكا) يسرد كويتزي سيرة موظف في حديقة للأسود منذ الطفولة البائسة حتى وصوله بطريقة شبه قدرية إلى سجون التعذيب في جنوب أفريقيا. موضوع غرف التعذيب كان الدافع لكي يكتب كويتزي، على حدّ قوله، هذه الرواية، للوصول إلى أقصى حدّ يمكن أن تبلغه العلاقة بين الجلاد والضحية، وهي علاقة مع المتخيّل في الدرجة الأولى. فالتعذيب بالنسبة إلى كويتزي، يكشف في النهاية عن قتامة حياة الخاضعين للسلطة، وهي هنا سلطة الفصل العنصري السابقة. الخلاصة الأهم بالنسبة إلى كويتزي أنه ليس هناك من خير أو شر، حق وباطل. الكل خاضع لمأساة كونية واحدة. انها العودة الى الإثم الأبدي.
هكذا هي إذاً روح جوزف ك في روايات العالم. اما جوزف ك في "المحاكمة" فهو موظف مرموق في أحد المصارف، يستيقظ في أحد الأيام، وبدلا من أن يتم إحضار طعام فطوره المعتاد ككل صباح، يفاجأ بدخول رجلين غريبين إلى غرفته يخبرانه بأنه رهن الاعتقال ويصطحبانه إلى غرفة مجاورة حيث محقق يؤكد ما أخبراه به من دون أن يطلعه على سبب اعتقاله، لأنه بكل بساطة لا يعرف السبب ولا يهمّه أن يعرف. بعد محاورة قصيرة يخبره المحقق بأن عليه أن يراجع المحكمة كل يوم أحد، واختير ذلك اليوم تحديدا لكي يتمكن من مواصلة الذهاب إلى عمله فهو لا يزال محض معتقل لم تتم إدانته بالجرم المنسوب إليه بعد.
تعدّ رواية "المحاكمة" بحسب كونديرا، تجسيدا لفكرة العود الابدي للطرد من وهم الجنة عند كافكا، وتصير اشكالية الرواية هي الكشف عن تلك العلاقة بين الإنسان ومعنى القانون في ضوء تدمير تلك الحبات البلورية لتجلي الرب أمام الإنسان. يعيد جوزف ك تمثيل الإنسان في عملية العود الأبدي لظهور الوعي، بينما يفهم القارئ هذه الطبيعة الظالمة للحياة اليومية كمعطى في الرواية، الا ان العالم لم يكن هو مصدر بؤس جوزف ك. ربما العكس صحيح، فقد أرهقته المعارف المفاجئة التي تؤكد ان العالم الاجتماعي مجرد واجهة هشة تخفي وراءها هاوية الوجود الإنساني ومأزقه.
تدور "المحاكمة" حول الاثم والحرية، على ما يقول الناقد الالماني تيودور لكوفسكي: فحتمية الاثم للإنسان في هذا العالم وحريته في ان يتقبل المسؤولية عن اثمه، كلاهما، الاثم والحرية، مضفوران معا ولا انفصام بينهما. ان يكون المرء حرا في نظر كافكا معناه ان يعرف وأن يتقبل ذنبه. إذ ليس هناك شيء اسمه حالة براءة.
K هي ايماء الى روح العصر، الى مرحلة جديدة في الرواية العالمية. حين كتب كونديرا عن كافكا، ربط بينه وبين ثرفانتس، فالثاني خلافا للأول الذي افتتح عصر الراوية، أوصل هذا الفن الكتابي الأوروبي بامتياز الى الطريق المسدود، وأفضى به الى المأزق الكبير الذي حوّل الرواية من سرد المغامرات الى الغياب الكلي للمغامرة الجميلة حيث يحل المونولوغ القاتل، وتغيب العناصر الخارجية، وتحضر الأنا المفتتة بكثافة الى جانب العالم المحيط المفتت ايضا والمتناثر. باتت الرواية ايماء الى الدخول في معرفة المجهول، وهذا نلاحظه في معظم الروايات العابرة للالباب. لهذه الاسباب، ثمة ما يشبه الإجماع على أن خالق ك يتمتع بمكانة خاصة في خريطة الأدب الروائي المكتوب في الربع الأول من القرن العشرين، وهي فترة بالغة الغنى على صعيد الحركات الأدبية المختلفة والمتعددة، وكذلك على صعيد الأسماء والأعمال الكبيرة التي كتبت ونشرت في ذلك الحين. ولفرط ما لكتابات كافكا من طابع خاص وبصمة فريدة، اشتقّ من اسمه مصطلح "الكافكوية". فقد كان تأثيره في معاصريه ومن جاء بعدهم كبيرا جدا ولا يمكن إغفاله أو تهميشه في أي حال من الأحوال. فها هو الفيلسوف الألماني أدورنو يقول "إن كل من تمر عليه عربات كافكا سيفقد حتما وإلى الأبد سلامه مع العالم".
قال بول كلوديل: "بالإضافة إلى راسين الذي اعتبره أعظم كاتب، هناك كاتب آخر ينبغي لي أن ارفع قبعتي امامه، هو فرانز كافكا". في كل عام ينال احدهم جائزة نوبل، يؤتى على ذكر كافكا، الذي تأثر به الكثير من "النوبليين"، او الكتاب العالميين الذين تخطوا نوبل. حين حاز إيمري كيرتش جائزة نوبل، قالوا انه "كافكوي" وقبلها تحدث النقاد عن تأثر جوزيه ساراماغو برواية "القصر" في روايته "كل الاسماء". ألبر كامو مثلا كان يكتب مثل رجل مدان، على غرار كافكا تماما، وصرح في أكثر من موضع بإعجابه بكافكا ورأى أن هنالك صلة وثيقة وتقاربا حميما يربط بينهما. صموئيل بيكيت، بأبطاله المهمشين ذوي الأسماء المختصرة وعزلته ككاتب، يدين بالكثير لكافكا. ولا ننسى صادق هدايت في "البومة العمياء"، وبول اوستر في "ثلاثية نيويورك" وفيليب روث في "الثدي". وهلمّ.
في وسعنا أن نقول إن كافكا هو الممثل الأبرز لروح العصر الحديث. حقق نجاحا لافتا في تصوير العدمية التي ألقت بظلالها الداكنة على مجتمع فقد صلته بإله يمنح الفرد نوعا من الطمأنينة الميتافيزيقية والاستقرار النفسي، تماما كما نجح في فضح آثار العقلانية المفرطة للهيمنة البيروقراطية التي توقع الفرد في حبائلها العنكبوتية.

شوقي نجم

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...