حدائق حلب مقابر لأبنائها في انتظار الفرج

23-10-2012

حدائق حلب مقابر لأبنائها في انتظار الفرج

لم يراود فكر أم حسام الخمسينية يوماً أنها قد تقتل في مطبخ بيتها برصاص قناص، كما لم يجل في خاطرها أن الحديقة الصغيرة المهملة أمام منزلها في منطقة السيد علي في حلب، والتي مشت بقربها مئات المرات من دون مبالاة، ستكون مقبرتها التي ستدفن فيها.
الأفكار والخواطر هذه لا تصبح واقعا إلا في وطن تحول إلى حلبة صراع، وباتت اللغة الوحيدة التي تفهم فيه هي الموت، الموت المجاني والعبثي، خاصة لمن لا ناقة لهم بمعاركه ولا جمل، والذين لا يبغون شيئاً من وطنهم سوى العيش الآمن والحياة الكريمة.حديقة في حلب تحولت الى مقبرة («السفير»)
فأم حسام قتلت على يد قناص في مطبخها، لا لشيء سوى لأنها في الزمان والمكان الخاطئ، وأولادها الذين تعذر عليهم تأمين طريق آمن للمقبرة، التي تبعد عن بيتهم مئات الأمتار القليلة نتيجة الاشتباكات والقصف التي يشهدها بعض من شوارع المدينة، اضطروا لدفن والدتهم في حديقة شجرات النخيل المتعبة قرب منزلهم.
حال أم حسام كحال العشرات من أبناء منطقتها والمناطق الساخنة في حلب. كثر من أبنائها لم يستطيعوا مع بدء الأحداث تأمين مدفن لموتاهم في مقابر العائلة والمدينة، لكون المدافن الستة عشر الموزعة معظمها شرق المدينة تقع تحت سيطرة مسلحي المعارضة، وبات الوصول إليها طريقاً للموت وسبباً لتشييع آخر.
فمع اشتداد المعارك في المدينة أعيدت الحياة لتراب حديقة السيد علي لتستقبل الموت والعديد من المقابر فتحت فيها. وعندما غصت بالقبور ذوات الشواهد الفقيرة البدائية، انتقل الموت للحديقة المجاورة الأكبر حجماً، بعدما بات مشهد الدفن والقتلى والشهداء شبه يومي، فالحي يقع على خطوط التماس الملتهبة.
منذ بداية الأحداث سيطر المسلحون، من ضمن المناطق التي توسعوا فيها على مكتب دفن الموتى، الجهة المسؤولة عن عمليات الدفن وتنظيمها التابع إدارياً لبلدية المدينة، فتوقف نشاطه، بالتزامن مع الفوضى التي عمّت المدينة وتقطع الحركة بين أوصالها، نتيجة فقدان الوقود بشتى أنواعه وانقطاعه كلياً عن حلب.
ولحرمة الموت وأهمية ما يحدث، ونقلاً عن أبناء المنطقة المحيطة بمكتب الدفن، زار أحد قياديي ألوية المعارضة المسلحة المكتب بعد مدة من إغلاقه وأمر بإعادة تفعيل العمل به، من تنظيم ودفن، وأعاد قيمة رسوم الجنازة وبأسعار أقل بكثير من السعر القديم المحدد من البلدية. لكن لم يمنع هذا التفعيل حصول مراسم الدفن مع صعوبة الوصول للمقابر، فالقصف مستمر وخطورة التجمعات في مكان واحد، أو إقامة خيم عزاء عادة ما تكون هدفا سهلا للطائرات أو سلاح المدفعية وقذائف الهاون المجانية المجهولة المصدر غالباً.
ومع تصاعد الاشتباكات وتزايد حدة المعارك، أغلقت المقبرة الإسلامية الحديثة، التي تقع تحت سيطرة المسلحين، في المدينة أبوابها، لعدم قدرتها على استقبال أعداد إضافية للدفن، بعد نفاد القبور فيها، ما اضطر البعض لدفن أكثر من جثة في القبر الواحد، بحسب إفادة بعض الأشخاص.
والمناطق التي تقع تحت سيطرة الجيش النظامي، والتي تعتبر أكثر «أمنا»، ليست بأفضل حال، فسكانها يعانون أيضاً كيفية دفن موتاهم، فمقابر المدينة بعيدة جغرافياً عنهم وهي في الجهة المقابلة ويصعب في الوقت الحالي الوصول إليها، ما اضطر البعض لدفن قتلاهم في مقابر الريف القريب كبديل من مدافن المدينة.
إحدى العائلات اضطرت لدفع مبلغ 20 ألف ليرة سورية لبعض الأشخاص من «تجار الأزمات» لقاء دفن جثة ولدهم في مكان مناسب، ليفاجأ الأهل بعد يومين باتصال من إحدى الفروع الأمنية تطالبهم بالمجيء والتعرف على جثة ابنهم، فقد تم إلقاء القبض على الأشخاص وهم ينقلون الجثة على إحدى الحواجز المنتشرة في المدينة ظناً منهم أنه من مقاتلي المعارضة، ولم يعرف بعدها ما هو مصير الجثة ومصير من كان برفقتها.
ويقول أبناء أم حسام إن دفن والدتهم في الحديقة مؤقت، فهم بانتظار هدوء المعارك والفرصة المناسبة لنقل رفاتها إلى مقبرة العائلة القريبة. وبالرغم من قصف مكتب دفن الموتى في وقت لاحق بعد تفعيله، وبقاء آلة الموت تحصد يومياً العشرات في حلب، فإن تراب الوطن يضيق يوماً بعد يوم عن احتضان أبنائه، ويبقى الحل مقتصراً، على ما يبدو، بحدائق المدينة العامة إلى حين نضوج ساعة الفرج.

جبرائيل سعود

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...