" مشهد عابر" لفواز حداد: لا ضوء في نهاية النفق ولا حتى نفق

17-04-2007

" مشهد عابر" لفواز حداد: لا ضوء في نهاية النفق ولا حتى نفق

الجمل ـ د. ثائر دوري : "لم يشبه الصباح الغائم جزئياً ذاك الصباح المشرق كلياً حينما تسلم قبل أشهر بطاقة الدعوة على مسرح القباني . اليوم ، بعد هذا الزمان ، استلم بطاقة أخرى ، استوقفته التفاصيل الصغيرة المطابقة ، المظروف الأبيض ، الورقة الصغيرة زرقاء اللون ، الكلمات البسيطة المكتوبة بخط دقيق و جميل ، و الدعوة غير المذيلة بتوقيع ، يخاطبه صاحبها برسمية ..."
و ما حدث في الدعوة الأولى حدث مثله في الدعوة الثانية ، فالسيدة التي جلست قربه و بجانبها مقعد فارغ و حذرته أن لا يستخف بموضوع المسرحية الأولى " عودة الزمن المجنون " التي تدور حول الغرام و الانتقام . هي نفسها من ناقشته بفكرة الغفران بعد الانتقام في المسرحية الثانية ، و أثناء النقاش يضيع علينا من سيغفر لمن ، المعذب المهان هو الذي سيغفر لمن عذبوه و أهانوه ، أم يتوجب على هذا المعذب المهان أن يلتمس الغفران منهم لأنه دخل عالمهم بغير شروطهم التي تتلخص بأن تكون أحد المتنفذين من رجال السلطة أو المؤسسة الأمنية أو من حيتان المال ، أو راقصة ، أو عاهرة ، أو قواد .
حاول أن يدخل عالمهم عن طريق علاقة عابرة جمعته ذات مرة أثناء هجران زوجته له بـ" فتاة الشامبو " و هي ممثلة أدوار ثانوية و فتاة إعلانات تعرف عليها عندما كان يكتب النقد المسرحية في الجريدة الحكومية التي يعمل بها قبل أن يستقيل لاحقاً لأنه عجز عن إثبات ولائه للمؤسسة الحاكمة . فهو لم يكتب كما غيره معلقة مديح في مناسبات تخص السلطة و لم ينتسب لأية مؤسسة من مؤسساتها فحكم على نفسه أن يبقى في الظل و لو فعل غير ذلك لتغير مصيره تماماً . لم تكن تلك العلاقة "علاقة حب عنيفة أو هادئة ، مجرد علاقة عابرة ، لم تستمر ليصبح لها طعم العسل أو السم " . بعد ذلك افترقا " و تركت هي التمثيل لتكتشف بداخلها موهبة التغرير بموظفين أثرياء على وشك التقاعد و شارفوا على شيخوخة قاحلة " و من هنا دخلت إلى عالم الكبار .
جاءت تعرض عليه أن يتزوجها بعد كل هذه السنين ليدخل هذا العالم كقواد محترم إلا أنه رفض ، ففتحت عليه أبواب الجحيم و التهمة الجاهزة ، و هي أنه دخل أثناء غيابها إلى بيتها عنوة ، فاغتصب أختها القاصر المتخلفة عقلياً دنيا ،فانحصرت خياراته بخيارين ، إما أن يتزوجها و يعترف بأبوة الطفل الذي تحمله في أحشائها ، أو أن يدخل السجن مدة عشرين عاماً بتهمة التغرير بقاصر و تهم أخرى . لقد تركوا له الخيار بين أن يدخل عالمهم العلوي أو أن يدخل السجن .  سمحوا له أن يدخل عالمهم ، العالم العلوي ، الذي يحكم البلد بشروطهم هم لا بشروطه عقاباً له على محاولة اقتحام عالمهم دون استئذان . تريد أن تدخل هذا العالم إذاً تفضل كديوث . أحكموا الحلقة حوله فضبط الشرطة جاهز و قد
وقع عليه بعد التعذيب فأقر بكل ما ورد فيه من جرائم هتك عرض قاصر و ضربها و اغتصابها بأشكال مختلفة بعد أن اقتحم البيت عنوة ، و تدخلت الجهات العليا عدة مرات مع قاضي التحقيق كي يقفل التحقيق بسرعة و يحيله إلى القاضي البروشي ، و لهذا الرجل قصة أخرى .
