خيمة الدم  : بين البوكر الأمريكي والشطرنج الروسي

15-04-2023

خيمة الدم  : بين البوكر الأمريكي والشطرنج الروسي

الجمل: د . نزار العاني

تعلمون أن القرون الأربعة التي توالت على أمريكا بعد اكتشاف القارة ، كانت زمن العزلة الأمريكية الإختيارية لبناء الذات والهوية والمكانة . وقد أفلحت هذه الأمّة الوليدة في بناء دولة لم يعرف التاريخ مثيلا لها ، اقتصاداً وعسكرة وعلماً وثراءاً ،  الأمر الذي جعل الرئيس لنكولن يقول عن حكومته التي خاضت الحرب الأهلية في ستينات القرن التاسع عشر : (هذه الحكومة ......... لن تتلاشى من على الأرض ) (1).   

وكان خروج أمريكا من عزلتها  بعد الحرب العالمية الثانية إيذانا ببدء تاريخ جديد للبشرية ،  قائم على سياسة التدخل بشؤون الآخرين ، وما تزال مفاعيل التدخل  حاضرة وبقوة حتى هذه اللحظة ، وفي كل أرجاء الأرض ، ولم ولن تكف أمريكا عن هذه السياسة إلى أن يقدر الله أمراً آخرَ . 

أمريكا التي استبدت بأمور الكون منذ دمار هيروشيما وناغازاكي عبر  قنبلتيها النوويتين اللتين أنهيتا الحرب العالمية الثانية تحولت إلى أمبراطورية هي الأعظم منذ فجر التاريخ ، وتحول  رئيس هذه الدولة  إلى قيصر حقيقي كما كتب أموري د . رينكور منذ حوالي 45 سنة  نقلاً عن تصريح للرئيس فرانكلن روزفلت : ( حدود

Image

أمريكا تقع على نهر الراين ) (2). 

وظهر على الفور ذلك التوجه الهادف إلى اعتبار  " جماعة الأطلنطي" بوصفها ( الوحدة الجغرافية للحضارة الغربية ) (3) . ولتنفيذ تلك التطلعات الأمبراطورية تحديداً ، ابتكر الأمريكيون نظاما جديدا للعالم ، أو تحالفأ عسكريا واقتصاديأ في 4 أبريل 1949 ( وهذا النظام الجديد هو منظمة معاهدة شمال الأطلنطي ـ حلف شمال الأطلنطي / ناتو ـ وتؤلف حلفاً من 14 دولة أطلنطية يبلغ عدد سكانها حوالي 400 مليون وتتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية ، وبذلك فهو أقرب مثال لنظام "روماني" واقعي تحقق في العصور الحديثة ) (4).

 أمريكا منذ ذلك التاريخ هي رب الكون : الأمريكيون هزموا بريطانيا العظمى على أرضهم وجعلوها ذنباً لهم ، وهزموا اليابان وحولوها إلى محميّة بالمعنى الكامل للكلمة ، وحرروا فرنسا من الألمان وألحقوا الدولتين في ركابهم ، وهم الراعي الرسمي الظاهري لإسرائيل ومافعلت وتفعل ، وبالباطن يتحكم اليهود بخناق  أمريكا والعالم ، وأمريكا ساهمت بولادة الإتحاد السوفييتي بعد الحرب وهي التي قوّضت بنيانه ، وأمريكا هي الممثل الشرعي والوحيد ( ما ألطف هذا التعبير !! ) للإستعمار القديم بعد تحديثه ، ولذا حاربوا في كوريا وفيتنام والعراق وأفغانستان وتدخلوا في شؤون كل دول أمريكا اللاتينية دون استثناء ، بعد أن تلذذوا بأطايب الحرب الأمريكية المكسيكية التي غنموا بها ولاية كاليفورنيا بقضّها وقضيضها وقالوا لاحقا أنهم اشتروها مثلما اشتروا ألاسكا !! ودسّوا أنوفهم في ترتيب التفاصيل الدقيقة لشؤون الكون ، ولعلهم دون علمنا ومن وراء ظهورنا هيأوا الزلازل والمطر الحامضي والعجاج !!!

