ثمار دخولنا منظومة الاقتصاد من بوابة «الاستهلاك لا الإنتاج»

08-08-2010

ثمار دخولنا منظومة الاقتصاد من بوابة «الاستهلاك لا الإنتاج»

الكل يريد مالاً.. يبحثون عن الإنفاق، ويعانون هوس الاستهلاك، شريطة ألا يرتبط ذلك ببذل الجهود ومضاعفة العمل.
ما تقدّم، وتحديداً انفتاح بوابة الاستهلاك، أوجد ظاهرة الاتكالية والكسل العام.
خبراء الاقتصاد أرجؤوا السبب إلى ضعف ماكينة الإنتاج، وما نتج عنها من الكسل والإهمال والتسيّب، ومن جهة أخرى دخولنا منظومة الاقتصاد الحديث من بوابة الاستهلاك، وليس الانتاج، في حين يرى العديد منهم أنّ الأمر مرتبط كلياً بموضوع دخول أموال القطاع الخدمي

(التأمينات، البنوك والمصارف، سوق الأوراق المالية، شركات الاتصالات، وما شابه)، وما نجم عن ذلك من اختلافات متباينة في منح الرواتب والأجور، الأمر الذي أدّى إلى ضخّ الأموال وانتعاش فئات معيّنة من المواطنين صاحَبَها انكبابٌ على الإنفاق والاستهلاك.
أيضاً نجم عنها ظاهرة الاستسهال والكسل والإهمال والشعور بعدم الجدوى، والبحث عن زيادة الدخول دون بذل الجهود، إضافة إلى زوال بعض المهن والأعمال.   
 ¶ الصورة كما هي
في العديد من المؤسسات تجد من يتسامر الحديث مع جاره في المكتب حول ضعف الدخل والغلاء، وكيفية بلوغ القمة والثراء، وأضابير المواطنين مكدّسة فوق مكتبه، وعندما ينتفض المواطن مطالباً بإضبارته والسرعة يلقى جواباً ساخناً فيه قدح وذم تحت عنوان «ألا ترى حجم الأضابير أمامي، انتظر حتى يأتي دورك»، وعلى النقيض تماماً، وفي مكاتب القطاع الخاص تجد الرعاية والاهتمام «وكلو بحسابو»، على أنّها ليست ظاهرة معممة في القطاع الخاص، فهناك العديد من القطاعات التي تشهد كسلاً وروتيناً.. وفي السوق تجد الكسل ضارباً أطنابه.. الكلّ بات يعتمد على الفرصة، وينظر إلى المستهلك بعين الصيّاد، فإذا ما أتاه الرزق متواضعاً يرفضه في انتظار «خبطة اليوم».
وعلى سيرة «الخبطة»، قصد سين من المواطنين ساحة باب الجابية، بحثاً عن عاملين لينقلا عفش بيته المتواضع، فوجدهم أكواماً على شكل جزر يتسامرون ويتسمرون، مطالبين إياه بمبلغ عالي القيمة جداً.. حاول تخفيضه لكنه لم ينجح، ففضّل نقله بنفسه، وهم فضّلوا القعود والكسل على نقله دون هذا السعر.
أمام هذا القعود والاستكانة تجد الكلّ يتحدّث، ليس عن فرص العمل، وإنما عن كيفية تحقيق الثروة وبلوغ الثراء.

