احتفاء بمحمود أمين العالم

25-02-2007

احتفاء بمحمود أمين العالم

تحتفل الأوساط الثقافية المصرية والعربية هذه الأيام ببلوغ المفكر المصري محمود أمين العالم سنته الخامسة والثمانين، أمد الله في عمره، فهو من مواليد شباط (فبراير) 1922. ومحمود أمين العالم وجه بارز من وجوه الثقافة العربية المعاصرة، ومساره في الفكر والثقافة والنضال السياسي طويل وخصيب وعصيب، سنقف فيه وقفات سريعة عند ثماني محطات.

الأولى: هي استغراقه، أثناء شبابه الأول، في فكر عبد الرحمن بدوي (الوجودي مترجم «الوجود والعدم») ويوسف كرم (صاحب «علم النفس التكاملي»). وهي المحطة الفلسفية التي نتج منها كتابه المعروف «فلسفة المصادفة».

الثانية: هي التقاؤه المباغت بكتاب لينين «المادية ونقد العلم التجريبي»، وهو اللقاء الذي تحول به الباحث الشاب من الفكر الفلسفي شبه الوجودي إلى الفكر المادي الجدلي التاريخي. ثم إنه التحول الذي تسبب في فصله من جامعة عين شمس (1945)، مع عبد العظيم أنيس، في حملة التطهير التي قادها عبدالناصر «لتنظيف» الجامعات من الأساتذة المناوئين للثورة الفتية.

الثالثة: هي كتاب «في الثقافة المصرية» (1955) الذي أصدره مع عبدالعظيم أنيس، وهوالكتاب الذي أحدث دوياً هائلاً في الأوساط الثقافية والعربية، آنذاك، (كتب مقدمته المفكر اللبناني حسين مروة)، إذ ناقش فيه كاتباه أعمال توفيق الحكيم وطه حسين ونجيب محفوظ وعباس العقاد نقاشاً مجترئاً، وأعلنا فيه أولولية المضمون الاجتماعي على الشكل الجمالي. وقد اعتبر هذا الكتاب، ساعتها بمثابة «بيان الواقعية الاشتراكية» في النقد المصري الحديث. كما آثار الكتاب ثائرة التقليديين والمحافظين وبعض المعتدلين، بل وبعض رفاق الطريق، وساجله العقاد في مقالات عنيفة ذكر فيها أن هذين الكاتبين شيوعيان، وأنه «لا يناقشهما، بل يضبطهما»، في ما يشبه بلاغاً إلى مباحث أمن الدولة.

الرابعة: هي محطة الاعتقال الشهير (1959-1964) في الحملة التي شنها عبد الناصر على التنظيمات الشيوعية بأسرها. وهي المرحلة التي انتهت بأن حل الشيوعيون المصريون - وهم داخل السجن - تنظيماتهم السياسية، ومن ثم خرجوا للحياة العامة ليتقلد الكثير منهم المناصب الثقافية القيادية، بعد انضمامهم للتنظيم الطليعي. والتنظيم الطليعي تنظيم داخل الاتحاد الاشتراكي العربي. ومن طرائف هذا التنظيم أنه كان «سرياً» على الشعب «علنياً» على الاستخبارات (كان وزير الداخلية، شعراوي جمعة، رئيسه)، وفي فترة الوفاق السياسي هذه، تولى محمود أمين العالم رئاسة مؤسسات ثقافية وصحافية عدة ثم ما لبث هذا الهناء العائلي أن بدأ يتصدع بهزيمة 1967، ثم تحطم كلية برحيل ناصر 1970.

الخامسة: بدأت مع تولي السادات، وتضييقه على معظم المثقفين الخناق، فرحل العالم إلى باريس بعد أن طاله رذاذ الاتهام بالتضلع في ما سمّاه السادات مؤامرة مراكز القوى (1971)، وبعد أن فُصل مـــن الاتحاد الاشتراكي العربي ومن التنظيم الطليعي. وفي فترة فرنسا - التي امتدت عقداً كاملاً من منتصف السبعينات إلى منتصف الثمانينات، أنشأ العالم، بالاشتراك مع ميشيل كامل، مجلة «اليسار العربي» كمنبر لكل الاتجاهات اليسارية العربية.

السادسة: هي دخوله - بعد عودته إلى مصر - انتخابات مجلس الشعب (البرلمان)، لا لكي ينجح أمام عتاولة الحزب الوطني المزيفين، بل لكي تتاح له بضعة شهور يلتقي فيها مع الجماهير في مؤتمرات وتجمعات مباشرة، محمية بالشرعية القانونية، يدعو فيها إلى برنامجه التقدمي وتصوراته المستنيرة لمستقبل الوطن في العدل والحرية والكرامة البشرية (وقد كنا ضمن اللفيف الذي يتحرك معه في هذه الجولات).

السابعة: هي تأسيسه «دار العالم الثالث» ومجلة «قضايا فكرية» ككتاب غير دوري يختص بالدراسات الفكرية التي تبحث شؤون الوطن والمواطن وقدمت «قضايا فكرية» أعداداً تأسيسية مهمة.

ثامنة هذه المحطات: هي رئاسته لجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة، وإصداره - عبر هذه اللجنة - مجلة فلسطينية متخصصة.

هذا اختصار مخل لمسار عارم عميق، نسينا منه أضعاف ما ذكرنا، ولكنه مجرد ومضات بسيطة دالة على وهج حار متصل في مسيرة حارة متصلة، خرج خلالها للمكتبة العربية ما يربو على ثلاثين كتاباً متوجهاً إلى صميم الوعي العربي الحديث.

