أجهضت في السادسة عشرة.. وانتهت عانسا

16-11-2009

أجهضت في السادسة عشرة.. وانتهت عانسا

لم تلحظ يوماً أني أعرف قصتها, ولم أحاكمها كلما رأيتها تسير في الشارع بوشم على كتفها, كما يفعل الجميع!! تعمدت أن أودها بسلام عابر على الطريق, خاصة بعد أن عممت الجارات على بناتهن, وأخواتهن الابتعاد عنها. الفتاة التي اقتربت من الأربعين, ورغم قصص الغرام المتكررة لم تحظ بزواج يحميها, ولا بشاب يطمح لأن يكسب حسنة الستر عليها ..
كل من مروا عليها تعاملوا معها من خلال ما سمعوا, سواء حقيقة أو ثرثرات موسعة, طمحوا لاستغلال جوعها لزوج يحمي القادم من أيامها, ومارسوا أحلامهم بانتصارات على أجنداتهم الحمراء موقعة بجسدها, أو جسد غيرها..
خضعت الفتاة حسب رواية أحد أقاربها لعملية إجهاض بعد أن تخلى عنها الجاني, وأقول أنه جاني, تأكيدا على الجريمة, لأن هذه الواقعة, حدثت قبل أن تبلغ الفتاة السابعة عشرة, من عمرها, لذلك لم يحتج الجاني كثيرا من الحنكة لإقناعها بالتخلص من الجنين, وفي ظروف مثل ظروفها الأسرية, وعملها الطويل خارج المنزل, وحالة التسيب العامة, وميل المجتمعات للتستر على هذه المشكلات, يسهل أن تمر الأمور تحت ستار الكتمان, حتى عن الأخوات, والأم..
في السادسة عشرة, لكن بعود فارع, وأحد عشر أخاً وأختاً, وأب حسب المفهوم الدارج(( على البركة )) وأما الأم فقد دفعها الفقر لقبول عمل بناتها اللواتي خرجن من مدارسهن حين لم يجدن مكانا للدراسة بين أحجار نرجيلة الأخ الكبير المستهتر, وأصدقائه الكثر الذين يسهرون في الغرفة الوحيدة القديمة "ليناغشوا" المراهقات الصغيرات, ويسرقوا من غضاضة أجسادهن متعة نظرهم ..
ليس حديثي هذا تبريراً لسلوك منحرف سحق هذه الأسرة البسيطة, ولا إدانة لها وحدها, وإنما انحيازا لشرح الضياع من منظور أكثر رحمة. فالفتاة المقصودة, وهي أكبر الفتيات تخرجت من قبو معمل يملكه رب عمل من الدرجة ما تحت العاشرة, ويؤمن بحقه في الاستغلال الكامل لعاملاته, بدءا من طاقة العمل وانتهاء بأجسادهن التي أباح لنفسه بما أنه يدفع, أن يشتري كل شيء, بسلطة اللقمة, وأي سلطة للقمة حين نتكلم عن الجوع الكافر.
خرجت من المعمل لتصبح بياعة في محل عطورات, له مالك آخر لكن معطر, وبدوره أصبح صديق العائلة, وبنظرته الثاقبة اكتشف ضعف صيده, وسقوط الحماية الأبوية, واستغل الأفواه الكثيرة الجائعة ليغذي جوعه لجسد مراهقة, فيمرر هداياه المقبوضة الثمن سلفا, كسبا لود الكبير قبل الصغير, وصارت وجبة الغداء المدججة باللحم, تعطيه حق اعتبار البيت بيته, وجميع من في البيت في خدمته..
أنا لا أتهم الأسرة بإدارة دعارة على بناتهن, لأن هذا بعيد عن تعاطيهم البسيط مع المسألة, ولكن سذاجتهم و وحاجتهم, قادتهم لاستقبال الأصدقاء بدون احتساب, وقبول هداياهم مزيج من كل ما مروا به من خيبات, وسواء كانوا مدركين, بعضهم أو كلهم لحقيقة الموقف, فأنا هنا لا أحاكم, ولا أحدد المسؤولية, أو أنحر كبش فداء على مذبح الشرف, فداءا لكل خطايا بشر لم يتثقفوا ثقافة الكرامة في بلاد الخوف, والجنس, والتدين...
فتاتنا المراهقة التي اختبرت قتل جنين لم تحمل لها الحياة فيما بعد بديلا عنه, أصبحت عانسا تنوء من تنقلاتها بين أظافر زبائنها في صالونات الحلاقة, والرجل الذي عرفه الكل دون أن يسألوه عن الأمر, لم يلعنه الناس كما لعنوها, وتوعدوها, وبصقوا على خيالها كلما مرت ..
مرت الفتاة بالإحباط تلو الإحباط, وسارت هربا من ضياعها الملموس, من عار إلى عار, ومن عمل إلى عمل أكثر إذلالاً, وأكثر قربا من فلسفة الشوارع .. وكلما مر عام تنضم أخت من الأخوات إلى قائمة العوانس في تلك العائلة الهزيلة.. ويرتفع وشم جديد على كتف جديد, فأي شيء يمكن أن يحصل عندما تدرك فتاة أن قميص عفتها قد تمزق على الملأ, وأن الأزقة المرتهنة للشهوة, قد رفعت سيوفها, وامتلأت شرفاً!! ليحققوا ما عجزت عنه السكاكين من حز و دمويه, لكن في خط آخر ربما يكون أقسى, خط العقاب الجماعي , والحرق الجماعي, وتعميم أسماء بنات هذه الأسرة, على الجميع, بوصفهن قد خرجن من تحت أردية العفاف, ولم يلفوها على أجسادهم ليخفوا عورة المجتمع, كما يفعل الآخرون, براءة, ضمن إيمانهم الراسخ بأن من يبتلي بالمعاصي لا بد أن يستتر.. وإلا فهو الجاني على نفسه وعلى أهله, وأما احترام الذات, فتلك ثقافة بعيدة بعيدة عن عقلية أزقتنا المتوهجة الشهوات, في ليل, أو ظلمة مفتعلة, أو زاوية بعيدة عن عين الرقابة ..

ميس نايف الكريدي

المصدر: الثرى

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...