أربعون عاماً على وفاة بابا السوريالية أندريه بـروتـون

06-11-2006

أربعون عاماً على وفاة بابا السوريالية أندريه بـروتـون

"من أنا؟" يسأل أندره بروتون في مقدّمة أكثر كتبه شهرة: "نادجا". كثر سيتولّون الإجابة بعد ذلك، أصدقاؤه سيكتبون على قبره عبارة: "باحث عن ذهب الوقت"، آخرون سيصفونه بأنه واحد من أولئك الجنود الشبّان الذين اعتلوا الطاولات ومزّقوا الستائر رافضين مجزرة الحرب، قالبين فجأة، ورأساً على عقب، المسائل الأدبية القديمة. ثم سيعلّق أحدهم: أليس من سخرية القدر تكريس بروتون كاتباً كلاسيكياً في فرنسا عبر إدخاله مجموعة "البلياد"، هو المسخِّر طاقاته الكتابية كلها لتحطيم الكلاسيكية؟
إنه أندره بروتون، راعي خراف العصيان، كبير الكهنة المنشقّين، رئيس قطّاع طرق الروح، حجة الأطفال الكبار، الناطق باسم المنجّمين والعرّافين، بحسب أنسي الحاج، والكلاسيكي الخوارجيّ، بحسب تعبير عصام محفوظ، السوريالي الأول والجندي المنضبط في "مدرسة الأعمال المتوحشة الجيدة"، كما وصف بروتون التعليم القتالي. اقترح الناقد بيار تينييل جمع أسمائه الحسنى (السيئة؟) تاركاً للصدفة أن تتسكّع على سيرةٍ تُعدّ الإحاطة بها ادعاءً كبيراً، فجاءت النتيجة كالآتي: ابن كاتب عسكري، جندي الكتابات الشعرية خلال ربع قرن، تلميذ طبّ خلال الحرب العالمية الأولى، دادائي، منهي الدادائية، مؤسس السوريالية، صديق روبير ديسنوس، بابا السوريالية، عدو روبير ديسنوس، عدو المجتمع التاجر، عضو الحزب الشيوعي، تاجر الفن، عاقّ في زمن السلم، جبان في زمن الحرب، جامع الفن الإفريقي، مقاتل ضد الاستعمار، عدو الأدب، أديب وناقد، مهدّم التماثيل، تمثال في متحف، ثم قبل ذلك أو بعده: شاعر. لم يرد بروتون أن يعيش من أجل الشعر طبعاً، لكنه لم يستطع العيش إلا بواسطته.