¶ إنه الاستهلاك
بغضّ النظر عن الدخول والأجور، لا أحد يستطيع أن ينكر وجود سيولة لدى المستهلك الذي أمتع نفسه في الاستهلاك، فكلّ شيء متوافر ومتاح، يقول سمير الجاجة، نائب رئيس جمعية حماية المستهلك: «قد يكون الاستهلاك وارتفاع نسب معدلاته أحد الأسباب الرئيسية في تمثيل حالة الكسل والاتكالية، بدليل أنّ المواطن يدفع ثمن هذه الاتكالية من خلال خدمة التوصيل إلى المنزل لشتّى السلع، حتى لو لم يتعدَّ الأمر ربطة الخبز، كأن يطلب قاطن من «السوبر ماركت» القائم أسفل بنايته أن يرسل له سين من السلع، ويفضل دفع ثمن هذه الخدمة على أن يكلّف نفسه عناء إحضار الأشياء بنفسه.
إذاً، يمكننا أن نعتبر ظاهرة خدمة «السرفيس» المنتشرة حتى في مساكن الأحياء الشعبية دليلاً على ظاهرة الاتكالية المرتبطة بالمطالبة الدائمة برفع الرواتب والأجور.. والغريب أنّ الإنفاق على هذه الأشياء الزائدة باتت تخصص لها ميزانيات، وتعتبر من أساس الإنفاق على متطلبات المعيشة». 
ويضيف الجاجة: «من خلال خبرتنا الميدانية على أرض الواقع نجد العديد من التجار والباعة الذين يشكون الركود والكساد وتراجع نسب البيع وهامش الأرباح، وتجدهم، في المقابل، يفضلون عدم البيع على كسر الأسعار وتخفيضها، ويتنازلون عن غلّة يوم عمل مقابل عدم تنازلهم عن غلة وهامش ربحهم، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الكلّ قد استسهل الحياة ويريد الثروة والمال في أقصر زمن ممكن دون بذل الجهد».  
 ¶ كسل لا إحباط 
هناك من يرجع ظاهرة الكسل العام والاتكالية إلى الإحباط النفسي والاجتماعي الناجم عن ضيق الحال، وعدم الشعور بالجدوى من العمل، والطموح وقلة فرص العمل، وتدني كتلة الأجور مقابل كتلة الإنفاق، وعدم توازن الجهد مع الأجر، وخلافها من المسميات، على أنّ الخبير الاقتصادي هيثم ناصر يجد الأمر مرتبطاً تماماً بموضوع القطاع الخدمي، الذي منح رواتب وأجوراً عالية بأقلّ جهد، خلاف من يعمل مثلاً خلف ماكينة الإنتاج أو من يعمل في مهنٍ يدوية تتطلّب خبرة وجهداً، وانعكاس هذه الأجور برفاهية هذه الفئات خلاف العامة.. الأمر الذي جعل الكلّ يبحث عن فرص عمل لها علاقة بتقديم الخدمة، ما معناه أنّ الكل استسهل العمل، واتجه نحو الاتكالية والكسل، لجهة أنّ القطاع الخدمي لا يعتبر اقتصاداً حقيقياً، ولا يشكل فرصة عمل حقيقية، على أنّه أوجد سيولة نقدية انعكست في رفاهية العاملين فيه واستمتاعهم بالاستهلاك».  ويتابع ناصر: «ودليلنا على أنّ الإحباط لا علاقة له بهذه الظاهرة تحوّلُ العديد من المهن إلى مهنٍ أخرى تحقّق دخلاً، ولا تتطلب جهداً، كأن يتحول الخياط إلى بيع الخضار والفواكه، والميكانيكي إلى بيع قطع الغيار وخلافها».   
 ¶ ضعف ماكينة الإنتاج 
الخبير عيد أبو سكة ربط الأمر بموضوع ضعف ماكينة الإنتاج، التي انعكست في ولادة قيم اجتماعية جديدة تتناسب وحالة الكسل العام، كما ربطها بموضوع الأزمة الاقتصادية العالمية، ومن وجهة نظره: «هذه الظاهرة تعزى إلى ضعف الإنتاج.. وفي المحصلة النهائية لا بد من الاعتراف بأننا نعاني من مؤشرات اقتصادية ضعيفة في مكان ما، وقوية في مكان آخر، وبشكل عام نعاني ضعف ماكينة الإنتاج، وهذا ما يترجم بالضعف والكسل والإهمال والتسيب.
التسيب في خط الإنتاج يجعل الإنسان يبرّر لنفسه ما لا يتوجب تبريره.. ويقوده نحو العمل السهل، والابتعاد عن شرف المهنة، والانتماء الحقيقي إلى هذه المؤسسة.. هذه ظاهرة سيّئة تشكل تحدياً، وتعتبر تراجعاً للقيم والعادات، وهي منتشرة اليوم في كلّ دول العالم النامي بشكل عام، وتدبّ أوصالها في دول متقدّمة لسبب الأزمة الاقتصادية العميقة، التي ضربت عمق الإنتاج والأخلاق والقيم. كما أنّها تؤثر وتتأثر بالأوضاع الاجتماعية، وبالنتيجة العلاقات الجديدة الوليدة لدينا هي انعكاس لهذه الأوضاع الاقتصادية الجديدة». 
 ¶ تفشي ثقافة الاستهلاك 
إذاً، الاستهلاك والرغبة في الانفاق والاستمتاع كل ذلك قاد في نهاية المطاف إلى الكسل، والرغبة في الحصول على المال في أقلّ جهد ووقت ممكنين.  يقول الباحث والخبير الاقتصادي الدكتور مدين العلي: «دخلنا منظومة الاقتصاد الحديث من بوابة الاستهلاك، وليس الإنتاج.. وبدأنا نستمتع ونستهلك.. نريد سياحة وسيارة وعمل من دون إنتاج.. هذه الحالة سببها عدم وجود اقتصاد حقيقي، وسببها غياب قيم السوق (العرض والطلب)، وقيام اقتصادنا على الربح السريع غير المحدود، وتفشي ثقافة الاستهلاك. فالأنشطة الاقتصادية في قطاع الخدمات والسياحة والتأمين أوجدت سيولة دون تعب، خلاف الاقتصاد الحقيقي.. وبالتالي بات المواطن قادراً على تحقيق دخل بشروط سهلة نتيجة ابتزاز واقتصاد خدمي، مشكلاً في نهاية المطاف حالة من الاتكالية.  الناحية الثانية، التي تعبر عن وجود ظاهرة الكسل والاتكالية هو الرضى بنمط الحياة السهلة، والعيش بأيّ مستوى مشروط بعدم بذل الجهود.. وهذه ناحية تدلّ على وضع اجتماعي سيّئ، وهي مرحلة خطرة في تاريخ المجتمعات». أمّا فيما يتعلق بموضوع الإحباط، فيجد الدكتور العلي: «أن الإحباط الموجود جزء منه مشروع لفئة تشتغل وتعمل وتحاول دون تحقيق نتائج, لكنّه غير مشروع لفئة لا تريد العمل». 
 ¶ لاعلاقة للأزمة الاقتصادية