ببساطة شديدة ، إن "خيمة الدم" الأمريكية المعاصرة ، والتي بدأت فصولها الدامية باقتلاع "خيمة الهندي الأحمر"  ماتزال ماثلة أمام أعيننا في مسيرة أمة هيمنت منذ خروجها من عزلتها ، وتهيمن اليوم ، على مقدرات الكون ، وإلى أن يشاء الله غير هذا . وهذه الهيمنة سافرة وواضحة ومن يخرج عليها ، كبيراً أو صغيراً ، سينهدم هيكله فوق رأسه !!
ماضرورة كل هذا الكلام الآن وما علاقته بأوضاعنا كسوريين ؟؟؟ 

سوريا كانت منصاعة منذ انقلاب حسني الزعيم وإلى عقود طويلة تالية لمعادلة القوّة هذه ، وأمريكا بحرفية عالية مارست معها سياسة الجزرة والعصا بحكمةٍ واقتدار ، ويذكر مايلز كوبلاند  في كتابه الشهير "لعبة الأمم" مايلي : ( كان انقلاب حسني الزعيم يوم 30 آذار 1949 من إعدادنا وتخطيطنا . فقد قام فريق العمل السياسي بادارة الميجر "ميد" بإنشاء علاقات صداقة منتظمة مع حسني الزعيم ، الذي كان رئيساً لأركان الجيش السوري . ومن خلال هذه الصداقة أوحى الميجر "ميد" لحسني الزعيم بفكرة القيام بانقلاب عسكري اضطلعنا ـ نحن في السفارة ـ بمهمة وضع كامل خطته وإثبات كافة التفصيلات المعقدة ) (5) . وحين بدأت بوادر التمرد والإعتداد بالنفس

Image

تظهر واضحة وجليّة على سلوك حسني الزعيم ، يكتب كوبلاند معلقاً : ( إن الوقت قد حان لبدء البحث عن رجل آخر يحل محل حسني الزعيم الذي لا محالة قد اقترب من نهايته ) (6) . وجاء العسكريون الإنقلابيون السوريون ليُدْخِلوا سوريا في المعمعة الدولية ، وهكذا تزحلقت وما تزال ، واللعبة الأمريكية ذاتها لم تتغير ، ومفادها العَصا لمن عصَى !! ولم تخرج "لعبة الأمم" منذ نهاية الحرب العالمية الأولى ، وإلى يومنا هذا ، ولن تخرج ، عن إطارها الأمريكي المرسوم بدقة ومهارة وذكاء يتجاوز خبث المدرسة البريطانية العريقة في السياسة .

الأمريكيون أتقنوا للغاية لعبة الأمم . يحاربون في قرى فيتنام ، ويوسّطون الفرنسي    "جان سانتيني" في الوقت نفسه لعقد لقاءات سرية بين هنري كسينجر والقادة الشيوعيين في باريس . في الإجتماع السرّي الأول مع " كسيان توي" و "مي فان بو"  يكتب كسينجر في مذكراته ما قاله لهما : ( أبديتُ احتراماً لشجاعة وتحملات الشعب الفيتنامي ) (7) !! يُظهرون في العلن أعلى درجات الإحترام لشخصية شارل ديغول الأسطورية، ويصغون إلى فصاحته ونظرته الإستراتيجية لاستقلالية أوروبا  ولأسباب انسحابه من حلف شمال الأطلسي ، وفي الكواليس يهللون لانتفاضة 1968 عليه ، هذا إن لم يكونوا وراء "فوضاها الخلّاقة" منذ ذلك الزمن !! الأمريكيون عملانيون وبراغماتيون أو ذرائعيون ، ويدينون بذلك إلى فيلسوفهم الأشهر "وليم جيمس" الذي علمهم فلسفة الإيمان بما يفيدهم فحسب !! ولذا فهم دون أن يرفّ لهم جفن ، وتحديداً بالسياسة ، يماطلون ويكذبون ويناورون ويغدرون ويخطئون ويغامرون .