اليوم، وبعد مرور أكثر من ثمانين عاماً على بيان السوريالية الأول، لا بد من طرح السؤال: هل السوريالية لا تزال حيّة؟ تؤكد دراسات نقدية كثيرة أن السوريالية هي الدادائية نفسها التي أُعيد انتاجها بعدما ضمّت في صفوفها جميع الدادائيين الأوائل، وهي بالتالي قادرة على إعادة إنتاج نفسها في كل مرة وغير قابلة للموت. هذا المصطلح الذي "استلّه" بروتون من أحد أعمال أبولينير، عرّفه في مقدّمة كتابه "أسماك قابلة للذوبان"، الصادر عام 1924، والتي عُرفت في ما بعد بالبيان الأول كالآتي: "اسم مؤنث، وهي الآلية النفسية المحض التي يريد المرء من طريقها التعبير شفوياً أو كتابياً، أو بأي طريقة أخرى، عن وظيفة الفكر الحقيقية. وهي ما يملي الفكر بعيداً عن أي رقابة يمارسها العقل وبعيداً عن أي اهتمام جمالي أو أخلاقي". وقد أفادت السوريالية من الدادائية واشتركت معها من حيث انفتاحها وعداؤها للكلاسيكية، فلو عدنا إلى ما قاله تريستان تزارا عن "دادا" الذي لا يعبّر عن عقيدة أو مدرسة بل مجموعة من الأفراد والمظاهر الحرّة، سنلحظ وجه الشبه مع صفات السوريالية التي وضعها بروتون، أي الفوضى والصدفة واللامنطق. وعليه، فإن مفهوم الجمال السوريالي، سليل المفهوم الدادائي، مختلف عن مفهوم الجمال الكلاسيكي البورجوازي أو "الجمال الشرعي" الخاضع لقواعد عقلية والقائم على نوع من التوازن والنسب. هل كانت السوريالية تفجيراً للأشكال الكتابية إذاً، قام بها جنود فارّون من وحشية الحرب؟ في الواقع كانت أكثر من ذلك، فقد أرادت "عصبة" السورياليين، التي ضمت إلى بروتون، أراغون وإيلوار وغيرهم، تغيير كل شيء في البداية: الحياة والسياسة والأخلاق والأدب، نحو الأنماط الأكثر تلقائية وطبيعية، لتنكبّ بعد ذلك على الأدب فقط، مشددةً على مبدأ الكتابة الأوتوماتيكية، التي كان كتاب "الحقول المغناطيسية"، الصادر عام 1920 لبروتون وصديقه فيليب سوبو، التمرين التجريبي الأول لها. هذه الكتابة تختصر الطريق بين الفكر واليد، وهي ثمرة حلم وليست نتيجة لفعل واعٍ، باعتبار أنه "لا يوجد شرط أخلاقي للجمال" كما جاء في مقدّمة بروتون لكتاب "غاسبار الليل" لأليوسيوس برتران، وأن "العملة القديمة في قصيدة النثر التي كان بيار ريفيردي وماكس جاكوب من أسيادها لم تحافظ على قيمتها، لأن طموح الشاعر يجب ألاّ يقتصر على تعلّم الرقص في العتمة بين الخناجر والقناني". هكذا، تباعاً، سيتخلّص بروتون، الذي أهدى واحدة من أولى قصائده إلى بول فاليري، من ترّسبات آبائه جميعاً: من فاليري ومالارميه إلى أبولينير وريفيردي ورامبو الذي احتفظ بإعجاب خاص به.

ولد بروتون عام 1896 في مدينة تنشبراي في منطقة الأورن الفرنسية لعائلة متواضعة، حيث كان والده كاتباً في الجندرمة انتقل به عام 1900 إلى باريس، قبل أن يعيش في سان - بريوك لدى جده لأمه الذي أحبّه حباً جمّاً وورث عنه شغفه بالنبات والحشرات. بعد دخوله المدرسة القروية في بانتان، التحق بروتون عام 1906 بمدرسة شابتال، وقد ورد ذكر هاتين المدرستين في أحد فصول "الحقول المغناطيسية". وكان على الفتى أن يتعلّم في شابتال اللغتين الألمانية والإنكليزية، متقبّلاً على مضض الرياضيات وشغوفاً بالعلوم الطبيعية، واتسمت أعوام طفولته بالرمادية بسبب الروتين المدرسي الكئيب وتسلّط والدته المتديّنة، مما جعله يطلق في ما بعد جملته الشهيرة في عمله "الحب المجنون": "يجب قبل أي شيء دفن فكرة العائلة تحت الأرض".
في الخامسة عشرة من عمره خرق نور الشعر حياته من طريق أحد أساتذته ألبر كيم الذي عرّفه إلى كبار شعراء الحداثة: بودلير ومالارميه وهايسمان وغيرهم، ونشر له أولى قصائده باسم مستعار في مجلة الكلّية. منذ ذلك الحين استحوذ على بروتون شغف الشعر، فقرأ الرمزيين وتابع الحصص الشعرية في "فيو كولومبيه".
في 16 شباط و25 أيار 1913 حضر بروتون التجمّع الحاشد الذي دعا إليه الزعيم الفرنسي الاشتراكي جوريس ضد الحرب، في أول اتصال له بالسياسة التي ستشهد علاقته الطويلة بها مداً وجزراً. وعلى الرغم من التحاقه في ذلك العام بكلية الطب، ظلّ قريباً من الشعر والكيمياء، ونشر في آذار 1914 ثلاثاً من أولى قصائده في مجلة "لا فالانج" بعد اغتيال جوريس، مما جعل بروتون مذذاك يكره التعصّب القومي ويصفه بالمثير للاشمئزاز.

