إلَه الفجوات
عندما يحدث نقاش بين مؤمنٍ وملحد، عادة ما يسمع الطرف المؤمن عبارة “إلَه الفجوات” أو “إله الفراغات” من الطرف الملحد. أغلب الملحدين يعتقدون أن براهين المؤمنين على وجود إله أو خالِق، هي براهين قائمة على الفجوات في “معرفتنا العلميَّة”، هناك ظاهرة ما يعجز العلم عن تفسيرها الآن، إذًا، فالتفسير هو الله.
كما يذكر عالِم الأحياء التطوري والملحد المعروف ريتشارد دوكينز في كتابه الشهير “وَهْم الإله”: “يبحث دُعَاة الخلق بشغفٍ عن فجوة في المعرفة أو الفهم في الوقت الحاضر. إذا تَمَّ العثور على فجوة ظاهرة، فمن المفترض أن الله، بشكلٍ افتراضي، يجب أن يملأها. ما يثير قلق علماء اللاهوت المفكرين، هو أن الفجوات تتقلَّص مع تقدُّم العلم، وأن الله مُهدَّد في النهاية بعدم وجود مكان يختبيء فيه”.
لكن في الواقع هذه رؤيَّة ساذجة لبراهين الإيمان، فعلي سبيل المثال، نحن حتي وقت قريب ما كنا نعرف بالتفصيل لِمَ الجُبْن السويسري يحتوي على ثقوبٍ؟ هل وجدت في حياتك مؤمن جادل هكذا: نحن لا نعرف لِمَ الجُبْن السويسري يحتوي على ثقوبٍ، إذًا، الله هو من خلق ثقوب الجُبْن السويسري؟ بالتأكيد لا.
براهين المؤمنين ليست قائمة على: “الفجوات المعرفيَّة أو عجزنا عن تفسير ظواهر طبيعيَّة معيَّنة”، بل قائمة على: “أن وجود الخالِق هو التفسير الأكثر عقلانيَّة لِمَا نعرفه عن العالَم الطبيعي”، سأضرب مثالين على ذلك بأشهر بُرْهانين يستخدمهما المؤمن وهما:-
1 – بُرْهان الحدوث.
2 – بُرْهان الضبط الدقيق.
– بُرْهان الحدوث (Cosmological Argument)
صورة بُرْهان الحدوث في عقل الملحد الذي يدَّعي أن المؤمن يستخدم الإلَه ليملأ الفجوات المعرفيَّة هي هكذا: (1) لا نعرف كيف نشأ الكون. (2) إذًا الله موجود. وبالفعل لو شخص جادل هكذا فهو يقع في مُغالطة إلَه الفجوات، لكن لا يوجد أي مؤمن مُفكِّر يجادل هكذا أساسًا. المؤمن في الواقع يجادل هكذا: (1) لا يمكن منطقيًا أن يكون سبب الكون سببًا طبيعيًا، ثُمَّ يبرِّر هذه المقدَّمة. (2) إذًا الله موجود.
حسب النموذج الكوني المقبول حاليًا وسط علماء الفيزياء والكونيَّات {نموذج الانفجار الكوني العظيم}، فالكون يتوسَّع وبالتالي عندما نعكس الزمن للوراء، التوسُّع سيتحول إلى انكماشٍ وسنكتشف أن الكون في بداياته كان حجمه أصغر بكثير جدًا جدًا من حجمه الشاسع الحالي. الكون في بداياته كان حجمه أصغر من حجم بروتون الذرة بكثير جدًا.
الفترة التي كان فيها حجم الكون بهذا الصغر تُسمَّى فترة بلانك، وهذه الفترة هي حدود المعرفة العلميَّة الحالية. لا أحد يعرف ما الذي حدث أثناء هذه الفترة، والسبب في ذلك أن الكون كان نظامًا كميًّأ (أي نظام صغير جدًا في الحجم كما قلت). لمعرفة ما حدث أثناء هذه الفترة، يحتاج علماء الفيزياء لنظريَّة يمكنها أن تصف طبيعة الكون وهو بهذا الصغر، هذه النظريَّة تُسمَّى الجاذبية الكمومية (Quantum Gravity)، وهي نظريَّة غير موجودة حاليًا، لذلك يضع علماء الفيزياء نماذج كونيَّة تخمينية مختلفة لمحاولة معرفة ما الذي حدث أثناء وقبل هذه الفترة.