 ومرة قال الرئيس جاك شيراك الذي عانى الكثير من صلافة الرئيس الأمريكي بوش الإبن  بخصوص الحرب على العراق ، كما عانى سلفه ديغول من نيكسون بخصوص العلاقة مع السوفييت ، وكما عانى سلفه الآخر الرئيس فرانسوا ميتران من الرئيس بوش الأب بخصوص يوغسلافيا التي آلت إلى التقسيم ، قال شيراك : ( لدي مبدأ بسيط في السياسة الخارجية . أنا أنظر إلى ما يقوم به الأميريكيون وأعمل العكس . حينئذ ، أكون متأكدا من صحة ما أقوم به ) ( . وفرانسوا ميتران قال ذات مرة لنظيره الرئيس رونالد ريغان الذي سأله عن رأيه بالسوفييت

Image

: ( سيدي الرئيس ، إني لا أعتقد بحب الروس للحرب . فالروس منذ زمن بيار لوغران "الكبير" ، نادراً ما كانوا معتدين ، على الرغم من اعتناقهم ديبلوماسية توحي ، أحياناً ، بأنهم مستعدون للذهاب تقريباً للحرب . وإن كان علي تلخيص ذلك ، أقول بأنهم لاعبو شطرنج ، لا بوكر ) (9) . وكأن ميتران كان يقول للرئيس الأمريكي بالتلميح لا بالتصريح ، أن أمريكا هي التي تلعب البوكر !

أخلص إلى مايلي : أنا مثل شيراك  في السياسة ، أقف في مواجهة أمريكا حيثما وقفت  . وأنا مثل ميتران  في لعبة الأمم ، أقف مع لاعب الشطرنج لا لاعب البوكر . وأنا أيضاً أرى أن شلالات الدم التي ستجري تحت سقف الخيمة السياسة الدوليّة خلال الخمسين سنة القادمة ، هي مسؤولية أخلاقية أمريكية بامتياز ، لأنها هي التي قادت   العالم بالأمس ، كما تقوده اليوم ، وبما في ذلك الدم السوري الذي لا يمثل في حجم تدفقه هاجساً استراتيجياً ، لا للاعب البوكر الأمريكي  ، ولا للاعب الشطرنج الروسي . اللهمَّ إني بلّغت . اللهمَّ اخْسِفْ كل أسلحة الشر والخسّة في ترسانة حلف شمال الأطلسي ( الناتو) إلى ماغير رجْعة (10). 

1 ـ بنجامين ب . توماس . " ابراهام لنكولن " . المقدمة . لا ذكر لاسم الناشر ، والمقدمة مؤرخة بـ 20 شباط 1954 .

2 ـ أموري د . رينكور . " القياصرة القادمون " ترجمة أحمد نجيب هاشم ، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر 1970، ص 369 .

3 ـ المرجع السابق ، ص 449 .

4 ـ المرجع السابق ، ص 450 .والدول هي : بلجيكا، كندا، الدانمرك، فرنسا، آيسلندا، إيطاليا،لوكسمبورغ،هولندا،النروج،البرتغال،بريطانيا،أمريكا،اليونان،تركيا.

5 ـ مايلز كوبلاند . " لعبة الأمم " ، ط أولى 1970 ، تعريب مروان خير ، ص 73 .
6 ـ المرجع السابق ، ص 76 .

7 ـ هنري كسينجر . " كسينجر في البيت الأبيض" ، دار طلاس ، المجلد الأول ، ط أولى 1984 ، ص 468 . 

8 ـ فنسان نوزيل . " أسرار الرؤساء " . ط أولى 2011. جرّوس برس ، ص 8 .
9 ـ المرجع السابق . ص108 . 

10 ـ North Atlantic Treaty Organization (NATO)
 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...