دعوا صباح وشأنها

16-02-2013

دعوا صباح وشأنها

عمر صباح 86 عاماً. عمرها 86 عاماً، أعيدها. أعيدها مرةً بعد. عمر الستّ صباح 86 عاماً. أين المشكلة في ذلك؟ أين العيب؟ أين المصيبة؟ هل هي الثمانينيّة الوحيدة على وجه الكوكب؟ صباح من جيل جدّاتنا، والجدّات بركة، وحكايات، وحضن، وحبل سريّ. هل صار ذلك الجيل من الجميلات، فصيلةً تستحقّ الانقراض؟
انتشرت شائعة جديدة بالأمس، من تلك الشائعات المعتادة حول وفاة الشحرورة. وبالأمس أيضاً، تناقل روّاد مواقع التواصل نكتة سمجة، تقارن بين «الصبوحة»، والبابا بنديكتوس السادس عشر. انتشرت النكتة بواسطة صورة مركّبة، فيها من جهة، لقطة تصوّر البابا المستقيل يعلن تقاعده لأنّه بلغ الخامسة والثمانين. وفي الجهة الأخرى، لقطة للسيدة صباح، تستغرب خطوة الحبر الأعظم، لأنّها لم تتقاعد بعد، رغم تجاوزها ذلك العمر. لقاء مع الشحروة في مجلة «المغامر» اللبنانية في العام 1963 تحت عنوان «صباح تطل من وراء مآسيها»(عن صفحة «أنتيكا» على «فايسبوك»)
باتت كلّ تلك الشائعات والنكات حول حياة الصبوحة وموتها، مثيرةً للقرف. كأنّ السخرية من عمر صباح، صارت أمراً بديهياً، وثقافة سائدة، مثل النكات عن شركة الكهرباء! كأنّ هناك من يحمل عدّاداً يقيس به نبضات قلب صباح، وأنفاسها، ويريد أن يحاسبها، لأنّها ما زالت على قيد الحياة. أليس هذا بشعاً؟ لمَ كلّ تلك القسوة؟ هل قتلت صباح أحداً؟ هل سرقت ونهبت ونكّلت بالفقراء مثلاً؟
اعتزلت صباح الشأن العام منذ فترة، وندُرَت إطلالاتها التلفزيونيّة. بأي حقّ يلاحقها العام إلى الخاص، بعدما اختارت الانسحاب من دون جلبة؟ وبأي حقّ يكون مرضها مسألةً هزليّة؟ إن كانت صباح قد اختارت أن تعيش حتى الثمالة، ما دخلنا نحن بذلك؟ هل أخذت شيئاً من درب أحد؟
الشحرورة صباح اليوم في السادسة والثمانين. وعمر صباح جميل، لأنّها جعلت منه فرصةً لتمنحنا لحظات فرح. بدأت الغناء في سنّ صغيرة، ووهبت ما يقارب الستة عقود من حياتها، للغناء، والموسيقى، والسينما، والموضة. وذلك ليس بالأمر السهل، ولا بالعطاء البسيط. شائعات موت صباح، بخِفَّتِها، تشي بأننا كمجتمع، نقارب العطاء الفنّي عموماً، باستهتار. تشي بخللٍ عميق في قدرتنا على فهم قيمة الحيوات وقيمة ثمارها.
تتراوح نظرتنا إلى عمالقة الزمن الجميل بين التقديس المطلق، أو التجاهل التام. وكلا الأمرين يظلم فنانين صنعوا لنا ذاكرةً صمدت رغم الحروب، والإهمال. نريد من صباح مثلاً، أن تكون قديسة. لهذا، تستند بعض النكات الرائجة عن الصبوحة، إلى زيجاتها الكثيرة. ما المشكلة لو تزوجت صباح خمسين مرّة؟ آلهة الحبّ كانت مزواجة في خيال البشريّة الأولى. وصباح إلهة حبّ، أحبّت، وتدلّعت، وشغلت خيال رجال عصرها.. أين الغلط؟ لا نحتاج للتفكير مطولاً، لنفهم لماذا نجد دوماً من يعيب على صباح أسلوب حياتها. المعادلة بسيطة: أيّ امرأة لا تلتزم مبدأ الشريك الواحد، تكون ارتكبت الخطيئة المميتة. حتى صباح، لم تنجُ من الرجم، ومن سهام العقليات الرجعيّة.
تفقدنا شيخوخة صباح الصبر. يربكنا وجودها، «حتّى الآن». كأنّ لنجمات الغناء صلاحيّة استخدام، تنتهي بعد الأربعين مثلاً. صوت صباح لا يشيخ، وقد أثرى أرشيف السينما والتلفزيون والإذاعة، بريبرتوار ضخم، لن ينضب. صورة صباح لا تشيخ أيضاً، إذ فرضت الشحرورة نمطاً خاصاً من الجمال والأناقة على الشاشة لعقود طويلة، وتركت بصمتها في الدلع والرقّة، ما جعلها أيقونة، ربما لن تتكرّر في تاريخنا المعاصر.
دعكم من احتساب عمر صباح، وإطلاق النكات عليها. وفّروا على أنفسكم هذا العناء. ادخلوا موقع «يوتيوب» وابحثوا عن أغنية من أحد أفلامها القديمة. ستقتلكم بنعومة. سترون كيف أنّ عيون الصبوحة، ما زالت تلمع اليوم، كما كانت تلمع قبل 50 عاماً. عيون صباح لا تشيخ. انشروا أغاني صباح على جدران «فايسبوك»، وأرسلوها لكلّ من تحبون، وحمّلوها على هواتفكم، واسمعوها كلّ يوم في طريقكم إلى العمل. «ساعات ساعات»، «أخذوا الريح»، «يا دلع»، «أيام اللولو»، «أنا هنا يا ابن الحلال»، «يا حبيبي يا حياتي»، «عاشقة وغلبانة»، و«ألو بيروت»، وكلّ الروائع الأخرى.. ابحثوا عن صورها على صفحات الإنترنت، تأملوا فساتينها، وأقراطها، وتسريحات شعرها، وجواربها، وأحذيتها، وابتسامتها. ستدركون كم نحن محظوظون لأنّنا عاصرنا تلك السيدة الجميلة. في النهاية، من نحن لنحاكم صباح؟ من نحن لنقاضيها إن عاشت أو لم تعش، إن تزوجت ألف مرّة أو لم تتزوج؟ من نحن لنحاسب سيدة أقبلت على الحياة بنهم، في حين أنّ كلّ ما نتقنه، هو هدر حيواتنا وحيوات غيرنا؟ فلندع صباح وشأنها.

سناء الخوري

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...