لكن كيف تحوَّل الكون من نظامٍ كميّ أو زمكان كميّ (صغير في الحجم) لنظامٍ كلاسيكيّ أو زمكان كلاسيكيّ (أي كبير في الحجم)؟ العلماء يفترضون أنه في بدايات الكون، حدث نوع من التوسُّع السريع في فترة زمنيَّة قصيرة جدًا، فترة التوسُّع السريع هذه تُسمَّى فترة التضخُّم الكوني (Cosmic Inflation)، ومن خلالها تَمَّ تكبير حجم الكون، بعد انتهاء فترة التضخُّم، يعود مُعدَّل توسع الكون إلى المُعدَّل الطبيعي مرة أخرى.
لذلك فالأحداث الكونيَّة تتسلسل من الماضي إلى المستقبل هكذا: الكون في البداية نظام كمومي صغير جدًا في الحجم، (وهنا لا نملك فيزياء مؤكَّدة ومُختبرَة، تُخبرنا بما حدث في أو قبل هذه الفترة، مجرد فيزياء تخمينية فقط)، بعد ذلك، يبدأ هذا النظام الكمومي في التوسُّع بسرعةٍ كبيرة جدًا في زمنٍ قصير جدًا (فترة التضخُّم الكوني)، فيكبر الكون في الحجم (وهنا نحن نملك فيزياء مؤكَّدة ومُختبرَة، نعرف من خلالها كيف تطوَّر الكون بعد ذلك: النظريَّة النسبيَّة العامة، ونظريَّة الكم للتفاعلات الكهرومغناطيسية والنوويَّة القوية والنووية الضعيفة). بعد انتهاء فترة التضخُّم الكوني، يستمر الكون في التوسُّع بمعدل طبيعي وتبدأ الذرات في التكون من الجسيمات الأوليَّة، ثُمَّ تظهر بعد ذلك النجوم والمجرات والكواكب إلى أن تظهر الحياة. هذه الصورة توضِّح تسلسل الأحداث الكونيَّة:
هناك مبرهنة فيزيائيَّة شهيرة أثبتها رياضيًا ثلاثة من أكبر علماء الكونيَّات وهم: أرڨند بورد، وآلان غوث (وهو بالمناسبة صاحب فكرة التضخُّم الكوني)، وألكسندر فلنكن. هذه المبرهنة تُسمَّى مبرهنة بورد-غوث-فلنكن (BGV theorem)، وهي مبرهنة تقول باختصار: إن التوسُّع الكوني السريع في بدايات الكون، أو أن فترة التضخُّم الكوني لا بُدّ لها من نقطة بداية، أو بمعنى آخر تقول: إن الزمكان الكلاسيكي (أي الزمكان الكبير في الحجم الذي انبثق بالتضخُّم الكوني من النظام الكمومي الصغير الذي سبقه) لا بُدّ له من نقطة بداية.
الآن هناك ثلاثة احتمالات منطقية: (1) هذا النظام أو الزمكان الكمومي الذي انبثق منه النظام أو الزمكان الكلاسيكي بالتضخُّم، أزلي لم يخلقه أحد. (2) هذا النظام ليس أزليًّا، بل جاء من حالة فيزيائية أخرى سبقته، وهذه الحالة لا نعرف الكثير عنها. (3) هذه التفسيرات غير صالحة ولا بُدّ من وجود خالِق فوق طبيعي للوجود المادي.
هناك نماذج كونيَّة تخمينيَّة يضعها علماء الكونيَّات والفيزياء، كما قلت تحاول أن تعرف ما الذي حدث أثناء وقبل فترة بلانك. أغلب {وليس كل} هذه النماذج الكونيَّة التخمينيَّة تحصر الاحتمالات في (1)،(2) فقط.
أي هناك:
(1) نماذج تفترض أن الزمكان الكمومي الذي انبثق منه الزمكان الكلاسيكي، كان أزليًّا لم يخلقه أحد، ومن هذه النماذج: نماذج خلق الكون من “لا شيء” (هذا اللاشيء لا يكون عدمًا محضًا بكل تأكيد، بل هو الكون أو الزمكان الكمومي الصغير جدًا في الحجم) التي يُروِّج لها عالِم الكونيَّات الملحد لورانس كراوس في كُتُبه الشعبيَّة عن علم الكونيَّات، مثل كتابه “كون من لاشيء”، مثل نموذج عالِم الكونيَّات ألكسندر فلنكن عن خلق الكون من “لا شيء” (Tunneling wave-function Ψ of the universe).