بعض الخبراء اعتبروا الأزمة الاقتصادية، كما الفاجعة التي أصابت العالم فضربت معاقل الإنتاج، وأصابت الأسواق بشللٍ ما زالت آثاره تتبدّى حتى تاريخه، وما رافق هذه الأزمة من قيم وعادات وتقاليد جديدة ووليدة، ليس هنا فحسب، وإنما في مختلف دول العالم.
الدكتور مدين العلي يملك وجهة نظر مختلفة، ويعتبر أنّه لا علاقة للأزمة المالية العالمية بظاهرة الكسل العام، والبحث عن نمط الحياة السهلة، والقعود مع البحث عن المال الوفير، يقول: «الأزمة المالية أصابت الإنتاج وكبلت الأسواق، وأصابتها وهذا يعني ارتفاع في البطالة، وقلة فرص العمل وتراجع الأجور، خلاف موضوع بحثنا، حيث الترفع عن بعض فرص العمل في انتظار العمل الذي يقدم مالاً أوفر، والشعور بالكسل، والانقلاب إلى نمط الحياة السهلة والمهن المعبرة عنها، والتي تحقق مالاً دون تعب، ما يعني أنه لاعلاقة للأزمة المالية العالمية بهذه الظاهرة».

رياض إبراهيم أحمد

المصدر: بلدنا

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...