عند اندلاع الحرب لم يستسلم بروتون لأجواء اليأس التي سادت البلاد، وفي نيسان 1915 استدعي إلى الجيش كاحتياطي في فوج المدفعية، ثم انتقل إلى قسم التمريض فالخدمة الصحية، حيث تعرّف إلى جاك فاشيه الذي شكّل محطة مصيرية في حياته بسبب روح السخرية التي تميّز بها، ومثّل له نموذج "المقاومة المطلقة" للحرب، لكن أيضاّ للإقطاعية ولقيم ثقافة ما قبل الحرب. بعدذاك انتقل بروتون إلى قسم الأمراض العصبية، لينكبّ على دراسة فرويد بحسب شرح ريجيس وهاسنار، قبل أن يعيش أشهراً مؤلمة من فصول الحرب على جبهة فردان.
بعدما زار أبولينير للمرة الأخيرة قبيل وفاته، عُيّن بروتون طبيباً مساعداً وانتقل إلى باريس للإقامة نهائياً فيها. هناك انتحر صديقه فاشيه، وأسس مع أراغون وسوبو مجلة "أدب" عام 1919 . المرحلة الباريسية شهدت أهم حوادث حياة بروتون، فقد شارك في الحركة الدادائية قبل انفصاله عن تزارا مطلقاً البيان الآتي: "أتركوا دادا، أتركوا الفريسة للظلال، سيروا في الطرق"، ثم أصدر بالاشتراك مع سوبو "الحقول المغناطيسية".
عام 1924 كان عام ولادة السوريالية وصدور بيانها الأول الذي يقترح رؤية جديدة للشعر، لكنه أيضاً شهد موت مجلة "أدب" التي تضمّن عددها الأخير قصيدة غير معروفة لرامبو بعنوان "قلب تحت الجبة". أعقب تأسيس السوريالية انتساب بروتون إلى الحزب الشيوعي، ثم اختلافه مع الشيوعيين وقادتهم الثقافيين "المحدودي العقل" كما وصفهم. ليُصدر بعد ذلك أهم أعماله: "نادجا" (1928)، "الأواني المتصلة" (1932)، "الحب المجنون" (1937)، أيضاً البيان الثاني للسوريالية (1930)، ثم الثالث (1942) الذي جاء في مقدّمته: "لا يكفي أن يتوقف استغلال الإنسان للإنسان، بل أيضاً أن يتوقف استغلال الإنسان على يد الله المزعوم". خلال الحرب العالمية الثانية لجأ بروتون إلى الولايات المتحدة، قبل أن يعود إلى فرنسا طامحاً إلى إعادة تكوين الحركة السوريالية التي بقي مرافعاً عنها وعن الحداثة الشعرية حتى وفاته عام 1966 في باريس بسبب مرض رئويّ.

