رحيـل خالـد تاجـا: مسيرتي حلم من جنون

05-04-2012

رحيـل خالـد تاجـا: مسيرتي حلم من جنون

رحل الفنان السوري خالد تاجا أمس عن عمر يناهز الثالثة والسبعين عاماً بعد صراع مع المرض، غير أن الرجل كان قد حضّر نفسه منذ زمن بعيد، جرياً على عادة كثير من أهالي دمشق. حضّر القبر بنفسه والشاهد، الذي حمل كلمات تقول «مسيرتي حلم من الجنون، كومضة شهاب زرع النور بقلب من رآها، لحظة ثم مضت».
ثم يشير الشاهد على قبره إلى «منزل الفنان محمد خالد بن عمر تاجا من مواليد عام 1939». وترك الرجل تاريخ وفاته الذي يصادف هذا العام السوري المجيد: 2012.
بدأ «تاجا الشامي»، وهذا هو لقبه الأحب إلى قلبه، رغم ذلك اللقب «أنطوني كوين العرب» الذي قال إن الشاعر محمود درويش قد أطلقه عليه، حياته الفنية صغيراً في المسرح، حيث عرف مسارح دمشق وعمل فيها، كما عرف رجال المسرح الكبار آنذاك وعمل مع بعضهم، كعبد اللطيف فتحي، وأنور البابا، وحكمت محسن، وسواهم.
ومن المسرح، دلف تاجا إلى السينما، حيث التقى في المسرح العسكري المخرج اليوغسلافي يوشكو فوتونوفيتش فأسند إليه دور البطولة في أول فيلم سينمائي تنتجه المؤسسة العامة للسينما هو «سائق الشاحنة» (1966). ثم تتالت الأعمال السينمائية في القطاعين العام والخاص، وكان أبرزها «الفهد»، و«رجال تحت الشمس».
ويكتب الفنان الراحل بنفسه في سيرة ذاتية مقتضبة أنه ابتعد عن العمل لمدة 12 عاما بسبب ما أسماها ظروفاً صحية خاصة، وعند عودته قدم أكثر من مئة مسلسل تلفزيوني.
في التلفزيون كانت مسلسلاته المئة كفيلة بأن تضع بين يديه عدداً هائلاً من الأدوار، في بيئات وأنماط فنية مختلفة، فمن أعمال البيئة الشامية في «أسعد الوراق» و«أيام شامية»، و«الحصرم الشامي»، و«أبو خليل القباني»، إلى التاريخية في «خالد بن الوليد»، و«ملوك الطوائف»، و«ربيع قرطبة»، و«صلاح الدين الأيوبي»، إلى الكوميدية في «بقعة ضوء»، و«الفصول الأربعة» و«يوميات مدير عام»، و«أيام الولدنة».. إلى ما هنالك من أعمال اجتماعية معاصرة، كان الراحل يبدو وكأن الماكياج لم يبدل في عمره وهيئته شيئاً، يبدو منذ أكثر من عشرين عاما في السنّ ذاته، غير أنه لعب الأب والمسؤول الفاسد، بل وحتى العاشق والدونكيشوت، أو لنقل ما يشبه الدونكيشوت في العمل الكوميدي «أيام الولدنة» الذي راح يلقي في أناس هذه الأيام خطباً تقرع الفساد والفاسدين، وتراوغ قبضة أجهزة الأمن. ولعل تلك الخطب بالذات هي ما أشعل جبهة الرقابة ضد ذلك المسلسل.
لقد ظهر الفنان تاجا في أحد أدواره وهو يخطب في الناس في ساحة المرجة مقرعاً إياهم على صمتهم وتخاذلهم، وسرعان ما انفض الناس من حوله هاربين. قال تاجا حينذاك ما معناه «إنكم لا تستعملون أرجلكم إلا للهريبة. كنا فقط نجرب صوتنا، ماذا لو بقّينا البحصة؟».
رحل خالد تاجا، الشاميّ الكبير، إلى منزله الأخير، غير أن عزاء محبيه يظل في مئات الآثار التي تركها حولنا، والتي لن تمحى بالتأكيد.

