أسئلة الحرب السورية بين “متى” و”كيف”
“متى تنتهي الحرب السورية”؟ سؤال ما انفكّ يشغل بال كثير من المتابعين، والمحللين، والصحافيين، فضلًا عن السواد الأعظم من السوريين. وبقدر ما انشغلت التحليلات في اللهاث وراء إجابات، وتوقع مواقيت، وإطلاق عدّ عكسي تلو آخر، بقدر ما بدا كل ذلك أشبه بضرب من ضروب التنجيم.
العلّة هنا ليست مرتبطة بالضرورة بقصور في هذا التحليل، أو رغبوية في ذاك، أو استعجال، أو انشغال بالتحشيد والبروباغندا (برغم أن كل تلك العيوب حاضرة بوفرة). أسُّ العلل عائدٌ في الدرجة الأولى إلى أن السؤال مبني بطريقة خاطئة. الانشغال بـ”متى” كان حاضرًا بصورة تمنيات، ووعود منذ بدايات الأزمة الوطنية، يوم كان الحديث عن “التنحي” مهيمنًا على الفضاء العام (السوري وأوسع منه)، واستمر مع الانتقال إلى التنبؤ بـ”سقوط” و”إسقاط”، ثم “انهيارٍ”، فـ”تهاوٍ”، وصولًا إلى تغير لقواعد اللعبة وتبدل للأدوار حدّ الاحتفال بـ”الانتصار”، ومع كل ذلك لم يُفلح أحد قطّ في تقديم إجابات عن تلك الـ”متى”.
لتصويب الأمر، يبدو أن الأجدى إعادة صوغ السؤال ليصبح “كيف ستنتهي الحرب السورية”؟ وطبعًا لن يكون من الحكمة افتراض وجود جواب قاطع عند أحد، بمن في ذلك اللاعبون الفاعلون الأساسيون، محليين كانوا، أم إقليميين، أم دوليين. والواقع أن السباق منذ سنوات محتدم حول كيفية إنهاء الحرب، مع ما يتضمنه ذلك من إجابة منتظرة للسؤال: كيف؟
من حلب إلى درعا
شكلت معركة حلب (2016) نقطة الانطلاق الفعلي في سباق “كيف”، ذاك أن المعركة المذكورة كانت منطلقًا لمرحلة التوافق على نتائج أي معركة حتى قبل إطلاقها، وهو ما اهتمت بهندسته “مناسبات” إقليمية ودولية عديدة، لعل أهمها، وأخطرها اجتماع رؤساء أركان الولايات المتحدة، وروسيا، وتركيا (أنطاليا، العام 2017)، من دون إغفال الدور الكبير لاجتماعات مسار أستانة الكثيرة، أو التفاوضات الروسية – التركية العديدة، وبشكل خاص بدءًا من سوتشي 2018 وما بعدها. ليس القصد هنا النكوص إلى الوراء بغية التشعب في استذكار تفاصيل بات كثير منها واضحًا ومعلنًا، بل هو مجرد تكثيف تذكيري ضروري لأي بحث جدي عن إجابات تخص المسألة السورية.
تبدو التعقيدات السورية اليوم شديدة الخصوصية في مجملها، بقدر ما هي في تفصيلاتها شديدة الشبه بساحات نزاع كثيرة (سابقة، وحيّة)، من أفغانستان، إلى لبنان، فيوغسلافيا السابقة، إلى الجزائر بعشريتها السوداء، وحتى ليبيا المعاصرة.