لعل الدروس التي يجسدها – وما زال يجسدها - محمود أمين العالم، بشخصه وكتبه وسلوكه، للحياة الفكرية المصرية والعربية، كثيرة، لكنني سأقتصر منها الآن على خمسة دروس جوهرية:

الدرس الأول: هو الرؤية الشاملة المتكاملة التي لا تنحشر في مجال ضيق واحد، تتكون هذه الرؤية من البعد السياسي والبعد الفلسفي والبعد الفكري والبعد الشعري والبعد العلمي والبعد التبشيري، يتجادل فيها التجريد مع التعيين، ويتضافر العلم مع الشعر، وتتلاقح البراغماتية مع الهيومانية المتسامية، ويتصل النظر مع العمل، ويتعانق التكتيك الجزئي مع التبشير المفتوح. هنا مثال جلي للمثقف العضوي الذي يتحدث عنه المفكرون. وهو المثقف الذي يمزج النظرية بالتطبيق. وينزل من برجه العاجي إلى الشارع العادي، ويلتحم بالناس، فتغتني النظرية بالعمل، ويغتني العمل بالنظرية، مصداقاً للحكمة الصائبة التي تقول «النظرية رمادية، لكن شجرة الحياة خضراء».

الدرس الثاني: هو الحيوية الفكرية والمرونة العقلية، التي تجعله يراجع أفكاره ويعيد النظر في رؤاه كل فترة، من دون أن يتحرج، ومن دون أن يتورع عن «النقد الذاتي»، وثمة مثالات - ضمن أمثلة عدة - على هذه المراجعة الفكرية غير المتقولبة في أقفاص حديد صماء: الأول هو نقده للنفس وللجماعة في ما يتصل بمسألة حل الأحزاب الشيوعية داخل سجون عبدالناصر. والثاني هو تعديله للموقف الذي اتخذه - هو وعبدالعظيم أنيس - في كتابهما القديم «في الثقافة المصرية» من إغفالهما أهمية الجانب الشكلي الجمالي في الأدب لحساب المضمون الاجتماعي والسياسي. وقد فسرا ذلك، في مقدمة الطبعة الثالثة من الكتاب، الصادرة عن دار الثقافة الجديدة في مصر العام 1989. بأن ذلك حدث في لحظات كانت تحتدم فيها المعارك الوطنية والاجتماعية، وبعدم امتلاكهما آنئذ الوسائل والآليات الإجرائية التي تمكنهما من كشف العلاقة بين الصياغة والمضمون، أو بين القيمة الجميلة والدلالة العامة.

الدرس الثالث: هو الإيمان العميق (نظراً وسلوكاً) بالتعدد والتنوع والحوار الفكري، وبعدم امتلاك أي تيار فكري للحقيقة المطلقة وحده. فعلى رغم مرجعيته الاشتراكية، فقد كان يجسد دائماً مقولة الإمام الشافعي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». من هنا لم يكن الرجل من فصيلة «الدوغما» يميناً أو يساراً - التي ترى أن رأيها هو الحق الأوحد، وأن رأي الآخرين هو الخيانة المطلقة أو الكفر المطلق.

الدرس الرابع: هو تقديمه النموذج الناضج لفكرة «القطيعة»، سواء القطيعة مع المؤسسات أو مع التراث أو مع الغرب. المبدأ الهادي هنا: لا الاندراج الكامل، ولا الانكار الكامل، فكلا الموقفين عبث وعدم. والقطيعة المعرفية الجدلية الصحية هي: الاستفادة من الجوانب المضيئة، من دون اندياح كامل أو تسليم مطلق. ورفض الجوانب السلبية من دون نفي مطلق أو حذف كلي، هذه الصيغة هي صيغة «الندية»: لا تبعية، ولا إلغاء.

الدرس الخامس: هو التعضيد الكامل للتيارات والمدارس الأدبية الشابة الجديدة. وهو ما تجلى مرات عدة: مرة حينما أيد على صفحات «اليسار العربي» (في باريس أوائل الثمانينات) التجارب الثقافية المتمردة في جيل السبعينات التي عبرت عن نفسها في المجلات المستقلة العديدة التي ملأت الحياة الثقافية آنذاك برعشة جديدة، كتب عن هذه الظاهرة وعضدها واصفاً إياها بـ «ثورة الماستر» وبـ «الثقافة البديلة» وبـ «إبداع الفقراء» ومرة حينما أدخل نفسه في صلب التجارب الشعرية الشابة، مستمعاً وقارئاً ومتسائلاً وفاحصاً، كاتباً مقالات عدة عن بعض هؤلاء الشعراء الجدد في مجلة «إبداع» وغيرها أوائل التسعينات. ومرة حينما احتضن عبر «قضايا فكرية» مجموعة من المفكرين والباحثين الشباب الواعدين. المغزى هنا: عدم تمترس المفكر أو الناقد في «خاناته» القديمة، بل سعيه إلى التعرف على الجديد والتفاهم معه وفهمه ومساعدته حتى لو كان هذا الجديد ينطوي على نقد أو تجاوز «الخانات» السابقة للمفكر أو الناقد.

هذه بعض الدروس التي يجسدها حضور العالم في حياتنا الثقافية. وقد يختلف قليلون أو كثيرون مع محمود أمين العالم (فكراً أو سلوكاً أو مواقف)، لكن أحداً لا يختلف على هذه القيم الخمس التي يجسدها الرجل. والتي هي غيض من فيض، نتذكرها اليوم وهو يبلغ سنته الخامسة والثمانين، لكي نقول له: كل سنة وأنت محمود، كل سنة وأنت أمين، كل سنة وأنت عالم.

حلمي سالم

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...