كما قلت الكون في بداياته، كان نظامًا كميًّا صغيرًا في الحجم، لذلك فقوانين الفيزياء الكلاسيكية، أي القوانين التي تصف تصرف الأشياء الكبيرة في الحجم، مثل قوانين النظريَّة النسبيَّة العامة لأينشتاين، لا تصلح لوصف الكون وهو بهذه المستويات الصغيرة في الحجم، لذلك يقوم علماء الكون بوصف الكون كله بنفس الأداة التي يصفون بها الأنظمة الكميَّة الصغيرة، هذه الأداة هي الدالة الموجية (Ψ)، كالدالة الموجية التي تصف تصرف الإلكترون في معادلة شرودينغر العادية.
وبحل معادلة الدالة الموجية للكون (هذه المعادلة تُسمَّى معادلة ويلر-دي ويت Wheeler-DeWitt Equation) يستطيع العلماء الحصول على نماذج كونيَّة تصف الكون في بداياته المبكرة جدًا. نموذج ألكسندر فلنكن هو أحد حلول معادلة الدالة الموجية للكون.
(2) نماذج أخرى تفترض أن هذا الزمكان الكمومي قد تَمَّ خلقه من حالة فيزيائية سبقته ولا نعرف عن هذه الحالة الكثير، ومن هذه النماذج: نموذج علماء الفيزياء لي سمولين، كارلو روڨيلي، أبهاي أشتيكار، القائم علي أفكار من نظريَّة تُسمَّى الجاذبية الكمومية الحلقية (Loop quantum gravity)، وهو نموذج يفترض أن كوننا نتاج كون آخر منكمش كان موجودًا قبله، أي كون انكمش، لما انكمش، صغر في الحجم، فصنع بذلك زمكان كوننا الكمومي، ثُمَّ حصل تضخُّم لهذا الزمكان الكمومي فأنتج كوننا الكلاسيكي الكبير، ومن أين جاء هذا الكون المنكمش؟ جاء من كونٍ قبله، وهكذا إلى ما لا نهاية. أكوان دوريَّة متسلسلة، وهو موضَّح في هذه الصورة:
وهناك أيضًا نماذج كونيَّة أخرى كثيرة، فكرتها الرئيسية مثل فكرة هذا النموذج: وجود مادي يُولَد من رحم وجود مادي آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية، لكن بتفاصيل مختلفة، مثل نموذج الكون الملتهب (Ekpyrotic universe) لبول شتاينهادرت ونيل توروك، أو نموذج علم الكون الدوري المطابق (Conformal cyclic cosmology) لروجر بنروز.
كما قلت هذه النماذج مجرد نماذج تخمينيَّة، لا يوجد أي شيءٍ خاطئ في رفض هذه النماذج على أساس وجود ضعف منطقي فيها، لأن ادّعاءات هذه النماذج ليست مبينة على علم تجريبي (فيزياء مُؤكَّدة ومُختبرَة)، هي مجرد تخمينات فقط.
بغض النظر عن أن هناك مشكلة فيزيائية في افتراض أزليَّة “الكون الكمومي” (الأنظمة الكميَّة غير مستقرة بطبيعتها، وتميل للانحلال دومًا، فلا يمكن أن تكون موجودة في الأزل)، إلا أنه لا يمكن منطقيًا أن يكون الزمكان الكمومي الذي خلق الزمكان الكلاسيكي بالتضخُّم الكوني أزليًّا، لأن هذا سيلزم عنه أن يكون الزمكان الكلاسيكي أزليًّا أيضًا، وكما ذكرت نحن نملك مبرهنة فيزيائية قوية على أن الزمكان الكلاسيكي لا بُدّ له من بدايةٍ (وهناك بجانب هذه المبرهنة حجج علمية كثيرة علي أن ”الزمكان الكلاسيكي“ لابد له من بداية، كالقانون الثاني للديناميكا الحرارية، لو الكون الكلاسيكي الكبير الذي نعرفه كان أزلياً، كان وصل لمرحلة الموت الحراري مثلاً منذ زمن طويل).