لكن أحمد ربيع رفض فكاد أن يضيع في غياهب السجون  لولا المصادفة البحتة التي رمت في طريقه قاض للتحقيق أحب أن يستعيد دور شرلوك هولمز،  الذي كان حلم حياته أن يؤديه قبل أن يدخل في سلك القضاء و يكتشف أن الحياة الواقعية تختلف جذرياً عن الأحلام ، فالجرائم كلها غبية يحلها رجال شرطة المخافر بعضلاتهم فيعترف المجرم بالجرائم التي ارتكبها وبتلك التي لم يرتكبها . لكن هذه المرة خطر له أن يلعب دور البطولة فحل اللغز و ألقى القبض على فالح الجادور الذي مارس الجنس مع القاصر المتخلفة عقلياً دينا  و الذي بحثت أختها دنيا في دفاترها القديمة عن أب لهذا الطفل فعثرت على بطلنا أحمد ربيع ، مع ملاحظة أن كلمة بطل التي توصف أحمد ربيع هي مجازية تماماً فهو لا يملك أي نوع من أنواع البطولة ، بل هو إنسان منسي مهمل يقبع في ركن صغير فهو لم ينتم للمؤسسة الحزبية و لم يجاملها و اختار الابتعاد عنها بمحض إرادته ليبقى على هامش الأحداث مثله كمثل أغلب أفراد جيله . أما الأبطال الحقيقيون فهم فالح الجادور الذي بدأت بطولاته في الاقتحام و القتل أثناء أحداث الحرب الأهلية ليصاب لاحقاً و يعين مديراً للمرفأ لاحقاً كجائزة ترضية فيتابع هناك بطولاته الجنسية و المالية ، و بعد أن يتجاوز فساده الحدود المسموح بها يعزله طرف من المؤسسة الحاكمة من المرفأ ، لكن طرفاً آخر يرفض هذا القرار و بعد صراع مرير بين الطرفين نكتشف عبره الدوائر الخفية التي تسير أمور البلد يتوصل الطرفان إلى تسوية بتعيينه محافظاً ،و هناك يبدأ فالح رحلة جديدة مع المال فقد قرر أن لا يضيع لحظة واحدة بدون جمع المال ، فيسمسر ، و يتاجر و يرتشي ، و يبتز ، و يقبل الهدايا النقدية منها و العينية قبل أن يهرسه البراد الذي كان يحاول زحزحته من مكانه في مستودعه المليء بهذه الأشياء ، و بعد غيبوبة استمرت أشهراً يستيقظ طفلاً صغيراً شهوانياً ليبدأ مساراً ثالثاً مع القاصر دنيا، و يحل مكانه ابنه بصيغة "رجل أعمال" يدير فضائح الأسرة و أموالها بالتحالف مع رفاق أبيه الذين ما زالوا في مواقعهم السلطوية .
في الدراما الإغريقية يسقط البطل إلى الجحيم ليشاهد ما يجري هناك لكنه يعود سالماً دون أن يتأثر ، أو يتوه في البحار كعوليس ليعود بعد سنوات ليجد زوجته بنيلوب بانتظاره محافظة على نضارتها و شبابها كأنه لم يغب سوى يوم أو بضع يوم  دون أن يتغير به شيء ، أما بطلنا فبعد أن صعد إلى الجحيم العلوي و عرف خفايا هذا العالم فقد تغير ، انكسر شيء بداخله فقد أقسم للشبيحة أنه لن يقترب من بيت الفنانة دينا ، و لا من الشارع الذي تسكن به ، و تعهد أن يحول طريقه إن رآها تمشي في نفس الطريق . و إذا كانت الدعوة للمسرحية الأولى في يوم صاف مشرق فإن الدعوة لمسرحية الختام كانت في يوم غائم فقد تيقن في مشهد اليوم الغائم بعد "المشهد العابر" أن لا ضوء في نهاية النفق .
بطل آخر تنطبق عليه مواصفات بطلنا أحمد ربيع   هو جميل عجنوني ، الذي كان يعمل مصوراً في جريدة رسمية إلا أنه أيضاً حاول اقتحام عالم الكبار بطريقة أخرى ، عن طريق النمائم و القيل و القال فقد كان موسوعة في قصص فضائح نجوم السياسة و المجتمع . فأوقعه حبه لجمع الأخبار و الثرثرة و النميمة في مشكلة مع تاجر كبير، و هذا التاجر رغم كبر حجمه هو أصغر واحد من أفراد الشبكة، فدخل جميل إلى العالم السفلي في أقبية المخابرات عقاباً له على