مقاربتا موسكو ودمشق لملف الجنوب مختلفتان، وهذا يفتح الباب أمام أسئلة كثيرة: هل حاولت دمشق بالفعل فتح معركة كبرى من دون التنسيق مع موسكو؟
بطبيعة الحال، لم تولد تلك التعقيدات بصورة مفاجئة، بل تشكلت بهدوء شديد، وعلى مراحل، وبلا سلاسة، بل شابت تشكلها تحولات دراماتيكية كثيرة، خصوصًا بين معركة حلب 2016، وتوترات درعا 2021. ولفهم كثير من التعقيدات السورية الراهنة ستكون مفيدة المقارنة بين هذين المفصلين، وما آل إليه المشهد في نهاية كل منهما. في حالة حلب، لم تكن الأوضاع على الأرض تصب في مصلحة دمشق بالمطلق، بحساب مساحات السيطرة، وفارق الدعم بين الجيش السوري من جهة، والمعارضة المسلحة من جهة أخرى، وبرغم ذلك مالت الكفة في النهاية لمصلحة دمشق. لكن المشهد في درعا يبدو مختلفاً – أقله حتى الآن – وهذا يدلل في الدرجة الأولى على أن موازين المعارك في المشهد السوري ليست عسكرية بالضرورة، بل هي وبدرجة أهم سياسية.
في الشكل العام، لا أسرار كثيرة في أحداث درعا الراهنة، بل إن معظم التفاصيل سُرّبت إلى العلن وبغايات مدروسة من مختلف الأطراف، ومن أهمها تلك التفاصيل المرتبطة بالموقف الروسي المعارض لشن عملية عسكرية سورية كبرى، بل إن تسريبات (على قدر كبير من المصداقية) أشارت إلى دور أساسي لمجموعات عسكرية تنتمي إلى الفيلق الخامس (التابع نظريًا للجيش السوري)، في فرملة اقتحام درعا، وبطبيعة الحال بضوء روسي أخضر. ومن المعروف أن المجموعات المشار إليها هي في الأصل مجموعات مسلحة معارضة، لعبت دورًا محوريًّا في تسوية درعا (2018)، وعرفت تاليًا باسم فصائل المصالحة، وانضوت في «الفيلق الخامس» المحسوب على روسيا.
يدلل هذا بشكل واضح على أن مقاربتي موسكو ودمشق لملف الجنوب مختلفتان (في المرحلة الراهنة على الأقل)، ويفتح الباب أمام أسئلة كثيرة، لعل أبسطها: هل حاولت دمشق بالفعل فتح معركة كبرى من دون التنسيق مع موسكو؟ وبغض النظر عن الجواب، فالثابت يقينًا أن فتح معركة من هذا النوع ليس مستحيلًا، لكنّ مجريات تلك المعركة – كما اتضح على الأرض – لن تكون مضمونة بحال من الأحوال، وهذا كسر للقاعدة التي سادت منذ معركة حلب.
ماذا عن اللاعبين الإقليميين؟
الحديث عن اللاعبين الإقليميين في درعا (بل في الجنوب بعمومه) يعني بطبيعة الحال الحديث عن الكيان الإسرائيلي، وعن إيران، والأردن، وأيضًا، وبصورة شديدة التأثير عن الإمارات. وإذا كان الحديث عن إيران وإسرائيل بديهيًا، وكذا عن الأردن بمحاولاته المستجدة للعب دور مختلف (بحذر) عن دوره في مرحلة “الموك”، فقد يبدو الحديث عن الإمارات هنا مستغربًا، لكنه في واقع الحال ضروري وأساسي لفهم المشهد. ولتبسيط الصورة تكفي الإشارة إلى معلومة شديدة الدقة مفادها أن رواتب عناصر “فصائل المصالحة” في درعا تموّل من الإمارات، وأن الرواتب كانت قد انقطعت شهورًا متتالية من دون تبرير واضح، ثم عادت إلى التدفق قبيل التصعيد الأخير في درعا بوقت قصير.