نتيجة العلل الماديَّة ترافقها دائمًا، على سبيل المثال، النار، ستجد النار مصحوبة دومًا بالحرارة. من المستحيل وجود السبب بدون تأثيره، لو قلنا مثلًا إن هناك نارًا أزليَّة، هذا سيلزم منه أن تكون الحرارة أيضًا أزليَّة. بالمثل لو الزمكان الكمومي كان موجودًا في الأزل، فسيعطي تأثيره الذي هو -الزمكان الكلاسيكي – من الأزل أيضًا، وعليه الزمكان الكلاسيكي يجب أن يكون أزليًّا، لكن الزمكان الكلاسيكي له بداية وليس أزليًّا، إذًا، فلا يمكن منطقيًا أن يكون الزمكان الكمومي أزليًّا كما تفترض بعض النماذج، فمن أين جاء؟
من الممكن أنه جاء من حالة ماديَّة أخرى سبقته كما تزعم بقية النماذج (كون منكمش قبله مثلًا)، لو قلت أن هذا الكون المنكمش أزليٌّ، فكأنك أرجعت المعضلة المذكورة بالأعلى خطوة للوراء فقط. كون منكمش موجود في الأزل، سيعطي تأثيره (الزمكان الكمي) في الأزل أيضًا، والزمكان الكمي سيعطي بدوره تأثيره (الزمكان الكلاسيكي) في الأزل أيضًا، فالزمكان الكلاسيكي يجب أن يكون أزليًّا، لكنه في الواقع له بداية فلا يمكن أن يكون الكون المنكمش أزليًّا. فمن أين جاءت هذه الحالة الماديَّة؟
لا يوجد طريقة للخروج من هذه المعضلة سوى بافتراض التسلسل اللانهائي. من أين جاءت هذه الحالة الماديَّة؟ من حالةٍ قبلها، ومن أين جاءت الحالة التي قبلها؟ جاءت من حالةٍ قبلها، وهكذا إلى ما لا نهاية.
لكن التسلسل اللانهائي أيضًا (Infinite Regress) غير ممكن منطقيًّا (فضلاً عن أن فكرة وجود مالانهاية في ”العالم المادي“ فكرة غير قابلة للاختبار بشكل تجريبي، فلا يمكن قياس المالانهايات). لو كان هناك عدد لا نهائيّ من الأحداث قبل حدث خلق الزمكان الكمومي، لن يتم خلق الزمكان الكمومي أصلًا أبدًا، لأن قبل حدث خلقه عدد لا نهائي من الأحداث. يوجد حتى علماء فيزياء وكونيَّات، مثل عالِم الكونيَّات الكبير چورج إيليس -وليس الفلاسفة فقط- يجادلون أن وجود تسلسل سببي لا نهائي في العالَم المادي غير ممكن منطقيًّا وكذلك غير قابل للاختبار بشكل تجريبي.
فهكذا يجادل المؤمن المُفكِّر: علة الوجود لا يمكن هكذا منطقيًّا أن تكون علة فيزيائيَّة أزليَّة، ولا يمكن أن تكون كذلك علل فيزيائيَّة متسلسلة إلى ما لانهاية في الماضي. فما هو الخيار المتبقي؟ الخيار (3): لا يمكن تفسير الوجود سوى من خلال خالِق فوق طبيعي. خالق أزلي (لامتناع التسلسل اللانهائي)، ومختار، أي يمكنه أن يكون موجودًا في الأزل ومع ذلك لا يعطي تأثيره من الأزل أيضًا، لأنه ليس مُقيَّدًا بالقوانين التي تُجبِر العلل الماديَّة على إعطاء تأثيرها متى وُجِدَت. أي يستطيع أن يفعل أو لا يفعل متى شاء، فأين استخدم المؤمن الفجوات المعرفيَّة في برهان الحدوث؟ وأين في كل هذه المُحاجَجَة المنطقيَّة، لا نعرف كيف جاء الكون، إذًا الله موجود؟
– بُرْهان الضبط الدقيق (Fine-tuning Argument)
تخيل أن هناك مجرم سيتم إعدامه رميًا بالرصاص، تم ربطه وتقدَّم مليار جنديٍ ماهرين جدًا في رمي الرصاص من على بعد مائة مترٍ لرميه بالرصاص من على بعد مترين فقط، بحيث يضرب كل واحد منهم رصاصة واحدة. بدأ الإعدام وتقدَّم المليار جنديٍ لرمي المجرم بالرصاص، أغمض المجرم عينيه، وبعد انتهائهم من رمي الرصاص، فتح المجرم عينيه ووجد نفسه حيًا. احتمال نجاة المجرم من القتل، احتمال ضئيل جدًا جدًا جدًا، واحتمال موته عالي جدًا، ومع ذلك فالاحتمال الضئيل هو ما حدث. ما هو التفسير الأكثر عقلانيَّة لِمَا حدث؟ (1) مجرد صُدْفة غير مقصودة. (2) الجنود – قصدوا عن عمدٍ – عدم إصابته. بالتأكيد التفسير الثاني أكثر عقلانيَّة.
