أنطوينو تابوكي: عندما أغرمت بالهواء

13-02-2007

أنطوينو تابوكي: عندما أغرمت بالهواء

توقفت سيارة الأجرة أمام بوابة حديد خضراء. "ها هي حديقة النباتات"، قال السائق. دفع الرجل ونزل. "أتعرف أيَّ جزء من الحديقة يحاذي مبنى يعود الى العشرينات؟" سأل السائقَ. بدا أن هذا الأخير لم يفهم السؤال تماماً، فأضاف الرجل موضحاً: "عليه نقوش من طراز الفن الجديد، انه على الارجح مبنى مصنَّف لذا لا إخال أنه تم هدمه". هزّ السائق رأسه وغادر. كانت الساعة تقارب الحادية عشرة، شعر بالتعب فالرحلة كانت الطويلة. كانت بوابة المدخل مفتوحة، والى جانبها لوحة تُعلم الزوار ان الدخول يوم الأحد مجاني والإقفال في الثانية بعد الظهر. هذا يعني انه لم يبق لديه الكثير من الوقت. دلف في طريق ضيق محاط بأشجار نخيل ذات جذوع شامخة، رفيعة وقليلة الأغصان. أهذه هي الـ"بوريتي"؟ قال في نفسه، ففي المنزل لطالما تحدثوا عن نخيل الـ"بوريتي". في نهاية الطريق ساحة مبلّطة تتفرع منها ممرات صغيرة في اتجاه النقاط الاربع الاساسية للحديقة. يُظهر البلاط رسماً لزهرة من نوع دوّارة الرياح. وقف متردداً ازاء الاتجاه الذي عليه ان يسلكه، فحديقة النباتات كبيرة ولم يكن لديه الوقت لإيجاد ما يبحث عنه قبل ساعة الاقفال. قرر التوجه جنوباً. فهو لطالما بحث عن الجنوب في حياته، واذ وصل الآن الى هذه المدينة الجنوبية بدا له صائباً الاستمرار في الاتجاه نفسه. مع ذلك، شعر بهبوب ريح الشمال. فكّر في الرياح التي تواكب الحياة في مراحلها المختلفة: النسيم العليل، هواء الشباب الحار الذي يعمل ريح الـ"ميسترال" في ما بعد على تبريده، بعض الـ"ليبيتشي" القوية، الـ"سيروكو" الحار المرهق، رياح الشمال القارسة. فكّر ان الحياة مكوّنة من الهواء، نسمة ثم لا شيء بتاتاً. في النهاية نحن ايضاً لسنا سوى نسمة، تنفّس، ثم ذات يوم ينتهي التنفس وتتوقف الآلة. هو ايضاً توقف، لأنه كان لاهثاً. لديك نفَسٌ جيد، قال لنفسه. كان الطريق يتقدم على شكل منحدر قاس صوب مصطبات تتوارى خلف فيء اشجار المانيوليا العملاقة. جلس على مقعد وأخرج من جيبه دفتراً صغيراً. كان يسجل فيه اسماء الأمكنة الاصلية للنباتات التي تحيط به: أسورس، جزر الكاناري، البرازيل. رسم بقلمه بضع أوراق وزهور، وعلى صفحتي الوسط في الدفتر، رسم زهرة شجرة ذات اسم غريب جداً مصدرها الكاناري. كانت شجرة عملاقة ومهيبة وذات اوراق رمحية طويلة وأزهار شُبوقية ضخمة تشبه الثمار. كان عمر هذه الشجرة العملاقة معتبَراً بالفعل. أجرى عملية حسابية واستنتج انها لا بد كانت بلغت سن الرشد في عهد عامية باريس.
أحسّ أنه استعاد أنفاسه، فتوجه بنشاط صوب نهاية الممر. فاجأته الشمس وأبهره نورها. الطقس حار جداً، ومع ذلك كان النسيم الذي يهبّ من المحيط منعشاً. تنتهي المنطقة الجنوبية من حديقة النباتات بمصطبة كبيرة تشرف على المدينة حيث يمكن رؤية كل الطوبوغرافيا العمرانية: الوادي الذي يحضن المدينة القديمة، شبكة الطرق والشوارع الضيقة، السطوح، المنازل البيضاء او الصفراء او الزرقاء في معظمها. من على هذا الارتفاع نعانق الافق بكامله، وفي البعيد، يميناً، خلف رافعات المرفأ، نعاين البحر بكل شساعته. سور صغير بعلوّ صدره يحدّ المصطبة، وتزيّنه موزاييك باللونين الاصفر والازرق تجسّد المدينة. راح يستكشف المدينة مستدلاً بالرسم أمامه: قوس النصر في المدينة السفلى التي تنطلق منها الشوارع الثلاثة الرئيسية. الهندسة العائدة الى عصر الانوار اثر عملية اعادة الاعمار التي تلت الهزة الارضية. وسط المدينة، مع الساحتين الكبيرتين جنباً الى جنب. بناء المستديرة المقبّب بلونه البرونزي. الاحياء الجديدة في الشمال المشيدة على طراز الخمسينات والستينات. لمَ جئتَ الى هنا؟ سأل نفسه. علامَ تبحث؟ كل شيء اختفى، تبخروا جميعهم. انتبه انه تكلم بصوت مرتفع وضحك من نفسه. اشار في اتجاه المدينة كما لو يحيّي أحدهم. في البعيد، دق جرسٌ ثلاث دقات. نظر الى الساعة: الثانية عشرة الا ربعاً، قرر زيارة جزء آخر من حديقة النباتات، فعاد ادراجه لاتخاذ الممر الآخر. في هذه اللحظة، وصله صوت امرأة تغنّي من دون ان يعرف اين. توقف وحاول تحديد مصدر الصوت. عاد ادراجه، انحنى فوق الجدار ونظر الى الاسفل. حينذاك فقط انتبه الى وجود مبنى الى اليسار، يحجبه درج الحديقة. كان المبنى عبارة عن مبنى سكني قديم تقع خلفه حديقة النباتات، لكن الجهة اليمنى منه، الواضحة للعين تماماً، تجعل الناظر يدرك ان المبنى يعود الى بداية القرن، على الاقل كما توحي افريزات الحجر والجص التي تُظهر أقنعة مسرحية تعلوها اكاليل من الغار. أما سطحه فعبارة عن مصطبة كبيرة تتقاطع عليها المداخن وحبال الغسيل. المرأة تدير له ظهرها، ومن الخلف تبدو فتاة صغيرة. كانت تنشر الغسيل، وتقف على رؤوس اصابعها لتطال الحبل رافعة ذراعيها الى الاعلى كما لو انها ترقص. كانت ترتدي ثوباً من القطن المطبوع يُظهر جسداً رشيقاً، وكانت حافية القدمين. النسيم يلوّح الغطاء في اتجاهها كشراعٍ تعانقُه. توقفت عن الغناء الآن، انحنت فوق سلة موضوعة على منضدة وراحت تُخرج منها ملابس ملونة، تراءى له انها مايوهات. كانت تُخرجها في شكل يجعل الناظر يخال انها اختارت تلك التي عليها نشرها اولاً. تنبه انه يتعرق قليلاً. لم يكن الصوت الذي سمعه والذي لم يعد يسمعه الآن، قد تلاشى تماماً. لا يزال يسمعه في داخله، كما لو ان الفتاة تركت صدى مستمراً. شعر بأسى غريب، وأحس كما لو أن جسده فقد كل وزنه ورحل صوب مكان بعيد ومجهول. غنّي بعد، همس، ارجوكِ غنّي بعد. كانت الفتاة قد اعتمرت خماراً على رأسها، رفعت سلّة الغسيل عن المنضدة وجلست محاولةً حماية نفسها من الشمس في القليل من الظل الذي تصنعه الملاءات. كانت تدير له ظهرها فلا تسعها رؤيته، اما هو فكان يحدق اليها مسحوراً من دون ان يتمكن من رفع نظره عنها. غنّي بعد، قال بصوت خفيض. أشعل سيجارة وتنبه الى ان يده ترتجف قليلاً. فكّر انه لا بد توهَّمَ الصوت، فنحن احياناً نخال اننا نسمع ما نحب سماعه. ثم لم يعد أحد يغني هذه الاغنية اليوم. الذين يغنونها ماتوا جميعاً. ما هي هذه الأغنية؟ والى اي عهد تعود؟ قديمة جداً، من القرن السادس عشر، او ما بعده. كما انه لا يعرف اذا كانت اغنية راقصة او اغنية فروسية او اغنية حب او اغنية وداع. عرفها ذات زمن، هذا كل شيء، لكن هذا الزمن لم يعد زمنه. فتّش في ذاكرته، وفي لحظة، كما لو ان اللحظة قادرة على احتواء سنين، عاد الى ذلك الوقت الذي كان فيه أحدهم يناديه "ميغالا". "ميغالا" تعني فُتات، قال في نفسه، وفي ذلك الوقت كنتَ فتاتاً. فجأة، لفحه هواء أكثر هبوباً، فجعل الملاءات تتمايل ايضاً. نهضت المرأة وبدأت بتعليق مايوهات صغيرة ملونة وجوارب قصيرة. غنّي بعد، همس، ارجوكِ. في هذه اللحظة، بدأت أجراس الكنيسة المجاورة تدق بقوة معلنةً الظهر. وكما لو مدفوعاً بصوت الاجراس، ظهَرَ من المرقب الصغير حيث الدرج المفضي الى المصطبة، ولدٌ راح يركض صوبها. بدا كأنه في الرابعة او الخامسة من العمر. شعر مجعّد وخفّان مع فتحة على شكل عينين وسروال بحمّالتين. وضعت الفتاة السلّة على الارض، انحنت مقرفصة وهتفت: صامويل! فتحت ذراعيها وارتمى الطفل بينهما، نهضت وبدأت تدور حول نفسها والصبي ملتصق بها، كانا يدوران معاً مثل لعبة الأحصنة الدوّارة، ورِجلا الصبي ممدودتان افقياً. كانت تغني: "أغرمتُ بالهواء، بهواء امرأة، لأن المرأة كانت هواء، وقد بقي لي قبضة من هواء".
جلس على الارض واسند ظهره الى السور ونظر الى السماء. الازرق السموي الشاسع يلوّن الفضاء المفتوح. فتح فاه ليتنشّق هذا الازرق، ليلتهمه، ثم عانقه وضمّه الى صدره بشدة وقال: "يا هواءً يحمل الهواء، يا هواءً يحمله الهواء ويحملها، كانت مسرعة ولم يتسنَّ لي ان اكلمها. كما لو انه يحرّك تنورة، كان الهواء يتأرجح فيها".

 

                                                                                                  انطونيو تابوكي

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...