على الرغم من زواج بروتون ثلاث مرات، أثمرت احداها ابنته أوب، إلا ان امرأة حياته حملت اسماً وحيداً: نادجا، التي لم يحبها يوماً! "المخلوقة الملهَمة والملهِمة بشكل دائم" كما وصفها، المرأة التي أصدر عملاً يحمل اسمها. ينقل جان بيار دو بومارشيه ودانيال كوتي أن هذا الكتاب هو مغامرة واقعية عاشها بروتون مع شابة التقاها في تشرين الأول 1926، وتوقف عن رؤيتها منذ شباط 1927. وكتب العمل في كانون الأول من العام نفسه إثر الصدمة النفسية التي تعرّض لها نتيجة حزنه على نادجا، بعدما شعر بنوع من الذنب لأنها جُنّت وأدخلت إلى الحجز النفسي، في وقت كان يعاني هو تجاذبات داخل الحركة السوريالية، وبينها وبين الحزب الشيوعي. السؤال الوجودي الذي تُستهلّ به "نادجا" (من أنا؟) يتحوّل ديباجة طويلة تتوسل شرح مسيرة بروتون قبل لقائه نادجا، ويحاول فيها البحث عن إجابات منطلقاً من المثل الشعبي القائل: "قل لي من تعاشر، أقل لك من أنت"، مراقباً الطريقة التي جرت فيها حياته ومكامن فرادتها. يروي بروتون في هذا العمل أيضاً حوادث وسمت مسيرته كإشارات كان هو "شاهدها الزائغ"، غائصاً في مفهوم السوريالية كنمط عيش قائم على تسكّعات راوٍ وحيد أو برفقة أصدقائه في باريس الشاذة. الحدث المتمثل في لقاء نادجا يبدو لبروتون مثل شفا هاوية تجرّ إلى دروب انفجار الحلم السحري واللغة والجنون في مدينة هي طريدة دوّار الإشارات الذي يجتازها كشيفرة ضخمة. تدخل نادجا في المشهد: شابة قادها الشقاء إلى ممارسة البغاء، اسمها الحقيقي ليونا د. لكنها اختارت اسم نادجا لأنه يعني في الروسية بداية كلمة "أمل"، شارحةً ذلك لبروتون الذي احتفظ برسائلها ورسومها: "نحن في صدد البداية فقط". هذه البداية التي ستجعل بروتون يطوف شوارع باريس متنفسّاً هواء "المرأة الأسطورية" أو الروح الهائمة التي تقوده إلى اجتياز المرآة، إلى الجهة الأخرى من واقع أبعد من الحدود التي تفصل الواقعي عن المتخيّل، والعقل عن الجنون.
هذه الشابة الهشّة والغريبة لم تحظَ بحب بروتون، ففقدت عقلها ونُقلت إلى مستشفى حيث لم يرها أحد بعد ذلك سوى خيال بروتون الذي حاول التكفير عن ذنبه بطريقة غريبة: أهدى عمله إلى امرأة أخرى شُغف بها!
لم يتوقّع بروتون طبعاً أن تُعرض ممتلكاته للبيع بعد وفاته. لكن هل كان ليأبه لو عرف ذلك؟ لا نملك الإجابة، وربما لا نريد. ما يهمنا من تلك الممتلكات حصلنا عليه. مع ذلك أصغوا قليلاً، لقد مضى بروتون وهو يردد: "يكفينا أن نفتح يدينا وصدرنا لنصير كهذا النهار الذي ترقص فيه الشمس. أن تعرف أن ثمّة جريمة خضراء ستُقترف. إنك لا تعرف شيئاً يا صديقي المسكين. إفتح هذا الباب على مصراعيه وقل لذاتك: إنه الليل الدامس، وإن النهار قد مات للمرة الأخيرة".

أبـــــــرز أعـــــــــمــالـــه:

"الجبل الورع" (1919)
"الحقول المغناطيسية" (1920)
"ضوء الأرض" (1923)
"أسماك قابلة للذوبان"، "الخطوات الضائعة" (1924)
"نادجا"، "السوريالية والرسم" (1928)
"مأساة الشعر: مرافعة عن أراغون"، "المسدس ذو الشعر الأبيض"، و"الأوعية المتصلة" ( 1932)
"معجم السوريالية المختصر"، "موقف السوريالية السياسي" (1935)
"الحب المجنون" (1937)
"أنطولوجيا السخرية السوداء" (1940)
"بيان السوريالية الثالث"، " فتى مورجانا" (1942)
"المصباح في الساعة" (1948)
"مفتاح الحقول" (1953)
"الفن السحري" (1957)
"عن السوريالية وأعمالها الحية" (1965).

زينب عساف

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...