بُرْهان الضبط الدقيق مُماثِل إلى حدٍ ما لِمَا ذكرته بالأعلى. الثوابت الفيزيائية التي نرصدها في كوننا مثل (الثابت الكوني، كتل الجسيمات الأوليَّة كالكواركات، مدى شدة القوى التي تحكم الطبيعة مثل القوى النووية القوية)، تأخذ قيمًا مدى تغيُّرها محدودًا جدًا، بحيث تسمح هذه التغيُّرات بوجود الكون والحياة، أي تغيُّرات أكبر من الطفيفة بقليل في قيم معظم الثوابت الفيزيائية تتسبَّب في عدم وجود الكون والحياة.
على سبيل المثال، لو قلت قيمة الثابت الكوني قليلًا عن قيمته المرصودة في كوننا، الكون ينهار على نفسه بعد ثانية واحدة من الانفجار العظيم (لا كون). لو تغيَّرت كُتَل الكواركات، أو لو تغيَّر ثابت البنية الدقيقة قليلًا (الثابت الذي يحسب مدى شدة التفاعلات الكهرومغناطيسية بين الجسيمات المشحونة). لا وجود لذرات ولا حتى أبسط أنواع الذرات (الهيدروچين)، وبالتالي لا نجوم ولا مجرات ولا كواكب ولا كيمياء ولا حياة ولا أي شيء تقريباً.
يوجد بلايين البلايين من القيم الأخرى التي يمكن أن تكون عليها هذه الثوابت الفيزيائية وكلها لا تسمح بوجود الكون أو الحياة، ومع ذلك فالثوابت الفيزيائية أخذت القيم المحدودة التي سمحت بوجود الكون والحياة.
أيهما يُفسِّر هذه الملاحظة بشكلٍ أفضل؟ الفلسفة الطبيعانية (Philosophical Naturalism) التي تنكر وجود أي مُصمِّم خارج العالَم الطبيعي، وتؤكِّد أنه لا وجود سوى للعالَم الطبيعي وحسب، أم الإيمان (Theism) الذي يؤكِّد ضرورة وجود عقل أو مُصمِّم قَصَدَ وجود الكون والحياة؟ بالتأكيد وجود المُصمِّم يُفسِّر هذه الملاحظة بشكلٍ أفضل.
لِمَ اختارت الطبيعة التي لا عقل لها قيم الثوابت الفيزيائية التي سمحت بوجود الكون والحياة، وتركت بلايين البلايين من القيم الأخرى التي يمكن أن تأخذها هذه الثوابت، وكلها لا تسمح بوجود الكون أو الحياة؟
احتمال وجود كون ككوننا هذا تحت افتراضات الفلسفة الطبيعانية، احتمال ضئيل جدًا جدًا جدًا. احتمال أن لا يظهر الكون وأن لا تظهر الحياة أعلى بكثير جدًا من احتمال أن يظهر الكون وأن تظهر الحياة تحت افتراضات الطبيعانية.
أما تحت افتراضات الإيمان، هناك خالِق قصد عن عمد وجود الكون والحياة، فضبط قيم الثوابت بحيث سمحت بوجود الكون (الذرات، المركبات الكيميائية، النجوم، المجرات، الكواكب …) والحياة، فاحتماليَّة وجود كون ككوننا تصبح احتمالية أعلى، وبالتالي الإيمان يُفسِّر هذه الملاحظة بشكلٍ أفضل من الطبيعانية، وبذلك فاحتمال صحة الإيمان أكبر من احتمال صحة الفلسفة الطبيعانية.
قد يأتي الملحد ويقول: إلَه الفجوات، في المستقبل سيكتشف علم الفيزياء نظرية أو قانون أساسي يُفسِّر لنا بشكلٍ طبيعي لِمَ أخذت الثوابت الفيزيائية، القيم التي تسمح بوجود الكون والحياة. لا نحتاج وجود الخالِق.
