استعادة تاريخ تشيلي متنكراً بثياب انثى

28-02-2007

استعادة تاريخ تشيلي متنكراً بثياب انثى

عرفنا دائماً أن ايزابيل الليندي هي كاتبة من طراز حكواتي واضح لا تختبئ وراء التقنيات الروائية المعقدة أو حتى الملعوبة وفي روايتها الأخيرة عززت هذه الميزة ولم تتعب نفسها أبداً في اختراع تقنية مبتكرة خاصة بها إنما لجأت إلى الحكائية المعلنة عبر شخصية البطلة (انيس) التي تكتب تارة وتارة أخرى تحكي لابنة زوجها ايزابيل وتسرد لها ذكرياتها بتفاصيلها الدقيقة مؤرخة بذلك لتاريخ فتح تشيلي وتحولها إلى مملكة تابعة لاسبانيا.

لا تبتعد الليندي كثيراً عن نماذجها النسائية المفضلة حيث تعمد دائماً إلى انتقائهن نساء عاديات, لسن جميلات لكن جذابات على نحو ما و قويات ويمتلكن قدرات عجيبة غريبة وخارقة كالتحدث إلى الموتى والتنبؤ واستباق الأحداث والاعتماد على الحاسة السادسة أو الحدس بشكل دائم ومتسلسل وموظف (قلبي النزق هو الذي ينبئني باقتراب النهاية, كنت أعرف على الدوام أنني سأموت هرمة بسلام, في فراشي مثل كل نساء أسرتي, ولهذا لم أتردد في مواجهة أخطار كثيرة, فليس هناك من ينتقل إلى العالم الآخر قبل أن تحين ساعته المحددة, (أنت ستموتين بالشيخوخة وحدها ياسيدتي) كانت كاتالينا تطمئنني).‏

ومن المغامرة تستمد كل الشخصيات نسغها وتمتلك القدرة على الإقدام صوب المجهول: (كل شيء مختلط بفوضى. قديسون وخطأة بيض, سود, سمر, هنود, خلاسيون, نبلاء وخدم ويمكن لأي شخص أن يجد نفسه في أحد الأيام مكبلاً بالأغلال وموسوماً بحديد محمى وفي اليوم التالي يرفع القدر مكانته في انقلاب مفاجئ, لقد عشت أكثر من أربعين سنة في العالم الجديد, ولم أعتد حتى الآن على الفوضى بالرغم من أنني أنا نفسي استفدت منها لأنني لو ظللت في مسقط رأسي لكنت اليوم عجوزاً بائسة وعمياء من كثرة العمل في التطريز على ضوء قنديل, هناك كنت سأظل انيس الخياطة أما هنا فأنا دونيا انيس سواريث, سيدة رفيعة المقام أرملة سموا الحكم دون رود ريغودي كيروغا حاكم مملكة تشيلي).‏

فقد بدأت مغامرتها العجيبة حين قررت الخياطة الشابة العمل بكد وجهد لتوفير نفقات الرحلة البحرية إلى القارة الجديدة بذريعة اللحاق بزوجها أو البحث عنه والذي غادر اسبانيا بحثاً عن الذهب مثله مثل معظم الفرسان الذين غادروا أوروبا وهم يحلمون بمدينة الذهب (الالدورادو) فتبدأ رحلة مجنونة غير آمنة بحيث لا تدري ماذا سيحدث معها بعد ساعة وتبدأ المغامرات المربكة على ظهر السفينة التي أقلتها إلى أميركا اللاتينية, وكالعادة ليس عسيراً على قراء الليندي التنبؤ بأن بطلتها تتقن الطبخ إلى حد مدهش بل ومذهل ؟‏

إلى حد أن هذه الموهبة تنقذها مرات عديدة بل وتلفت إليها الأنظار وتضفي عليها جاذبية بل وتحولها (ملكة جمال) بنظر الرجال: (جاء يوم بدأنا نعاني فيه من الجوع, عندئذ تذكرت الفطائر وأقنعت الطاهي بأن يعطيني بعض الدقيق والدهن, وقليلا من اللحم المقدد الذي نقعته بماء البحر قبل أن أطهوه وأضفت من مؤونتي الخاصة زيتونا وزبيبا وبعض البيض المسلوق المقطع إلى قطع صغيرة كي يتوزع أكثر وكمونا وهو بهار رخيص يمنح الطعام مذاقا خاصا).. وهكذا على القارىء ألا يستغرب كيف يمكن للفطائر أن تصنع المعجزات في عوالم ايزابيل الليندي عموما وتحديدا في روايتها هذه؟!!‏

المهم والجميل الذي أتقنت سرده الكاتبة هو براعتها في حبك تاريخ البيرو وتشيلي مع الحياة الشخصية لبطلتها؟! وأحسنت دفع القارئ إلى الاندماج بسير الأحداث (الدراماتيكي) لافتتاح القارة الأميركية وطريقة مواجهة الغزاة للسكان الأصليين وإبادتهم لهم رغم توفر الذكاء الفطري لدى تلك الشعوب لكن ذلك لم ينقذها طويلا أمام المدافع والأسلحة النارية.. تجلى ذكاؤهم في اختلاق الأساطير التي سرعان ما يصدقها الإسبان في حمى بحثهم عن الذهب حيث اختلقوا مدينة الذهب (الدوراد و) للتخلص من الغرباء الذين كانوا يموتون في الغابات والمستنقعات والجبال خلال سعيهم المجنون للعثور على الذهب.‏

قدمت الكاتبة كل ذلك عبر شخصيات أنثوية بالغة الدقة والاتقان مثل أميرة الأنكا سيسيليا التي تزوجت أحد النبلاء الإسبان وكاتالينا وصيفة ومرافقة البطلة (انيس) ومهما ابتعد القارىء بذهنه عن انيس سيعود ليجد نفسه أمام قدراتها الخارقة التي منها امتلاكها القدرة على العثور على الماء وبفضل قدرتها تلك أنقذت الجيش المتجه إلى تشيلي عابرا الصحراء المرعبة التي تفصل تشيلي عن البيرو..‏

الحب هو (دينامو) كل الرواية.. لكن الحب من الجانب الأنثوي هو الحب المشروح بقلم الليندي حيث الحب المتقلب المنتقم الغيور الماكر (انيس) التي تدخل تشيلي كعشيقة لقائد الجيش بيدرو بالديبيا سرعان ما تتزوج صديقه وأحد قواده رورديغو كحيلة أنثوية اضطرارية لترميم كبريائها الذي جرحه بالديبيا.. بل وتعترف أنها عاشت عاطفة ازدواجية أحبت الاثنين معا..‏

لكنها لم تخن أيا منهما: (أكثر ما كان يعجبك في يابيدرو هو الوفاء وما زالت أحافظ على هذه الصفة لكنني أدين بها الآن لرودريغو- قلت له بحزن لأنني أحسست بأن وداعنا في تلك اللحظة هو وداع إلى الأبد).‏

باحتراف بالغ صهرت الليندي حياة امرأة بتاريخ مملكة وقارة في عملها (انيس حبيبة روحي. وهي العبارة التي يقال إن بالديبيا نطقها قبل موته مستلهمة بذلك عبارة نابليون الأخيرة (فرنسا, الجيش العظيم, جوزفين).‏

المصدر: الثورة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...