تلصصه على عالم الكبار و التهمة الملفقة هذه المرة الانتماء إلى المتشددين . و رغم أنه مسيحي فالحل جاهز، لقد أحب فتاة مسلمة فأشهر إسلامه و ساعد أخوها المطلوب على الهرب . و كما أنقذت المصادفة البحتة بطلنا أحمد ربيع ، أيضاً تدخلت نفس المصادفة لتنقذ بطلنا الآخر جميل ، و يبدو أن المصادفات السعيدة هي وحدها التي تنقذ من يدخل هذا العالم بغير شروط أهله ، أو حتى من يتلصص عليه من ثقب الباب كحال السيد جميل . و المصادفة هذه المرة ليست قاض للتحقيق لديه شهوة للعب دور شرلوك هولمز و إنما زيارة قداسة البابا إلى دمشق و خمس عجائز من العمات و الخالات اللواتي سخرن أنفسهن لقضيته ، فحولن حياة ضابط الأمن الذي اعتقله إلى كابوس خشية أن يوصلن الأمر إلى البابا و منه إلى مستضيفه الكبير ، فيضطر ضابط الأمن إلى إطلاق سراحه بعد مطاردة حامية بينه و بين العجائز في شوارع دمشق و كنائسها و حاراتها برع الكاتب بتصويرها بسخرية لطيفة . و أيضاً لم يكن جميل كأبطال الدراما الإغريقية الذين ينزلون إلى الجحيم و يخرجون منه دون أن يتغيروا  ، بل إن هذه التجربة علمته الكثير . فإن أراد أن يتلصص على مجتمع الطبقة العليا فعليه أن يقرع الباب ليسمحوا له بالدخول ، لقد سبق و قلنا إن الدخول إلى هذا العالم يتم بشروط أهله ، و قد تعلم جميل هذا الدرس الثمين ، فدخل هذه المرة البيوت من أبوابها و بشروط أهلها كمصور للنشاطات الاجتماعية الترفيهية و التي تؤمها الشخصيات النافذة من حفلات الزفاف في الفنادق الراقية ، إلى أعياد الميلاد و رأس السنة ،إلى عروض الأزياء ، و مسابقات ملكات الجمال . و لأنه دخل على هذا العالم بشروط أهله فقد ازدهرت أعماله و صار مطلوباً في هذا المجتمع لإبراز مفاتن سيدة مجتمع في صوره التي يرسلها إلى المجلات المهتمة بهذه الأمور، أو لتصوير البذخ في حفل زفاف ....الخ
خلال نزول بطلينا إلى هذا الجحيم نتعرف على كل مفردات هذا العالم من المسؤولين الذين يمارسون السمسرة و الصفقات إلى سيدات المجتمع و عالمهن حيث يمتزج الجنس بالمال بالسلطة ، و نتعرف على وسائل ردع من يحاول اقتحام هذا العالم بغير شروط أهله من القاضي البروشي الذي يعدم الناس على الطالعة و النازلة في محاكم أمن الدولة و بعد أن انتفت الحاجة له أرسلوه إلى القضاء العادي ليمارس قسوته هناك على المجرمين . و من البروشي الذي يحمي هذا العالم بالقانون إلى رجال الأمن الذين يحمونه بوسائل أخرى ، إلى الشبيحة الذين يشكلون وسيلة سريعة للتأديب خارجة عن القانون رغم مطواعية الأخير .
هل هناك ضوء في نهاية هذا النفق ؟
لا ضوء و لا نفق هذا ما يدركه السيد أحمد ربيع في نهاية هذا العرض المسرحي .
في رواية "مشهد عابر"الحكاية تستولد الحكاية بسرد مشوق رشيق و سخرية لاذعة ساهمت في التخفيف من قسوة الموضوع ، و يتداخل العالم الوهمي " المسرح " مع العالم الحقيقي فلا ندري هل تؤدي الفنانة دينا مشهداً حقيقياً أم تمثيلياً ، و نعثر على الحقائق جارحة في عالم قاس لا مكان فيه للناس العاديين الذين يريدون أن ينزووا في ركنهم ، فأي مصادفة تدخلهم إلى عالم الكبار قد تطيح برأسهم . 

 

رواية " مشهد عابر "
فواز حداد
منشورات رياض نجيب الريس
شباط – 2007

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...