معظم علماء الفيزياء ينتظرون بالفعل اكتشاف نظرية أو قانون أساسي يوحِّد كل ما نعرفه عن الطبيعة، (نظرية كل شيء)، ومن هذا القانون الأساسي يمكننا اشتقاق قوانين وثوابت الفيزياء الفرعية الأخرى، كما يمكننا اشتقاق نظرية نيوتن عن الجاذبية من نظرية أينشتاين الأعمق منها، وكما يمكننا اشتقاق قوانين ماكسويل للكهرومغناطيسية من قوانين النظرية الكميَّة الأعمق منها، والتي تصف التفاعلات الكهرومغناطيسية على المستويات الكميَّة الصغيرة -نظرية الكهروديناميكا الكميَّة (Quantum Electrodynamics)، مثلًا.
لنفترض جدلًا أن علماء الفيزياء قد توصلوا بالفعل إلى هذا القانون الأساسي، واشتققنا من هذا القانون الأساسي قيم الثوابت الفيزيائية، يعني هكذا فسرنا لِمَ أخذت الثوابت الفيزيائية القيم التي نرصدها في عالمنا والتي سمحت بوجود الكون والحياة. هذا تقدُّم رائع، لكن هل هذا يحل المعضلة بالنسبة للفلسفة الطبيعانية؟ لا طبعًا.
سترجع المعضلة من جديد، لكن على مستوى هذا القانون الأساسي: لِمَ اختارت الطبيعة القانون الأساسي الذي تفرَّعت عنه ثوابت فيزيائية سمحت بوجود الكون (الذرات، النجوم، المجرات، ..) والحياة؟
يوجد بلايين البلايين من الأشكال الأخرى التي يمكن أن يكون عليها هذا القانون الأساسي، وكل هذه الأشكال لا تسمح بوجود الكون أو الحياة. تحت افتراضات الفلسفة الطبيعانية ما زال احتمال ظهور كون ككوننا ضئيلًا جدًا. أما تحت افتراضات الإيمان، هناك خالِق قَصَدَ عن عمدٍ وجود الكون والحياة، فضبط القانون الأساسي، بحيث تفرَّعت عنه ثوابت وقوانين سمحت بوجود الكون والحياة، فاحتمال وجود كون ككوننا أعلى. الإيمان ما زال أكثر عقلانيَّة من الفلسفة الطبيعانية (الفلسفة التي يتبناها معظم الملحدين).
هناك تفسير طبيعي ثان للضبط الدقيق، وهو التفسير السائد حاليًا وسط علماء الكونيَّات، وهو تفسير الأكوان المتعددة. يوجد عدد لا نهائي من الأكوان، وكوننا ليس الكون الوحيد، فلا يوجد ما يدعو للعجب عندما نجد كونًا قيم ثوابته الفيزيائيَّة مضبوطة لوجوده ولتطور الحياة فيه، وحتى لو لا نستطيع رصد الأكوان المتعددة، فكذلك نحن لا نستطيع رصد الخالِق، فلم نُفضِّل تفسير الخالِق على تفسير الأكوان المتعددة؟
لكن، حتى لو افترضنا أن الأكوان المتعددة موجودة فهي لا تحل المعضلة، ويؤكِّد ذلك كثيرٌ من كبار علماء الفيزياء مثل بول ديڨيز، لأن المعضلة ستظهر من جديد لكن على مستوى الأكوان المتعددة، لأن الآليات المُقترحَة المختلفة التي تتولَّد من خلالها الأكوان المتعددة، هي آليات محكومة بثوابت فيزيائيَّة وقوانين تحتاج هي نفسها لضبط دقيق، وإلا لن يتم إنتاج أي أكوان.
هناك تفسير طبيعي ثالث معتمد على قوانين الاحتمالات، ويقول هذا التفسير إنه من الصحيح أن ظهور كون ككوننا تحت افتراضات الفلسفة الطبيعانية، احتمال ضئيل جدًا لكنه ليس صفرًا، وطالما احتمال وقوع حدث ما ليس صفرًا، إذًا فهو حدث ممكن الوقوع بالصدفة. الأحداث غير محتملة الوقوع بشكلٍ كبير تحدث طوال الوقت، أنت مثلًا نتاج حيوان منوي واحد من والدك وبويضة واحدة من أمك من ضمن مئات الألوف من البويضات والحيوانات المنوية.