راشد عيسى-  السفير

خالد تاجا: وترجّل «أنطوني كوين العرب»
الدراما السورية تفقد أحد أبرز أعمدتها
بعد الشائعات المتضاربة حول وضعه الصحي، رحل الممثل السوري المخضرم بهدوء أمس في دمشق... كأنّه آثر أن يختار موعد رحيل بنفسه. محمد خالد بن عمر تاجا كما كتب على شاهد قبره، ترك بصمةً لن تمحى في ذاكرة الشاشة السوريّة

 «لم أختر اسمي ولا عائلتي ولا ب

في مشهد من «دمشق مع حبي» لمحمد عبد العزيز

لدي... عليّ إذاً أن أختار موتي»، هكذا قال النجم السوري خالد تاجا (1939 ــ 2012) ذات مرة في حديث له مع «الأخبار». وبالفعل فقد جهّز قبره وخط على شاهدته: «مسيرتي حلمٌ من الجنون كومضة، كشهاب، زرعت النور في قلب مَن رآها لحظة ثمّ مضت». وتحت هذه العبارة أضاف: «منزل الفنان محمد خالد بن عمر تاجا». كأنّه يقول للموت، لك أن تأتي متى تشاء. رحل خالد تاجا ليلة أمس في «مستشفى الشامي» في دمشق بعد أيام من المرض، تضاربت خلالها الأنباء عن صحته.

انسحب الممثل السوري بهدوء بعد سيل شائعات نعته قبل وفاته، كأنّه اختار وقت الرحيل الذي يناسبه. رحيل دراماتيكي أكثر من الأدوار التي لعبها على الشاشة، أضيف إليه تعرّض بيته للسرقة أمس، ضمن موجة النهب التي تجتاح البيوت. السارقون استغلوا وجود عائلة تاجا إلى جانبه في المستشفى، ليسرقوا البيت المليء بالتحف الفنيّة. بطل «رجال تحت الشمس» يشيّع اليوم من جامع الزهراء في المزة (طلعة الإسكان)، ويرجّح أن يوارى في ثرى مقبرة الزينبية في حي ركن الدين الدمشقي، مسقط رأسه.
طوال أربعة عقود، بقي تاجا واحداً من أعمدة الدراما السورية، وأحد أيقوناتها. منذ بداياته، عشق فنّ التمثيل الذي احتل مساحة كبيرة من طموحاته وأحلامه. اختار أن ينطلق في مسيرته من أبو الفنون، فانضم إلى فرقة «مسرح الحرية» في نهاية الخمسينيات. يومها كانت الفرقة تضمّ نخبة من الفنانين الكبار أمثال صبري عياد، وحكمت محسن، وأنور البابا، والراحل عبد اللطيف فتحي الذي اشتهر باسم «أبو كلبشة». خطّ تاجا بداياته على الخشبة، كاتباً ومخرجاً وممثلاً في عروض كثيرة، حتى دهمه سحر الفن السابع.
كان لتاجا دور كبير في انطلاقة السينما السورية، وفي أولى إنتاجات «المؤسسة العامة للإنتاج السينمائي». أدّى دور البطولة في «رجال تحت الشمس» (1970) عن رواية غسان كنفاني مع المخرج نبيل المالح. وتحت إدارة هذا الأخير، أدّى أيضاً دور البطولة في فيلم «الفهد» (1972). حينها كانت السينما السورية تعيش عصرها الذهبي، مع حضور قوي للقطاع الخاص. مع تراجع السينما السورية، توقف تاجا عن التمثيل فترة طويلة، ثم عاد ليحقق نجاحات تلفزيونية كبيرة، في عشرات الأعمال الدرامية، ويحتل مكانةً في ذاكرة الجمهور، من «جريمة في الذاكرة» و«أيام شامية» (1992) إلى «الزير سالم» (2000)، و«الفصول الأربعة» (1999 و2002)، و«التغريبة الفلسطينية» (2004) و«زمن العار» (2009). كذلك كان حضوره ممتعاً في الكوميديا، وخصوصاً دوره في «يوميات مدير عام» (1995).
بصمته الخاصة، وتمكّنه من أداء مختلف الأدوار، من التاريخي، إلى الكوميدي والاجتماعي، جعلت الشاعر الراحل محمود دوريش يطلق عليه لقب «أنطوني كوين العرب». لم يعتذر يوماً عن عدم أداء دور بسبب صغر حجمه. فقد ظلّ يردّد أنه لا دور صغيراً، ولا دور كبيراً، بل هناك ممثل صغير وآخر كبير. هكذا استطاع أن يحصن نفسه من أي هبوط أو فشل، إذ كان يقدم مستوىً عالياً في الأداء، ولو شارك في أعمال هابطة.
حكاية تاجا مع المرض قديمة مر عليها ما يقارب نصف قرن عندما اكتشف أنه مصاب بسرطان الرئة. لكنّه تغلّب على الورم الخبيث في حينه، وواصل حياته بشكل طبيعي، ولو برئة واحدة. ذات مرّة، خضع لعملية خطيرة فرفض التخدير الكامل، وظلّ يراقب مباضع الجراحين تعمل حفراً في جسده، من خلال شاشة مثبتة في جسده. لم يراعِ بطل «الحصرم الشامي» وضعه الصحي، فظل طوال حياته يشرب العرق، ويدخن بنهم، إلى جانب هوسه بالتحف والشرقيات. ملأ بيته بها، وجمعها بشغف شديد، وبقي يرفض إجراء أي لقاء تلفزيوني في منزله، خوفاً على تلك التحف التي كان يرتبها بيده. لم يكن يوفر فرصة للنزول إلى سوق الأثريات في حي مدحت باشا في الشام القديمة، للبحث عن كنوزه الأثيرة.
خبر وفاته حلّ كالكارثة على أصدقائه في الوسط الفني. صديقه المقرب عبد الهادي الصباغ لم يجب على اتصالات «الأخبار». أمّا الممثلة سمر سامي فقالت لنا: «ربما كان يحق لنا أن نحسده على رحيله بهدوء في زمن الموت المفاجئ والقاسي الذي نعيشه». رفيق دربه المثل سليم صبري يتذكّر كيف جمعتهما دروب المهنة منذ الخمسينيات، ويقول: «لا يمكن الموت أن يغيبه؛ لأنه حفر مكانه عميقاً في وجدان رفاقه ووجدان جمهوره العريض». وهذا ما يؤكّده الممثل رشيد عساف الذي يقول إنّه «بالتوازي مع أهمية فنه، فقد كان إنساناً وفناناً ورجلاً عظيماً (...) ولا يمكن أن تتصوّر الحركة الدرامية من دونه».