ثمة توافق من نوع ما بين ثلاثة لاعبين أساسيين في ملف درعا: موسكو، وأبو ظبي، وعمّان، وأحد أهم حوامل هذا التوافق هي مجموعات المصالحة بقيادة أحمد العودة، ويتجاوز هذا التوافق إبقاء الوضع على ما هو عليه في درعا إلى هندسة مُناخ مواتٍ لنوع من “اللامركزية”، وضمن هذا الإطار تفيد مصادر معارضة بأن أشخاصًا مرتبطين بالعودة ويقيمون في الأردن قد نشّطوا في الآونة الأخيرة الحديث عن الحوكمة، وعن إعادة تفعيل عمل بعض منظمات المجتمع المدني، وعن انتقال محتمل لبعض المنظمات السورية من لبنان إلى الأردن. وبرغم أن تطورات الأيام الأخيرة في ملف درعا (خصوصًا الحديث عن اتفاق شبه منجز لإجلاء بعض العناصر المسلحة) قد تُقرأ على أنها تبنٍّ روسي لمطالب دمشق، وإنفاذ لرغبتها في إعادة بسط السيطرة على درعا كاملةً، فإنّ القراءة الأدق أنها “تنقية” في أوساط المجموعات المسلحة، تسمح بخروج عناصر تزاحم أحمد العودة على الهيمنة، وبشكل خاص عبد الله المسالمة (الملقب بـ”الهفو”).
“سباق اللامركزية”
بالعودة إلى سؤال “كيف ستنتهي الحرب”؟ يبرز تفصيل شديد الأهمية يرتبط بشكل الحكم المستقبلي في سوريا، وعلى نحو خاص مسألة المركزية، واللامركزية. ومن شبه المحسوم أن عودة الأمور إلى ما كانت عليه ما قبل العام 2011 من إدارة مركزية شديدة الصرامة للبلاد باتت أمرًا شبه مستحيل، لا لأنه أمر مرفوض أميركيًا، وأوروبيًا، وإسرائيليًا، بل وبشكل محوري لأنه أمر مرفوض روسيًّا، خصوصًا أن موسكو انتزعت إقرارات دولية بدورها المركزي في سوريا تأسيسًا على تعهدات مختلفة، ومن بينها تغيير شكل حوكمة البلاد في مرحلة ما بعد الحرب.
للمفارقة، فإن الميل إلى الهيمنة المركزية قد يناسب لاعبًا إقليميًا محددًا هو تركيا، التي – وبرغم ضمانها حصة وازنة من النفوذ حال إقرار أي اتفاق يُفضي إلى تركيبة لا مركزية – تظل مسكونة بالهاجس الكردي، وما قد يعنيه تحكم الإدارة الذاتية بإقليم محدد. لكن أنقرة تعي في الوقت نفسه أن بقاء شكل الحكم مركزيًا في سوريا يعني شبه استحالة لأي تغيير في شكل السلطة في دمشق. ما الطموح التركي إذًا؟ هو على الأرجح استمرار العمل مع بقية اللاعبين لتكريس بنية لامركزية، لكن بعد تغيير تركيبة القوى في الشرق السوري، وأمر كهذا لا يمكن تصور حدوثه من دون توافق شامل، أميركي، روسي، تركي، سوري، بل وإيراني، فإيران ستبقى لاعبًا مؤثرًا في ملف الشرق، (وبصورة أكثر أريحية بكثير من ملف الجنوب). وفي هذه الجزئية تحديدًا، قد يشكل الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وما تبعه من تغيرات دراماتيكية هناك عامل ضغط شديد الوطأة على قوات سوريا الديمقراطية، والإدارة الذاتية، يقودها تدريجيًا إلى تنسيق عالي المستوى مع موسكو (بقبول أميركي لا بدّ منه).
أين دمشق من كل ما سبق؟ تبدو السياسة السورية عمومًا شديدة التمسك بـ”متى” أكثر من “كيف”، وهي ما انفكت تراهن على عامل الزمن بوصفه عاملًا يصب في مصلحتها في نهاية المطاف، وأنها قادرة على لعب أوراق “الصبر الاستراتيجي” إلى أن تتغير معطيات بقية اللاعبين، لكن السؤال؛ “إلى متى” ستنجح في المضي وفق هذا التعاطي؟ لا يبدو أن الظروف ستسمح بالكثير من الوقت بالفعل.
صهيب عنجريني - الآوان
إضافة تعليق جديد