لكن عندما نملك التفسير الأفضل من الصُدْفة لأي حدثٍ نلجأ إليه دومًا. لو شخص ارتكب جناية قتل، البصمات على سلاح الجريمة، وأدلة الحمض النووي تؤكِّد أن هذا الشخص هو القاتل بالفعل. هل يمكن أن يقف محام هذا القاتل أمام القاض ويقول له: “الأدلة تؤكِّد أنه من غير المحتمل بشكلٍ كبير أن يكون موكلي بريئًا، لكن الأحداث غير محتملة الوقوع بشكلٍ كبير تحدث طوال الوقت، أنت أيها القاضي نتاج حيوان منوي واحد …” هل سيقبل القاض هذا الكلام؟ بالتأكيد لا. لِمَ لا يقبله؟ لأن هناك تفسير أفضل، وهو أن هذا الشخص هو القاتل بالفعل. بالمثل أفضل تفسير لوجود التصميم هو وجود مصمم، وهو تفسير أفضل من الصُدْفة بالتأكيد في حالة الضبط الدقيق. فالإيمان ما زال أكثر عقلانية من الطبيعانية.
اعتراض طبيعي شهير أخير على برهان الضبط الدقيق، يقول: ”كيف الثوابت الفيزيائية مضبوطة لوجود الحياة، وأساساً، 99,99999% من الكون غير صالح للحياة؟؟؟ والحياة موجودة فقط علي بقعة (كوكب الأرض) لا قيمة لها بالنسبة لحجم الكون؟؟“.
هذا الاعتراض قائم على سوء فهم لما يقصده العلماء عندما يدعون أن ”الثوابت الفيزيائية مضبوطة لوجود الحياة“، عندما يدعون ذلك فهم يقصدون أن ”الثوابت الفيزيائية تجعل ظهور الحياة في الكون أمراً ممكناً (Life-Permitting)” فقط لاغير. لا يقصدون من ذلك أن الحياة يجب أن تكون منتشرة في كل شبر من الكون طالما أن الثوابت الفيزيائية مضبوطة لأجلها. هم حتي لا يضمنون بشكل حتمي وجود الحياة بعد الضبط الدقيق. فقد لا تظهر الحياة حتى مع الضبط الدقيق، الموضوع ليس حتمياً، ليس لأن الكون مضبوط لوجود الحياة إذاً فمن المحتم أن تظهر الحياة فيه. بهذه العبارة هم لا يقصدون سوى أن {الثوابت تجعل ظهور الحياة في الكون أمر ممكن الحدوث (ممكن يحصل وممكن أن لا يحصل)}. فحتى لو 99,99999% من الكون غير صالح للحياة. هذا لن ينفي حقيقة أن ”ثوابت كوننا مضبوطة لوجود الحياة”. وبرهان الضبط الدقيق معتمد علي هذا الادعاء فقط. وليس من شروط صلاحيته أن تظهر الحياة في كل مكان وزمان.
أيضاً برهان الضبط الدقيق ليس قائماً على أن الهدف الوحيد والحصري من ضبط الثوابت الفيزيائية هو وجود الحياة. كما ذكرت بالأعلى؛ بدون ضبط دقيق لن يكون هناك لا ذرات ولا مركبات كيميائية ولا نجوم ولا مجرات ولا حتى فضاء فارغ من البنيات الكونية (لو الثابت الكوني قيمته قلت قليلاً كما ذكرت، الكون سينهار على نفسه بعد ثانية واحدة من الانفجار العظيم). فلو شخص مثلاً يعتقد أن الله لا يهتم بالحياة. ويهتم مثلاً بوجود الكواكب ويعتقد أن الله ضبط الثوابت من أجل وجود الكواكب أو من أجل وجود النجوم. ”برهان الضبط الدقيق لوجود الكواكب أو النجوم“ سيعمل بنفس القوة التي يعمل بها ”برهان الضبط الدقيق لوجود الحياة“. ما زال هناك تصميم، والتصميم ما زال دليلاً علي وجود مصمم.
هكذا يجادل المؤمن، يوضِّح أن الخالِق هو أفضل تفسير، وأن الاعتراضات قائمة على سوء فهم، أين استخدم هنا أيضًا الفجوات المعرفية؟
–فالخلاصة: أغلب المؤمنين لا يؤمنون بالله كمجرد سد للفجوات المعرفية، بل لأن الله هو أفضل تفسير للعالَم الطبيعي، لذلك على الملحد أن يناقش براهين المؤمن الواقعية وليس ما يتصوره في عقله عن هذه البراهين.