وسام كنعان - الأخبار

بطل الظلّ
ليس خالد تاجا «أنطوني كوين العرب» لأنّه ببساطة لا يشبه إلا نفسه. ممثل من طرازٍ خاص صنع نجوميّته على دفعات عبر الخبرة المتراكمة، والإنصات إلى روح الشخصية من الداخل، وامتصاص رحيقها حتى الشغف. حضور استثنائي يضفي بصمته الشخصية على الدور الذي يلعبه مهما كان صغيراً. زخرفة غير مرئية تتسلل إلى الشخصية فتصبح جزءاً منها، وليس ديكوراً برانيّاً يثقل حضورها. هكذا أقصى النمطية جانباً، وأماط اللثام عن سيَرٍ حياتية لأشخاص بلا سيرة. السيناريو المكتوب هو مجرد مادة خام، سيطرّزها بإبرة حائك ماهر، يرفو الثقوب جيداً، ثم يضع كلمة السر في الخيوط المتداخلة للشخصية. وإذا بها تحتل الكادر، بنبرتها وروحها. في الشريط الطويل لأعماله، سنتوقف بذهول أمام عشرات الأدوار. يكفيه دوره في «التغريبة الفلسطينية» كي يقف على القمة منفرداً، فالنجومية تصنعها أقدار الشخصيات التراجيدية في المقام الأول. من موقعه كممثل بلا ألقاب، تمكّن خالد تاجا من تحطيم القوالب الجاهزة. منذ ظهوره الأول في فيلم «سائق الشاحنة» (1966)، مروراً بمسلسل «هجرة القلوب إلى القلوب»، إلى «زمن العار». كان الورقة الرابحة في هذه الأعمال، إنه «بطل الظّل»، ذلك الذي يسحب البساط نحوه بخفّة ساحر، لينسج حكايةً موازية لما يجري على الجانب الآخر من الكادر. سنخطئ إذا اعتبرنا أن الموهبة وحدها أوصلت خالد تاجا إلى هذه المرتبة. هناك الحدس أيضاً، والشغل على قماشة الدور في طبقاتها المخفيّة. فرز الألوان ثم خلطها بمهارة على السطح. تاريخ مشبع بالتجربة والمغامرة والترحال. الفشل والنهوض مرّةً أخرى. الانتباه إلى مقترحات الأجيال الجديدة، والانخراط فيها، لاغياً المسافة إلى حدودها القصوى. شغف في مسرح مؤجل ومغيّب، وخشبة لم يصعدها، منذ زمنٍ طويل، ليجلس على كرسي «الملك لير»، الدور الذي طالما حَلُمَ بتحقيقه إلى آخر يومٍ في حياته. رحل خالد تاجا بسبب نقص في الأوكسيجين وتلفٍ في الرئة. لكن، ألم يستهلك أوكسيجيناً أكثر مما يحتاج إليه بضغط من شغفه الفائض بحياة شخصياته المتخيّلة التي امتصت طاقته كاملةً؟صحيح أنّ الخبر الذي انتشر منذ أيام عن نية حذف القُبَل من بعض الأفلام المصرية كان مجرّد شائعة، إلّا أنّ الأكيد أنّ عدداً من النوّاب الإسلاميين تقدّم فعلاً بطلبات تهدف إلى حذف كل «المشاهد الساخنة» من الأرشيف السينمائي.

خليل صويلح- الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...