المحطة
التعليقات
مع جزيل الاحترام. يتجاهل…
مع جزيل الاحترام.
يتجاهل كاتب المقال بصفته (مؤمناً مفكراً)، أن الخيارات المتبقية لـ"علة الوجود" كما يسميها ليست فقط "ثلاثة"، لكنه يختصر باقي الخيارات بخيار واحد.
يرى الكاتب أو يقول أن "المؤمن المفكر" يرى أن علة الوجود لا يمكن أن تكون فيزيائية أزلية، ولا يمكن أن تكون علل فيزيائية متسلسلة إلى ما لا نهاية في الماضي، ثم يختصر الخيارات الباقية بـ"خالق أزلي".
فإذا قبل شخص مثل دوكنز على سبيل المثال جدلاً وجود "الخالق الأزلي" (وهي نقطة سنعود للحديث فيها)، فلماذا يكون هو الخيار المباشر؟؟ لماذا لا يكون هناك عدة علل فيزيائية (اثنتان أو ثلاثة أو عشرة أو عشرون)، قبل أن ننتقل إلى فكرة "الخالق الأزلي"؟
أما عن "الخيار المتبقي"، فنلاحظ أن الكاتب (نيابةً عن المؤمن المفكر)، يرفض الخيارين الأولين لأسباب علمية، بينما يضع الخيار الثالث دون أي أساس علمي، حيث على الأقل تتحدث الخيارات السابقة المرفوضة عن حالات افتراضية قابلة للتخيل والفهم، بينما الخيار الذي يختاره هو "فكرة" لا يشابهها شيء، ولا يمكن قياسها ولا تخيلها ولا توصيفها، وهي كفكرة لا يمكن توصيفها بصفة "علمية" أصلاً.
ذلك لا يمنع من تبنيها والإيمان بها، فهذا حق من حقوق أي إنسان، والكلام هنا عن "علمية" الفكرة لا أكثر.
بالنسبة لموضوع "الضبط الدقيق"، هناك الآلاف من الأمثلة على عدم وجود "ضبط دقيق"، وهي تنقض تماماً أصل الفكرة الخاصة بالضبط الدقيق (الأمراض الوراثية، الطفرات المؤذية، العواصف الشمسية، اصطدام المذنبات بكواكب وتحطيمها).
لكن المثير للاهتمام هو تجاهل "المؤمن المفكر" لنظرية أكثر منطقية وهي تشبه المثال التالي:
إذا أمسك شخص نرداً ورماه، فاحتمال الحصول على رقم 6 يقارب 15%، فإذا رماه 6 مرات وحصل على رقم 6 في كل المرات، غالباً ما يعني ذلك أن النرد مضبوط ليعطي الرقم 6، بينما إذا رماه 100 مرة، وصور منها 15 مرة فقط كانت نتيجتها 6 ولم يتم توثيق باقي التجارب، فسيكون لدينا توثيق مصور لحجر نرد تم رميه 15 مرة وحصلنا في كل مرة على الرقم 6، مما يعني أنه مضبوط.
بتوسيع المثال على الكون أو الأكوان، فمن الطبيعي أن أي كون بثوابت كونية غير مناسبة سيتلاشى، وبالتالي فقد يكون الوضع وجود ملايين الأكوان بملايين الثوابت، بحيث تلاشت الأكوان التي ليس لها ثوابت مناسبة، وبقي الكون الذي كان ثابته مناسباً، وهذا الأمر ينجر على كافة الكائنات المعروفة، حيث أن الطفرات الجينية التي حدثت مع بعض الكائنات وكانت متناسبة مع البيئة، لم تؤثر على استمرار تلك الكائنات، بينما انقرضت أية كائنات كانت طفراتها الجينية غير مناسبة.
أما عن نظرية الأكوان المتعددة، فهي لم تكن يوماً كتفسير لـ"علة الوجود"، وإنما هي مجرد نظرية تقول بوجود أكوان أخرى، ولا تعطي تفسيراً أو سبباً لوجودها، أو لوجود كوننا نفسه.
الكلام أعلاه لا يشكل نفياً علمياً لفكرة وجود خالق، لكن الفكرة نفسها فلسفية وليست علمية، ونؤكد هنا على حق أي شخص بالاقتناع أو الإيمان بها من عدمه.
إضافة تعليق جديد